يقول تبارك وتعالى منكرا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالمدينة وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج وذلك أن الاوس والخزرج وهم الأنصار كانوا في الجاهلية عباد أصنام وكانت بينهم حروب كثيرة وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل : بنو قينقاع وبنو النضير : حلفاء الخزرج وبنو قريظة : حلفاء الأوس فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه فيقتل اليهودي أعداءه وقد يقتل اليهودي الاخر من الفريق الاخر وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم ويخرجونهم من بيوتهم وينتهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكوا الأسارى من الفريق المغلوب عملا بحكم التوراة ولهذا قال تعالى : { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } ولهذا قال تعالى : { وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم } أي لا يقتل بعضكم بعضا ولا يخرجه من منزله ولا يظاهر عليه كما قال تعالى : { فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم } وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة كما قال E [ مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ] وقوله تعالى : { ثم أقررتم وأنتم تشهدون } أي ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم } الاية قال محمد بن إسحاق بن يسار حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم } الاية قال : أنبأهم الله بذلك من فعلهم وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم وافترض عليهم فيها فداء أسراهم فكانوا فريقين : طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج والنضير وقريظة وهم حلفاء الأوس فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج وخرجت النضير وقريظة مع الأوس يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى تسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ولا يعرفون جنة ولا نارا ولا بعثا ولا قيامة ولا كتابا ولا حلالا ولا حراما فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقا لما في التوراة وأخذا به بعضهم من بعض يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم ويطلبون ما أصابوا من دمائهم وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم مظاهرة لأهل الشرك عليهم يقول الله تعالى ذكره حيث أنبأهم بذلك { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } أي تفادونهم بحكم التوراة وتقتلونهم وفي حكم التوراة أن لا يقتل ولا يخرج من داره ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض الدنيا ؟ ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج فيما بلغني نزلت هذه القصة وقال أسباط عن السدي : كانت قريظة حلفاء الأوس وكانت النضير حلفاء الخزرج فكانوا يقتتلون في حرب بينهم فتقاتل بنو قريظة مع حلفائهم النضير وحلفائهم وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها ويغلبونهم فيخربون ديارهم ويخرجونهم منها فإذا أسر رجل من الفريقين كلاهما جمعوا له حتى يفدوه فتعيرهم العرب بذلك يقولون : كيف تقاتلونهم وتفدونهم قالوا : إنا أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم قالوا فلم تقتلونهم ؟ قالوا : إنا نستحي أن تستذل حلفاؤنا فذلك حين عيرهم الله تبارك وتعالى فقال تعالى : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم } الاية وقال أسباط عن السدي عن الشعبي نزلت هذه الاية في قيس بن الخطيم { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم } الاية وقال أسباط عن السدي عن عبد خير قال : غزونا مع سليمان بن ربيعة الباهلي بلنجر فحاصرنا أهلها ففتحنا المدينة وأصبنا سبايا واشترى عبد الله بن سلام يهودية بسبعمائة فلما مر برأس الجالوت نزل به فقال له عبد الله يا رأس الجالوت هل لك في عجوز ههنا من أهل دينك تشتريها مني ؟ قال : نعم قال : أخذتها بسبعمائة درهم قال : فإني أربحك سبعمائة أخرى قال : فإني قد حلفت أن لا أنقصها من أربعة آلاف قال : لا حاجة لي فيها قال : والله لتشرينها مني أو لتكفرن بدينك الذي أنت عليه قال : ادن مني فدنا منه فقرأ في أذنه مما في التوراة : إنك لا تجد مملوكا من بني إسرائيل إلا اشتريته فأعتقه { وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم } قال : أنت عبد الله بن سلام ؟ قال : نعم : فجاء بأربعة آلاف فأخذ عبد الله ألفين ورد عليه ألفين وقال آدم بن أبي إياس في تفسيره : حدثنا أبو جعفر يعني الرازي حدثنا الربيع بن أنس أخبرنا أبو العالية : أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه العرب ولا يفادي من وقع عليه العرب فقال عبد الله : أما أنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن والذي أرشدت إليه الاية الكريمة وهذا السياق ذم اليهود في قيامهم بأمر التوارة التي يعتقدون صحتها ومخالفة شرعها مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها ولا يصدقون فيما كتموه من صفة الرسول الله صلى الله عليه وسلّم ونعته ومبعثه ومخرجه ومهاجره وغير ذلك من شؤونه التي أخبرت بها الأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام واليهود عليهم لعائن الله يتكاتمونه بينهم ولهذا قال تعالى : { فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا } أي بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره { ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب } جزاء على مخالفتهم كتاب الله الذي بأيديهم { وما الله بغافل عما تعملون * أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة } أي استحبوها على الاخرة واختاروها { فلا يخفف عنهم العذاب } أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة { ولا هم ينصرون } أي وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي ولا يجيرهم منه