قال سعيد بن جبير وقتادة : كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئا فأنزل الله : { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } الاية أي الجميع فيه سواء في حكم الله تعالى يستوون في أصل الوراثة وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله لكل منهم بما يدلي به إلى الميت من قرابة أو زوجية أو ولاء فإنه لحمة كلحمة النسب وقد روى ابن مردويه من طريق ابن هراسة عن سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال : جاءت أم كجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالت : يا رسول الله إن لي ابنتين قد مات أبوهما وليس لهما شيء فأنزل الله تعالى : { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } الاية وسيأتي هذا الحديث عند آيتي الميراث بسياق آخر والله أعلم وقوله { وإذا حضر القسمة } الاية قيل : المراد وإذا حضر قسمة الميراث ذوو القربى ممن ليس بوارث { واليتامى والمساكين } فليرضخ لهم من التركة نصيب وإن ذلك كان واجبا في ابتداء الاسلام وقيل يستحب واختلفوا هل هو منسوخ أم لا على قولين فقال البخاري : حدثنا أحمد بن حميد أخبرنا عبيد الله الأشجعي عن سفيان عن الشيباني عن عكرمة عن ابن عباس : { وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين } قال : هي محكمة وليست بمنسوخة تابعه سعيد عن ابن عباس وقال ابن جرير : حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا عباد بن العوام عن الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال : هي قائمة يعمل بها وقال الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الاية قال : هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم وهكذا روي عن ابن مسعود وأبي موسى وعبد الرحمن بن أبي بكر وأبي العالية والشعبي والحسن وقال ابن سيرين وسعيد بن جبير ومكحول وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح والزهري ويحيى بن يعمر : إنها واجبة وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج عن إسماعيل ابن علية عن يونس بن عبيد عن ابن سيرين قال : ولي عبيدة وصية فأمر بشاة فذبحت فأطعم أصحاب هذه الاية وقال : لولا هذه الاية لكان هذا من مالي وقال مالك فيما يروى عنه من التفسير في جزء مجموع عن الزهري : أن عروة أعطى من مال مصعب حين قسم ماله وقال الزهري : هي محكمة وقال مالك : عن عبد الكريم عن مجاهد قال : هي حق واجب ما طابت به الأنفس .
ذكر من ذهب إلى أن ذلك أمر بالوصية لهم .
قال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج أخبرني ابن أبي مليكة : أن أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق والقاسم بن محمد أخبراه أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسم ميراث أبيه عبد الرحمن وعائشة حية قالا : فلم يدع في الدار مسكينا ولا ذا قرابة إلا أعطاه من ميراث أبيه قالا : وتلا { وإذا حضر القسمة أولو القربى } قال القاسم : فذكرت ذلك لابن عباس فقال : ما أصاب ليس ذلك له إنما ذلك إلى الوصية وإنما هذه الاية في الوصية يريد الميت يوصي لهم رواه ابن أبي حاتم .
ذكر من قال هذه الاية منسوخة بالكلية .
قال سفيان الثوري عن محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس Bهما { وإذا حضر القسمة } قال : منسوخة وقال إسماعيل بن مسلم المكي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال في هذه الاية { وإذا حضر القسمة أولو القربى } نسختها الاية التي بعدها { يوصيكم الله في أولادكم } وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في هذه الاية { وإذا حضر القسمة أولو القربى } كان ذلك قبل أن تنزل الفرائض فأنزل الله بعد ذلك الفرائض فأعطى كل ذي حق حقه فجعلت الصدقة فيما سمى المتوفى رواهن ابن مردويه وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس في قوله : { وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين } نسختها آية الميراث فجعل لكل إنسان نصيبه مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر وحدثنا أسيد بن عاصم حدثنا سعيد بن عامر عن همام حدثنا قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال : إنها منسوخة كانت قبل الفرائض كان ما ترك الرجل من مال أعطى منه اليتيم والفقير والمسكين وذوي القربى إذا حضروا القسمة ثم نسخ بعد ذلك نسختها المواريث فألحق الله بكل ذي حق حقه وصارت الوصية من ماله يوصي بها لذوي قرابته حيث شاء وقال مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب : هي منسوخة نسختها المواريث والوصية وهكذا روي عن عكرمة وأبي الشعثاء والقاسم بن محمد وأبي صالح وأبي مالك وزيد بن أسلم والضحاك وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان وربيعة بن أبي عبد الرحمن أنهم قالوا : إنها منسوخة وهذا مذهب جمهور الفقهاء والأئمة الأربعة وأصحابهم وقد اختار ابن جرير ههنا قولا غريبا جدا وحاصله أن معنى الاية عنده { وإذا حضر القسمة } أي وإذا حضر قسمة مال الوصية أولو قرابة الميت { فارزقوهم منه وقولوا } لليتامى والمساكين إذا حضروا { قولا معروفا } هذا مضمون ما حاوله بعد طول العبارة والتكرار وفيه نظر والله أعلم وقال العوفي عن ابن عباس { وإذا حضر القسمة } هي قسمة الميراث وهكذا قال غير واحد والمعنى على هذا لا على ما سلكه ابن جرير C بل المعنى أنه إذا حضر هؤلاء الفقراء من القرابة الذين لا يرثون واليتامى والمساكين قسمة مال جزيل فإن أنفسهم تتوق إلى شيء منه إذا رأوا هذا يأخذ وهذا يأخذ وهم يائسون لا شيء يعطونه فأمر الله تعالى وهو الرؤوف الرحيم أن يرضخ لهم شيء من الوسط يكون برا بهم وصدقة عليهم وإحسانا إليهم وجبرا لكسرهم كما قال الله تعالى : { كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده } وذم الذين ينقلون المال خفية خشية أن يطلع عليهم المحاويج وذوو الفاقة كما أخبر عن أصحاب الجنة { إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين } أي بليل وقال { فانطلقوا وهم يتخافتون * أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين } فـ { دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها } فمن جحد حق الله عليه عاقبه في أعز ما يملكه ولهذا جاء في الحديث [ ما خالطت الصدقة مالا إلا أفسدته ] أي منعها يكون سبب محق ذلك المال بالكلية وقوله تعالى : { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم } الاية قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هذا في الرجل يحضره الموت فيسمعه رجل يوصي بوصية تضر بورثته فأمر الله تعالى الذي يسمعه أن يتقي الله ويوفقه ويسدده للصواب فينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم الضيعة وهكذا قال مجاهد وغير واحد وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما دخل على سعد بن أبي وقاص يعوده قال : يا رسول الله إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال [ لا ] قال : فالشطر ؟ قال [ لا ] قال : فالثلث ؟ قال : [ الثلث والثلث كثير ] ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم [ إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ] وفي الصحيح عن ابن عباس قال : لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال [ الثلث والثلث كثير ] قال الفقهاء : إن كان ورثة الميت أغنياء استحب للميت أن يستوفي في وصيته الثلث وإن كانوا فقراء استحب أن ينقص الثلث وقيل : المراد بالاية فليتقوا الله في مباشرة أموال اليتامى { ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا } حكاه ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس وهو قول حسن يتأيد بما بعده من التهديد في أكل أموال اليتامى ظلما أي كما تحب أن تعامل ذريتك من بعدك فعامل الناس في ذراريهم إذا وليتهم ثم أعلمهم أن من أكل أموال اليتامى ظلما فإنما يأكل في بطنه نارا ولهذا قال { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا } أي إذا أكلوا أموال اليتامى بلا سبب فإنما يأكلون نارا تتأجج في بطونهم يوم القيامة وفي الصحيحين من حديث سليمان بن بلال عن ثور بن زيد عن سالم أبي الغيث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : [ اجتنبوا السبع الموبقات ] قيل : يا رسول الله وما هن ؟ قال : [ الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الؤمنات الغافلات ] وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبيدة أخبرنا أبو عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد العمي حدثنا أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال : قلنا : يا رسول الله ما رأيت ليلة أسري بك ؟ قال [ انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير رجال كل رجل منهم له مشفران كمشفري البعير وهو موكل بهم رجال يفكون لحاء أحدهم ثم يجاء بصخرة من نار فتقذف في في أحدهم حتى يخرج من أسفله ولهم جوار وصراخ قلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ] وقال السدي : يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومن مسامعه وأنفه وعينيه يعرفه كل من رآه بأكل مال اليتيم وقال ابن مردويه : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد حدثنا أحمد بن عمرو حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا يونس بن بكير حدثنا زياد بن المنذر عن نافع بن الحارث عن أبي برزة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال [ يبعث يوم القيامة القوم من قبورهم تأجج أفواههم نارا قيل : يا رسول الله من هم ؟ قال : ألم تر أن الله قال { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } الاية ] رواه ابن أبي حاتم عن أبي زرعة عن عقبة بن مكرم وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن أحمد بن علي بن المثنى عن عقبة بن مكرم وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا أحمد بن عصام حدثنا أبو عامر العبدي حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري عن عثمان بن محمد عن المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم [ أحرج مال الضعيفين المرأة واليتيم ] أي أوصيكم باجتناب مالهما وتقدم في سورة البقرة من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس Bهما قال : لما نزلت { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } الاية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فأنزل الله { ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير } الاية قال : فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم