يقول تعالى ممتنا على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولا من أنفسهم أي من جنسهم وعلى لغتهم كما قال إبراهيم عليه السلام : { ربنا وابعث فيهم رسولا منهم } وقال تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } وقال تعالى : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } أي منكم وبلغتكم كما قال جعفر بن أبي طالب Bه للنجاشي والمغيرة بن شعبة لرسول كسرى : إن الله بعث فينا رسولا منا نعرف نسبه وصفته ومدخله ومخرجه وصدقه وأمانته وذكر الحديث وقال سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه في قوله تعالى : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } قال : لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية وقال صلى الله عليه وسلّم [ خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح ] وقد وصل هذا من وجه آخر كما قال الحافظ أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي في كتابه الفاصل بين الراوي والواعي : حدثنا أبو أحمد يوسف بن هارون بن زياد حدثنا ابن أبي عمر حدثنا محمد بن جعفر بن محمد قال : أشهد على أبي لحدثني عن أبيه عن جده عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم [ خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي لم يمسني من سفاح الجاهلية شيء ] وقوله تعالى : { عزيز عليه ما عنتم } أي يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها ولهذا جاء في الحديث المروي من طرق عنه أنه قال : [ بعثت بالحنيفية السمحة ] وفي الصحيح [ إن هذا الدين يسر وشريعته كلها سهلة سمحة كاملة يسيرة على من يسرها الله تعالى عليه ] { حريص عليكم } أي على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم وقال الطبراني حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا سفيان بن عيينة عن فطن عن أبي الطفيل عن أبي ذر قال : تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا منه علما قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : [ ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم ] وقال الإمام أحمد : حدثنا فطن حدثنا المسعودي عن الحسن بن سعد عن عبدة الهذلي عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : [ إن الله لم يحرم حرمة إلا وقد علم أنه سيطلعها منكم مطلع ألا وإني آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار كتهافت الفراش أو الذباب ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتاه ملكان فيما يرى النائم فقعد أحدهما عند رجليه والاخر عند رأسه فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : اضرب مثل هذا ومثل أمته فقال : إن مثله ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة ولم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة فقال : أرأيتم إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء تتبعوني ؟ فقالوا : نعم قال : فانطلق بهم فأوردهم رياضا معشبة وحياضا رواء فأكلوا وشربوا وسمنوا فقال لهم : ألم ألفكم على تلك الحال فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء أن تتبعوني ؟ فقالوا بلى فقال : فإن بين أيديكم رياضا هي أعشب من هذه وحياضا هي أروى من هذه فاتبعوني فقالت طائفة صدق والله لنتبعه وقالت طائفة قد رضينا بهذا نقيم عليه وقال البزار : حدثنا سلمة بن شبيب وأحمد بن منصور قالا حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان حدثنا أبي عن عكرمة عن أبي هريرة Bه أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يستعينه في شيء قال عكرمة : أراه قال في دم فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم شيئا ثم قال : [ أحسنت إليك ] قال الأعرابي لا ولا أجملت فغضب بعض المسلمين وهموا أن يقوموا إليه فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلّم إليهم أن كفوا فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم وبلغ إلى منزله دعا الأعرابي إلى البيت فقال : [ إنك إنما جئتنا تسألنا فأعطيناك فقلت ما قلت ] فزاده رسول الله صلى الله عليه وسلّم شيئا وقال : [ أحسنت إليك ؟ ] فقال الأعرابي نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا قال النبي صلى الله عليه وسلّم : [ إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك فقلت ما قلت وفي أنفس أصحابي عليك من ذلك شيء فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب عن صدورهم ] فقال : نعم فلما جاء الأعرابي قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم [ إن صاحبكم كان جاء فسألنا فأعطيناه فقال ما قال وإنا قد دعوناه فأعطيناه فزعم أنه قد رضي كذلك يا أعرابي ؟ ] فقال الأعرابي : نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا .
فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : [ إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورا فقال لهم صاحب الناقة خلوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها وأنا أعلم بها فتوجه إليها وأخذ لها من قتام الأرض ودعاها حتى جاءت واستجابت وشد عليها رحلها وإني لو أطعتكم حيث قال ما قال لدخل النار ] رواه البزار ثم قال لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه ( قلت ) وهو ضعيف بحال إبراهيم بن الحكم بن أبان والله أعلم وقوله : { بالمؤمنين رؤوف رحيم } كقوله { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين * فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون * وتوكل على العزيز الرحيم } وهكذا أمره تعالى في هذه الاية الكريمة وهي قوله تعالى { فإن تولوا } أي تولوا عما جئتم به من الشريعة العظيمة المطهرة الكاملة الشاملة { فقل حسبي الله لا إله إلا هو } أي الله كافي لا إله إلا هو عليه توكلت كما قال تعالى : { رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا } { وهو رب العرش العظيم } أي هو مالك كل شيء وخالقه لأنه رب العرش العظيم الذي هو سقف المخلوقات وجميع الخلائق من السموات والأرضين وما فيهما وما بينهما تحت العرش مقهورون بقدرة الله تعالى وعلمه محيط بكل شيء وقدره نافذ في كل شيء وهو على كل شيء وكيل قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا بشر بن عمر حدثنا شعبة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس Bهما عن أبي بن كعب قال : آخر آية نزلت من القرآن هذه الاية { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } إلى آخر السورة وقال عبد الله بن الإمام أحمد حدثنا روح بن عبد المؤمن حدثنا عمر بن شقيق حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب Bهم أنهم جمعوا القرآن في مصاحف في خلافة أبي بكر Bه فكان رجال يكتبون ويملي عليهم أبي بن كعب فلما انتهوا إلى هذه الاية من سورة براءة { ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم } الاية فظنوا أن هذا آخر ما نزل من القرآن فقال لهم أبي بن كعب إن رسول الله A أقرأني بعدها آيتين { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } إلى آخر السورة قال هذا آخر ما نزل من القرآن فختم بما فتح به بالله الذي لا إله إلا هو وهو قول الله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وهذا غريب أيضا .
وقال أحمد حدثنا علي بن بحر حدثنا علي بن محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير Bه قال أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الايتين من آخر براءة { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } إلى عمر بن الخطاب فقال : من معك على هذا ؟ قال : لا أدري والله إني لأشهد لسمعتها من رسول الله A ووعيتها وحفظتها فقال عمر : وأنا أشهد لسمعتها من رسول الله A ثم قال : لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا سورة من القرآن فضعوها فيها فوضعوها في آخر براءة وقد تقدم الكلام أن عمر بن الخطاب هو الذي أشار على أبي بكر الصديق Bهما بجمع القرآن فأمر زيد بن ثابت فجمعه وكان عمر يحضرهم وهم يكتبون ذلك وفي الصحيح أن زيدا قال : فوجدت آخر سورة براءة مع خزيمة بن ثابت أو أبي خزيمة وقد قدمنا أن جماعة من الصحابة تذكروا ذلك عند رسول الله A كما قال خزيمة بن ثابت حين ابتدأهم بها والله أعلم وقد روى أبو داود عن يزيد بن محمد عن عبد الرزاق بن عمر ـ وقال كان من ثقات المسلمين من المتعبدين عن مدرك بن سعد قال يزيد شيخ ثقة عن يونس بن ميسرة عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال : من قال إذا أصبح وإذا أمسى : حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات إلا كفاه الله ما أهمه وقد رواه ابن عساكر في ترجمة عبد الرزاق عن عمر هذا من رواية أبي زرعة الدمشقي عنه عن أبي سعد مدرك بن أبي سعد الفزاري عن يونس بن ميسرة بن حليس عن أم الدرداء سمعت أبا الدرداء يقول : ما من عبد يقول : حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات صادقا كان بها أو كاذبا إلا كفاه الله ما أهمه وهذه زيادة غريبة ثم رواه في ترجمة عبد الرزاق أبي محمد عن أحمد بن عبد الله بن عبد الرزاق عن جده عبد الرزاق بن عمر بسنده فرفعه فذكر مثله بالزيادة وهذا منكر والله أعلم