يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بتقواه ناهيا لهم عما يقربهم إلى سخطه ويبعدهم عن رضاه فقال { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } أي خافوه وراقبوه فيما تفعلون { وذروا ما بقي من الربا } أي اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رؤوس الأموال بعد هذا الإنذار { إن كنتم مؤمنين } أي بما شرع الله لكم من تحليل البيع وتحريم الربا وغير ذلك وقد ذكر زيد بن أسلم وابن جريج ومقاتل بن حيان والسدي أن هذا السياق نزل في بني عمرو بن عمير من ثقيف وبني المغيرة من بني مخزوم كان بينهم ربا في الجاهلية فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه طلبت ثقيف أن تأخذه منهم فتشاورا وقالت بني المغيرة لا نؤدي الربا في الإسلام بكسب الإسلام فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الاية فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم إليه { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } فقالوا نتوب إلى الله ونذر ما بقي من الربا فتركوه كلهم وهذا تهديد ووعيد أكيد لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار قال ابن جريج : قال ابن عباس : { فأذنوا بحرب } أي استيقنوا بحرب من الله ورسوله وتقدم من رواية ربيعة بن كلثوم عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : يقال يوم القيامة لاكل الربا : خذ سلاحك للحرب ثم قرأ { فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } فمن كان مقيما على الربا لا ينزع عنه كان حقا على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الأعلى حدثنا هشام بن حسان عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا : والله إن هؤلاء الصيارفة لأكلة الربا وإنهم قد أذنوا بحرب من الله ورسوله ولو كان على الناس إمام عادل لاستتابهم فإن تابوا وإلا وضع فيه السلاح وقال قتادة : أوعدهم الله بالقتل كما يسمعون وجعلهم بهرجا أين ما أتوا فإياكم ومخالطة هذه البيوع من الربا فإن الله قد أوسع الحلال وأطابه فلا يلجئنكم إلى معصيته فاقة رواه ابن أبي حاتم وقال الربيع بن أنس : أوعد الله آكل الربا بالقتل رواه ابن جرير وقال السهيلي : ولهذا قالت عائشة لأم محبة مولاة زيد بن أرقم في مسألة العينة : أخبريه أن جهاده مع النبي صلى الله عليه وسلّم قد بطل إلا أن يتوب فخصت الجهاد لأنه ضد قوله : { فأذنوا بحرب من الله ورسوله } قال : وهذا المعنى ذكره كثير قال : ولكن هذا إسناده إلى عائشة ضعيف .
ـ ثم قال تعالى : { وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون } أي بأخذ الزيادة { ولا تظلمون } أي بوضع رؤوس الأموال أيضا بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن الحسين بن أشكاب حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان عن شبيب بن غرقدة المبارقي عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حجة الوداع فقال [ ألا إن كل ربا كان في الجاهلية موضوع عنكم كله لكم رؤس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله ] وكذا وجده سليمان بن الأحوص وقال ابن مردويه : حدثنا الشافعي حدثنا معاذ بن المثنى أخبرنا مسدد أخبرنا أبو الأحوص حدثنا شبيب بن غرقدة عن سليمان بن عمرو عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول [ ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ] وكذا رواه من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي حمزة الرقاشي عن عمر وهو ابن خارجة فذكره .
وقوله { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون } يأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء فقال { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين : إما أن تقضي وإما أن تربي ثم يندب إلى الوضع عنه ويعد على ذلك الخير والثواب الجزيل فقال : { وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون } أي وأن تتركوا رأس المال بالكلية وتضعوه عن المدين وقد وردت الأحاديث من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلّم بذلك .
( فالحديث الأول ) عن أبي أمامة أسعد بن زرارة قال الطبراني : حدثنا عبد الله بن محمد بن شعيب الرجاني حدثنا يحيى بن حكيم المقوم حدثنا محمد بن بكر البرساني حدثنا عبد الله بن أبي زياد حدثني عاصم بن عبيد الله عن أبي أمامة أسعد بن زرارة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : [ من سره أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله فلييسر على معسر أو ليضع عنه ] .
( حديث آخر ) عن بريدة قال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا عبد الوارث حدثنا محمد بن جحادة عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يقول [ من أنظر معسرا فله بكل يوم مثله صدقة ] قال : ثم سمعته يقول : [ من أنظر معسرا فله بكل يوم مثلاه صدقة ] قلت : سمعتك يا رسول الله تقول [ من أنظر معسرا فله بكل يوم مثله صدقة ] ثم سمعتك تقول [ من أنظر معسرا فله بكل يوم مثلاه صدقة ] قال : [ له لكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين فإذا حل الدين فأنظره فله بكل يوم مثلاه صدقة ] .
( حديث آخر ) عن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري قال أحمد : حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا أبو جعفر الخطمي عن محمد بن كعب القرظي أن أبا قتادة كان له دين على رجل وكان يأتيه يتقاضاه فيختبئ منه فجاء ذات يوم فخرج صبي فسأله عنه فقال : نعم هو في البيت يأكل خزيرة فناداه فقال : يا فلان اخرج فقد أخبرت أنك هاهنا فخرج إليه فقال : ما يغيبك عني ؟ فقال إني معسر وليس عندي شيء قال : آلله أنك معسر ؟ قال : نعم فبكى أبو قتادة ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول [ من نفس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة ] ورواه مسلم في صحيحه .
( حديث آخر ) عن حذيفة بن اليمان قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا الأخنس أحمد بن عمران حدثنا محمد بن فضيل حدثنا أبو مالك الأشجعي عن ربعي بن خراش عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : [ أتى الله بعبد من عبيده يوم القيامة قال : ماذا عملت في الدنيا ؟ فقال : ما عملت لك يا رب مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها ـ قالها ثلاث مرات ـ قال العبد عند آخرها : يا رب إنك كنت أعطيتني فضل مال وكنت رجلا أبايع الناس وكان من خلقي الجواز فكنت أيسر على الموسر وأنظر المعسر قال : فيقول الله D : أنا أحق من ييسر ادخل الجنة ] وقد أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه من طرق عن ربعي بن حراش عن حذيفة زاد مسلم وعقبة بن عامر وأبي مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه وسلّم بنحوه ولفظ البخاري : حدثنا هشام بن عمار حدثنا يحيى بن حمزة حدثنا الزهري عن عبد الله بن عبد الله أنه سمع أبا هريرة Bه عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : [ كان تاجر يداين الناس فإذا رأى معسرا قال لفتيانه : تجاوزا عنه لعل الله يتجاوز عنا فتجاوز الله عنه ] .
( حديث آخر ) عن سهل بن حنيف قال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك حدثنا عمرو بن ثابت حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل عن عبد الله بن سهل بن حنيف أن سهلا حدثه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : [ من أعان مجاهدا في سبيل الله أو غازيا أو غارما في عسرته أو مكاتبا في رقبته أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ] ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
( حديث آخر ) عن عبد الله بن عمر قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبيد عن يوسف بن صهيب عن زيد العمي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : [ من أراد أن تستجاب دعوته وأن تكشف كربته فليفرج عن معسر ] انفرد به أحمد .
( حديث آخر ) عن أبي مسعود عقبة بن عمرو قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا أبو مالك عن ربعي بن حراش عن حذيفة أن رجلا أتى به الله D فقال : ماذا عملت في الدنيا ؟ فقال له الرجل : ما عملت مثقال ذرة من خير فقال ثلاثا وقال في الثالثة : إني كنت أعطيتني فضلا من المال في الدنيا فكنت أبايع الناس فكنت أيسر على الموسر وأنظر المعسر فقال تبارك وتعالى : نحن أولى بذلك منك تجاوزا عن عبدي فغفر له قال أبو مسعود : هكذا سمعت من النبي A وهكذا رواه مسلم من حديث أبي مالك سعد بن طارق به .
( حديث آخر ) عن عمران بن حصين قال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر أخبرنا أبو بكر عن الأعمش عن أبي دواد عن عمران بن حصين قال قال : رسول الله A : [ من كان له على رجل حق فأخره كان له بكل يوم صدقة ] غريب من هذا الوجه وقد تقدم عن بريدة نحوه .
( حديث آخر ) عن أبي اليسر كعب بن عمرو قال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا زائدة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي قال : حدثنا أبو اليسر أن رسول الله A قال [ من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله D في ظله يوم لا ظل إلا ظله ] وقد أخرجه مسلم في صحيحه ومن وجه آخر من حديث عباد بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال : خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله A ومعه غلام له معه ضمامة من صحف وعلى أبي اليسر بردة ومعافري وعلى غلامة بردة ومعافري فقال له أبي : يا عم إني أرى في وجهك سفعة من غضب قال : أجل كان لي على فلان بن فلان ـ الحرامي ـ مال فأتيت أهله فسلمت فقلت : أثم هو ؟ قالوا : لا فخرج علي ابن له جفر فقلت : أين أبوك ؟ فقال : سمع صوتك فدخل أريكة أمي فقلت : اخرج إلي فقد علمت أين أنت فخرج فقلت ما حملك على أن اختبأت مني ؟ قال : أنا والله أحدثك ثم لا أكذبك خشيت والله أن أحدثك فأكذبك أو أعدك فأخلفك وكنت صاحب رسول الله A وكنت والله معسرا قال : قلت : آلله قال : قلت : آلله ؟ قال : الله ثم قال : فأتى بصحيفته فمحاها بيده ثم قال : فإن وجدت قضاء فاقضني وإلا فأنت في حل فأشهد بصر عيناي هاتان ـ ووضع أصبعيه على عينيه ـ وسمع أذناي هاتان ووعاه قلبي ـ وأشار إلى نياط قلبه رسول الله A وهو يقول : من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله وذكر تمام الحديث .
( حديث آخر ) عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان قال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثني أبو يحيى البزاز محمد بن عبد الرحمن حدثنا الحسن بن أسد بن سالم الكوفي حدثنا العباس بن الفضل الأنصاري عن هشام بن زياد القرشي عن أبيه عن محجن مولى عثمان عن عثمان قال : سمعت رسول الله A يقول [ أظل الله عينا في ظله يوم لا ظل إلا ظله من أنظر معسرا أو ترك لغارم ] .
( حديث آخر ) عن ابن عباس قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد حدثنا نوح بن جعونة السلمي الخراساني عن مقاتل بن حيان عن عطاء عن ابن عباس قال خرج رسول الله A إلى المسجد وهو يقول بيده : هكذا وأومأ عبد الرحمن بيده إلى الأرض [ من أنظر معسرا أو وضع عنه وقاه الله من فيح جهنم ألا إن عمل الجنة حزن بربوة ـ ثلاثا ـ ألا إن عمل النار سهل بسهوة والسعيد من وقي الفتن وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيمانا ] تفرد به أحمد .
( طريق آخر ) قال الطبراني : حدثنا أحمد بن محمد البوراني قاضي الحديبية من ديار ربيعة حدثنا الحسن بن علي الصدائي حدثنا الحكم بن الجارود حدثنا ابن أبي المتئد خال ابن عيينة عن أبيه عن عطاء عن ابن عباس قال : رسول الله A [ من أنظر معسرا إلى ميسرته أنظره الله بذنبه إلى توبته ] .
ثم قال تعالى يعظ عباده ويذكرهم زوال الدنيا وفناء ما فيها من الأموال وغيرها وإتيان الاخرة والرجوع إليه تعالى ومحاسبته تعالى خلقه على ما عملوا ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر ويحذرهم عقوبته فقال : { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } وقد روي أن هذه الاية آخر آية نزلت من القرآن العظيم فقال ابن لهيعة : حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال : آخر ما نزل من القرآن كله { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } وعاش النبي A بعد نزول هذه الاية تسع ليال ثم مات يوم الإثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول رواه ابن أبي حاتم وقد رواه ابن مردويه من حديث المسعودي عن حبيب ابن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : آخر آية نزلت { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله } وقد رواه النسائي من حديث يزيد النحوي عن عكرمة عن عبد الله بن عباس قال : آخر شيء نزل من القرآن { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } وكذا رواه الضحاك والعوفي عن ابن عباس وروى الثوري عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : آخر آية نزلت { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله } فكان بين نزولها وموت النبي A واحد وثلاثون يوما وقال ابن جريج : يقولون : إن النبي A عاش بعدها تسع ليال وبدء يوم السبت ومات يوم الإثنين رواه ابن جرير ورواه ابن عطية عن أبي سعيد قال آخر آية نزلت { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون }