قد تقدم في أول سورة البقرة قوله تعالى : { يخادعون الله والذين آمنوا } وقال ههنا : { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } ولاشك أن الله لا يخادع فإنه العالم بالسرائر والضمائر ولكن المنافقين لجهلهم وقلة علمهم وعقلهم يعتقدون أن أمرهم كما راج عند الناس وجرت عليهم أحكام الشريعة ظاهرا فكذلك يكون حكمهم عند الله يوم القيامة وأن أمرهم يروج عنده كما أخبر تعالى عنهم أنهم يوم القيامة يحلفون له أنهم كانوا على الاستقامة والسداد ويعتقدون أن ذلك نافع لهم عنده كما قال تعالى : { يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم } الاية وقوله : { هو خادعهم } أي هو الذي يستدرجهم في طغيانهم وضلالهم ويخذلهم عن الحق والوصول إليه في الدنيا وكذلك يوم القيامة كما قال تعالى : { يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب * ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور * فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير } وقد ورد في الحديث [ من سمع سمع الله به ومن راءى راءى الله به ] وفي حديث آخر [ إن الله يأمر بالعبد إلى الجنة فيما يبدو للناس ويعدل به إلى النار ] عياذا بالله من ذلك .
وقوله : { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } الاية هذه صفة المنافقين في أشرف الأعمال وأفضلها وخيرها وهي الصلاة إذا قاموا إليها قاموا وهم كسالى عنها لأنهم لا نية لهم فيها ولا إيمان لهم بها ولا خشية ولا يعقلون معناها كما روى ابن مردويه من طريق عبيد الله بن زحر عن خالد بن أبي عمران عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال : يكره أن يقوم الرجل إلى الصلاة وهو كسلان ولكن يقوم إليها طلق الوجه عظيم الرغبة شديد الفرح فإنه يناجي الله وإن الله تجاهه يغفر له ويجيبه إذا دعاه ثم يتلو هذه الاية { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } وروي من غير هذا الوجه عن ابن عباس نحوه فقوله تعالى : { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } هذه صفة ظواهرهم كما قال : { ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى } ثم ذكر تعالى صفة بواطنهم الفاسدة فقال : { يراؤون الناس } أي لا إخلاص لهم ولا معاملة مع الله بل إنما يشهدون الناس تقية لهم ومصانعة ولهذا يتخلفون كثيرا عن الصلاة التي لا يرون فيها غالبا كصلاة العشاء في وقت العتمة وصلاة الصبح في وقت الغلس كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : [ أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ثم أنطلق معي برجال ومعهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار ] وفي رواية [ والذي نفسي بيده لو علم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد الصلاة ولولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقت عليهم بيوتهم ] .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي حدثنا محمد بن دينار عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : [ من أحسن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو فتلك استهانة استهان بها ربه D ] وقوله : { ولا يذكرون الله إلا قليلا } أي في صلاتهم لا يخشعون ولا يدرون ما يقولون بل هم في صلاتهم ساهون لاهون وعما يراد بهم من الخير معرضون وقد روى الإمام مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : [ تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا ] وكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث إسماعيل بن جعفر المدني عن العلاء بن عبد الرحمن به وقال الترمذي : حسن صحيح .
وقوله : { مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } يعني المنافقين محيرين بين الإيمان والكفر فلا هم مع المؤمنين ظاهرا وباطنا ولا مع الكافرين ظاهرا وباطنا بل ظواهرهم مع المؤمنين وبواطنهم مع الكافرين ومنهم من يعتريه الشك فتارة يميل إلى هؤلاء وتارة يميل إلى أولئك { كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا } الاية وقال مجاهد { مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء } يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم { ولا إلى هؤلاء } يعني اليهود وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : [ مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة ولا تدري أيتهما تتبع ] تفرد به مسلم وقد رواه عن محمد بن المثنى مرة أخرى عن عبد الوهاب فوقف به على ابن عمر ولم يرفعه قال : حدثنا به عبد الوهاب مرتين كذلك قلت وقد رواه الإمام أحمد عن إسحاق بن يوسف عن عبيد الله وكذا رواه إسماعيل بن عياش وعلي بن عاصم عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر مرفوعا وكذا رواه عثمان بن محمد بن أبي شيبة عن عبدة عن عبد الله به مرفوعا ورواه حماد بن سلمة عن عبيد الله أو عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مرفوعا وراه أيضا صخر بن جويرية عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلّم بمثله وقال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد حدثنا الهذيل بن بلال عن ابن عبيد أنه جلس ذات يوم بمكة وعبد الله بن عمر معه فقال أبي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : [ إن مثل المنافق يوم القيامة كالشاة بين الربيضين من الغنم إن أتت هؤلاء نطحتها وإن أتت هؤلاء نطحتها ] فقال له ابن عمر : كذبت فأثنى القوم على أبي خيرا أو معروفا فقال ابن عمر : ما أظن صاحبكم إلا كما تقولون ولكني شاهدي الله إذ قال : كالشاة بين الغنمين فقال : هو سواء فقال : هكذا سمعته .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد حدثنا المسعودي عن أبي جعفر محمد بن علي قال : بينما عبيد بن عمير يقص وعنده عبد الله بن عمر فقال عبيد بن عمير : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : [ مثل المنافق كالشاة بين ربيضين إذا أتت هؤلاء نطحتها وإذا أتت هؤلاء نطحتها ] فقال ابن عمير : ليس كذلك إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم [ كشاة بين غنمين ] قال : فاحتفظ الشيخ وغضب فلما رأى ذلك ابن عمر قال : أما إني لو لم أسمعه لم أردد ذلك عليك .
( طريقة أخرى عن ابن عمر ) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن عثمان بن بودويه عن يعفر بن زوذي قال : سمعت عبيد بن عمير وهو يقص يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : [ مثل المنافق كمثل الشاة الرابضة بين الغنمين ] فقال ابن عمر : ويلكم لا تكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم [ مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين ] ورواه أحمد أيضا من طرق عن عبيد بن عمير عن ابن عمر ورواه ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبيد الله بن موسى أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله هو ابن مسعود قال : مثل المؤمن والمنافق والكافر مثل ثلاثة نفر انتهوا إلى واد فوقع أحدهم فعبر ثم وقع الاخر حتى إذا أتى على نصف الوادي ناداه الذي على شفير الوادي : ويلك أين تذهب إلى الهلكة ارجع عودك على بدئك وناداه الذي عبر : هلم إلى النجاة فجعل ينظر إلى هذا مرة وإلى هذا مرة قال : فجاءه سيل فأغرقه فالذي عبر هو المؤمن والذي غرق المنافق { مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } والذي مكث الكافر .
وقال ابن جرير : حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا شعبة عن قتادة { مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } يقول : ليسوا بمؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرحين بالشرك قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلّم كان يضرب مثلا للمؤمن وللمنافق وللكافر كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر فوقع المؤمن فقطع ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ناداه الكافر أن هلم إلي فإني أخشى عليك وناداه المؤمن : أن هلم إلي فإن عندي وعندي يحظى له ما عنده فما زال المنافق يتردد بينهما حتى أتى أذى فغرقه وإن المنافق لم يزل في شك وشبهة حتى أتى عليه الموت وهو كذلك قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلّم كان يقول : [ مثل المنافق كمثل ثاغية بين غنمين رأت غنما على نشز فأتتها وشامتها فلم تعرف ثم رأت غنما على نشز فأتتها فشامتها فلم تعرف ] ولهذا قال تعالى : { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا } أي ومن صرفه عن طريق الهدى { فلن تجد له وليا مرشدا } ولا منقذ لهم مما هم فيه فإنه تعالى لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون