يخبر تعالى عما أرصده للكافرين من خلقه به من السلاسل والأغلال والسعير وهو اللهب والحريق في نار جهنم كما قال تعالى : { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون * في الحميم ثم في النار يسجرون } ولما ذكر ما أعده لهؤلاء الأشقياء من السعير قال بعده : { إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا } وقد علم ما في الكافور من التبريد والرائحة الطيبة مع ما يضاف إلى ذلك من اللذاذة في الجنة قال الحسن : برد الكافور في طيب الزنجبيل ولهذا قال : { عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا } أي هذا الذي مزج لهؤلاء الأبرار من الكافور هو عين يشرب بها المقربون من عباد الله صرفا بلا مزج ويروون بها ولهذا ضمن يشرب معنى يروى حتى عداه بالباء ونصب عينا على التمييز قال بعضهم : هذا الشراب في طيبه كالكافور وقال بعضهم : هو من عين كافور وقال بعضهم : يجوز أن يكون منصوبا بيشرب حكى هذه الأقوال الثلاثة ابن جرير وقوله تعالى : { يفجرونها تفجيرا } أي يتصرفون فيها حيث شاؤوا وأين شاؤوا من قصورهم ودورهم ومجالسهم ومحالهم والتفجير هو الإنباع كما قال تعالى : { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا } وقال { وفجرنا خلالهما نهرا } .
وقال مجاهد : { يفجرونها تفجيرا } يقودونها حيث شاؤوا وكذا قال عكرمة وقتادة وقال الثوري يصرفونها حيث شاؤوا وقوله تعالى : { يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا } أي يتعبدون لله فيما أوجبه عليهم من فعل الطاعات الواجبة بأصل الشرع وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر قال الإمام مالك عن طلحة بن عبد الملك الأيلي عن القاسم بن مالك عن عائشة Bها [ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ] رواه البخاري من حديث مالك ويتركون المحرمات التي نهاهم عنها خيفة من سوء الحساب يوم المعاد وهو اليوم الذي شره مستطير أي منتشر عام على الناس إلا من رحم الله قال ابن عباس : فاشيا وقال قتادة : استطار والله شر ذلك اليوم حتى ملأ السموات والأرض وقال ابن جرير : ومنه قولهم : استطار الصدع في الزجاجة واستطال ومنه قول الأعشى : .
( فبانت وقد أسأت في الفؤا ... د صدعا على نأيها مستطيرا ) .
يعني ممتدا فاشيا وقوله تعالى : { ويطعمون الطعام على حبه } قيل على حب الله تعالى وجعلوا الضمير عائدا إلى الله D لدلالة السياق عليه والأظهر أن الضمير عائد على الطعام أي ويطعمون الطعام في حال محبتهم وشهوتهم له قاله مجاهد ومقاتل واختاره ابن جرير كقوله تعالى : { وآتى المال على حبه } وكقوله تعالى : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وروى البيهقي من طريق الأعمش عن نافع قال : مرض ابن عمر فاشتهى عنبا أول ما جاء العنب فأرسلت صفية يعني امرأته فاشترت عنقودا بدرهم فاتبع الرسول سائل فلما دخل به قال السائل : السائل فقال ابن عمر : أعطوه إياه فأعطوه إياه فأرسلت بدرهم آخر فاشترت عنقودا فاتبع الرسول السائل فلما دخل قال السائل : السائل فقال ابن عمر : أعطوه إياه فأعطوه إياه فأرسلت صفية إلى السائل فقالت والله إن عدت لا تصيب منه خيرا أبدا ثم أرسلت بدرهم آخر فاشترت به وفي الصحيح [ أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر ] أي في حال محبتك للمال وحرصك عليه وحاجتك إليه ولهذا قال تعالى : { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا } أما المسكين واليتيم فقد تقدم بيانهما وصفتهما وأما الأسير فقال سعيد بن جبير والحسن والضحاك : الأسير من أهل القبلة وقال ابن عباس : كان أسراؤهم يومئذ مشركين ويشهد لهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء وقال عكرمة : هم العبيد واختاره ابن جرير لعموم الاية للمسلم والمشرك وهكذا قال سعيد بن جبير وعطاء والحسن وقتادة وقد وصى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالإحسان إلى الأرقاء في غير ما حديث وحتى أنه كان آخر ما أوصى أن جعل يقول : [ الصلاة وما ملكت أيمانكم ] قال مجاهد : هو المحبوس أي يطعمون الطعام لهؤلاء وهم يشتهونه ويحبونه قائلين بلسان الحال { إنما نطعمكم لوجه الله } أي رجاء ثواب الله ورضاه { لا نريد منكم جزاء ولا شكورا } أي لا نطلب منكم مجازاة تكافئوننا بها ولا أن تشكرونا عند الناس .
قال مجاهد وسعيد بن جبير : أما والله ما قالوه بألسنتهم ولكن علم الله به من قلوبهم فأثنى عليهم به ليرغب في ذلك راغب { إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا } أي إنما نفعل هذا لعل الله أن يرحمنا ويتلقانا بلطفه في اليوم العبوس القمطرير قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : عبوسا ضيقا قمطريرا طويلا وقال عكرمة وغيره عنه في قوله { يوما عبوسا قمطريرا } قال : يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران وقال مجاهد { عبوسا } العابس الشفتين { قمطريرا } قال : يقبض الوجه بالبسور وقال سعيد بن جبير وقتادة : تعبس فيه الوجوه من الهول قمطريرا تقليص الجبين وما بين العينين من الهول وقال ابن زيد العبوس الشر والقمطرير الشديد وأوضح العبارات وأجلاها وأحلاها وأعلاها وأولاها قول ابن عباس Bه قال ابن جرير : والقمطرير هو الشديد يقال : هو يوم قمطرير ويوم قماطر ويوم عصيب وعصبصب وقد اقمطر اليوم يقمطر اقمطرارا وذلك أشد الأيام وأطولها في البلاء والشدة ومنه قول بعضهم : .
( بني عمنا هل تذكرون بلاءنا ؟ ... عليكم إذا ما كان يوم قماطر ) .
قال الله تعالى : { فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا } وهذا من باب التجانس البليغ { فوقاهم الله شر ذلك اليوم } أي آمنهم مما خافوا منه { ولقاهم نضرة } أي في وجوههم { وسرورا } أي في قلوبهم قاله الحسن البصري وقتادة وأبو العالية والربيع بن أنس وهذه كقوله تعالى : { وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة } وذلك أن القلب إذا سر استنار الوجه قال كعب بن مالك في حديثه الطويل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا سراستنار وجهه حتى كأنه فلقة قمر وقالت عائشة رضي لله عنها : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلّم مسرورا تبرق أسارير وجهه الحديث وقوله تعالى : { وجزاهم بما صبروا } أي بسبب صبرهم أعطاهم ونولهم وبوأهم جنة وحريرا أي منزلا رحبا وعيشا رغيدا ولباسا حسنا وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة هشام بن سليمان الداراني قال : قرىء على أبي سليمان الداراني سورة { هل أتى على الإنسان ؟ } فلما بلغ القارىء إلى قوله تعالى : { وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا } قال : بما صبروا على ترك الشهوات في الدنيا ثم أنشد يقول : .
( كم قتيل بشهوة وأسير ... أف من مشتهى خلاف الجميل ) .
( شهوات الإنسان تورثه الذل ... وتلقيه في البلاء الطويل )