يقول تعالى : { يسألونك عن الساعة } كما قال تعالى : { يسألك الناس عن الساعة } قيل نزلت في قريش وقيل في نفر من اليهود والأول أشبه لأن الاية مكية وكانوا يسألون عن وقت الساعة استبعادا لوقوعها وتكذيبا بوجودها كما قال تعالى : { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } وقال تعالى : { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد } .
وقوله { أيان مرساها } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : منتهاها أي متى محطها وأيان آخر مدة الدنيا الذي هو أول وقت الساعة { قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو } أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلّم إذا سئل عن وقت الساعة أن يرد علمها إلى الله تعالى فإنه هو الذي يجليها لوقتها أي يعلم جلية أمرها ومتى يكون على التحديد لا يعلم ذلك إلا هو تعالى ولهذا قال { ثقلت في السموات والأرض } قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله { ثقلت في السموات والأرض } قال : ثقل علمها على أهل السموات والأرض أنهم لا يعلمون قال معمر : قال الحسن : إذا جاءت ثقلت على أهل السموات والأرض يقول : كبرت عليهم .
وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى { ثقلت في السموات والأرض } قال ليس شيء من الخلق إلا يصيبه من ضرر يوم القيامة وقال ابن جريج { ثقلت في السموات والأرض } قال : إذا جاءت انشقت السماء وانتثرت النجوم وكورت الشمس وسيرت الجبال وكان ما قال الله D فذلك ثقلها واختار ابن جرير C أن المراد ثقل علم وقتها على أهل السموات والأرض كما قال قتادة وهو كما قالاه كقوله تعالى : { لا تأتيكم إلا بغتة } ولا ينفي ذلك ثقل مجيئها على أهل السموات والأرض والله أعلم .
وقال السدي : { ثقلت في السموات والأرض } يقول : خفيت في السموات والأرض فلا يعلم قيامها حين تقوم ملك مقرب ولا نبي مرسل { لا تأتيكم إلا بغتة } يبغتهم قيامها تأتيهم على غفلة وقال قتادة في قوله تعالى : { لا تأتيكم إلا بغتة } قضى الله أنها { لا تأتيكم إلا بغتة } قال : وذكر لنا أن نبي الله كان يقول [ إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقيم سلعته في السوق ويخفض ميزانه ويرفعه ] وقال البخاري : حدثنا أبو اليمان أنبأنا شعيب أنبأنا أبو الزناد عن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال [ لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ولتقومن الساعة والرجل قد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها ] وقال مسلم في صحيحه حدثني زهير بن حرب حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة يبلغ به قال : تقوم الساعة والرجل يحلب لقحته فما يصل الإناء إلى فيه حتى تقوم الساعة والرجلان يتبايعان الثوب فما يتبايعانه حتى تقوم الساعة والرجل يلوط حوضه فما يصدر حتى تقوم .
وقوله { يسألونك كأنك حفي عنها } اختلف المفسرون في معناه فقيل معناه كما قال العوفي عن ابن عباس { يسألونك كأنك حفي عنها } يقول : كأن بينك وبينهم مودة كأنك صديق لهم قال ابن عباس : لما سأل الناس النبي صلى الله عليه وسلّم عن الساعة سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمدا حفي بهم فأوحى الله إليه إنما علمها عنده استأثر به فلم يطلع الله عليها ملكا مقربا ولا رسولا وقال قتادة : قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلّم : إن بيننا وبينك قرابة فأسر إلينا متى الساعة ؟ فقال الله D { يسألونك كأنك حفي عنها } وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وأبي مالك والسدي وهذا قول والصحيح عن مجاهد من رواية ابن أبي نجيح وغيره { يسألونك كأنك حفي عنها } قال : استحفيت عنها السؤال حتى علمت وقتها وكذا قال الضحاك عن ابن عباس { يسألونك كأنك حفي عنها } يقول : كأنك عالم بها لست تعلمها { قل إنما علمها عند الله } .
وقال معمر عن بعضهم : { كأنك حفي عنها } كأنك عالم بها وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم { كأنك حفي عنها } كأنك بها عالم وقد أخفى الله علمها على خلقه وقرأ { إن الله عنده علم الساعة } الاية وهذا القول أرجح في المقام من الأول والله أعلم ولهذا قال { قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ولهذا لما جاء جبريل عليه السلام في صورة أعرابي ليعلم الناس أمر دينهم فجلس من رسول الله صلى الله عليه وسلّم مجلس السائل المسترشد وسأله صلى الله عليه وسلّم عن الإسلام ثم عن الإيمان ثم عن الإحسان ثم قال : فمتى الساعة ؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم [ ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ] أي لست أعلم بها منك ولا أحد بها من أحد ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلّم { إن الله عنده علم الساعة } الاية .
وفي رواية فسأله عن أشراط الساعة فبين له أشراط الساعة ثم قال [ في خمس لا يعلمهن إلا الله ] وقرأ هذه الاية وفي هذا كله يقول له بعد كل جواب : صدقت ولهذا عجب الصحابة من هذا السائل يسأله ويصدقه ثم لما انصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم [ هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ] وفي رواية قال [ وما أتاني في صورة إلا عرفته فيها إلا صورته هذه ] وقد ذكرت هذا الحديث بطرقه وألفاظه من الصحاح والحسان والمسانيد في أول شرح البخاري ولله الحمد والمنة ولما سأله ذلك الأعرابي وناداه بصوت جهوري فقال : يا محمد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم [ هاؤم ] على نحو من صوته قال : يا محمد متى الساعة ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم [ ويحك إن الساعة آتية فما أعددت لها ] قال ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام ولكنني أحب الله ورسوله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم [ المرء مع من أحب ] فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث وهذا له طرق متعددة في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال [ المرء مع من أحب ] وهي متواترة عند كثير من الحفاظ المتقنين ففيه أنه عليه السلام كان إذا سئل عن هذا الذي لا يحتاجون إلى علمه أرشدهم إلى ما هو الأهم في حقهم وهو الاستعداد لوقوع ذلك والتهيؤ له قبل نزوله وإن لم يعرفوا تعيين وقته ولهذا قال مسلم في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا : حدثنا أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة Bها قالت : كانت الأعراب إذا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم سألوه عن الساعة : متى الساعة ؟ فينظر إلى أحدث إنسان منهم فيقول [ إن يعش هذا لم يدركه الهرم حتى قامت عليكم ساعتكم ] يعني بذلك موتهم الذي يفضي بهم إلى الحصول في برزخ الدار الاخرة ثم قال مسلم : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يونس بن محمد عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رجلا سأل رسول الله A عن الساعة فقال رسول الله A [ إن يعش هذا الغلام فعسى أن لا يدركه الهرم حتى تقوم الساعة ] انفرد به مسلم .
وحدثني حجاج بن الشاعر حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد حدثنا سعيد بن أبي هلال المصري عن أنس بن مالك Bه أن رجلا سأل النبي A قال : متى الساعة ؟ فسكت رسول الله A هنيهة ثم نظر إلى غلام بين يديه من أزدشنوءة فقال [ إن عمر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة ] قال أنس : ذلك الغلام من أترابي وقال : حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا عفان بن مسلم حدثنا همام حدثنا قتادة عن أنس قال : مر غلام للمغيرة بن شعبة وكان من أترابي فقال النبي A [ إن يؤخر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة ] ورواه البخاري في كتاب الأدب من صحيحه عن عمرو بن عاصم عن همام بن يحيى عن قتادة عن أنس أن رجلا من أهل البادية قال : يا رسول الله متى الساعة ؟ فذكر الحديث وفي آخره : فمر غلام للمغيرة بن شعبة وذكره وهذا الإطلاق في هذه الرويات محمول على التقييد بساعتكم في حديث عائشة Bها .
وقال ابن جريج : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول الله A يقول قبل أن يموت بشهر [ تسألوني عن الساعة وإنما علمها عند الله وأقسم بالله ما على ظهر الأرض اليوم من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة ] رواه مسلم وفي الصحيحين عن ابن عمر مثله قال ابن عمر : وإنما أراد رسول الله A انخرام ذلك القرن وقال الإمام أحمد حدثنا هشيم أنبأنا العوام عن جبلة بن سحيم عن موثر بن عفارة عن ابن مسعود Bه عن النبي A قال [ لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى فتذاكروا أمر الساعة ـ قال ـ فردوا أمرهم إلى إبراهيم عليه السلام فقال لا علم لي بها فردوا أمرهم إلى موسى فقال لا علم لي بها فردوا أمرهم إلى عيسى فقال عيسى : أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله D وفيما عهد إلي ربي D أن الدجال خارج ـ قال ـ ومعي قضيبان فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص قال : فيهلكه الله D إذا رآني حتى إن الشجر والحجر يقول : يا مسلم إن تحتي كافرا فتعال فاقتله قال : فيهلكهم الله D ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم قال : فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيطأون بلادهم لا يأتون على شيء إلا أهلكوه ولا يمرون على ماء إلا شربوه : قال : ثم يرجع الناس إلي فيشكونهم فأدعو الله D عليهم فيهلكهم ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم أي تنتن قال : فينزل الله D المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر ] قال الإمام أحمد : قال يزيد بن هارون : ثم تنسف الجبال وتمد الأرض مد الأديم ثم رجع إلى حديث هشيم قال : ففيما عهد إلي ربي D أن ذلك إذا كان كذلك فإن الساعة كالحامل المتمم لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادتها ليلا أو نهارا ورواه ابن ماجه عن بندار عن يزيد بن هارون عن العوام بن حوشب بسنده نحوه فهؤلاء أكابر أولي العزم من المرسلين ليس عندهم علم بوقت الساعة على التعيين وإنما ردوا الأمر إلى عيسى عليه السلام فتكلم على أشراطها لأنه ينزل في آخر هذه الأمة منفذا لأحكام رسول الله A ويقتل المسيح الدجال ويجعل الله هلاك يأجوج ومأجوج ببركة دعائه فأخبر بما أعلمه الله تعالى به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن أبي بكير حدثنا عبيد بن إياد بن لقيط قال : سمعت أبي يذكر عن حذيفة قال : سئل رسول الله A عن الساعة فقال [ علمها عند ربي D لا يجليها لوقتها إلا هو ولكن سأخبركم بمشاريطها وما يكون بين يديها إن بين يديها فتنة وهرجا ] قالوا : يا رسول الله الفتنة قد عرفناها فما الهرج ؟ قال [ بلسان الحبشة القتل ] قال [ ويلقى بين الناس التناكر فلا يكاد أحد يعرف أحدا ] لم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه وقال وكيع : حدثنا ابن أبي خالد عن طارق بن شهاب قال : كان رسول الله A لا يزال يذكر من شأن الساعة حتى نزلت { يسألونك عن الساعة أيان مرساها } الاية ورواه النسائي من حديث عيسى بن يونس عن إسماعيل بن أبي خالد به وهذا إسناد جيد قوي فهذا النبي الأمي سيد الرسل وخاتمهم محمد صلوات الله عليه وسلامه نبي الرحمة ونبي التوبة ونبي الملحمة والعاقب والمقفى والحاشر الذي تحشر الناس على قدميه مع قوله فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث أنس وسهل بن سعد Bهما [ بعثت أنا والساعة كهاتين ] وقرن بين أصبعيه السبابة والتي تليها ومع هذا كله قد أمره الله أن يرد علم وقت الساعة إليه إذا سئل عنها فقال { قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون }