يقول تعالى مخبرا عن الجن أنهم قالوا مخبرين عن أنفسهم { وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك } أي غير ذلك { كنا طرائق قددا } أي طرائق متعددة مختلفة وآراء متفرقة قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد { كنا طرائق قددا } أي منا المؤمن ومنا الكافر وقال أحمد بن سليمان النجاد في أماليه : حدثنا أسلم بن سهل بحشل حدثنا علي بن الحسن بن سليمان وهو أبو الشعثاء الحضرمي شيخ مسلم حدثنا أبو معاوية قال : سمعت الأعمش يقول تروح إلينا جني فقلت له : ما أحب الطعام إليكم ؟ فقال الأرز قال : فأتيناهم به فجعلت أرى اللقم ترفع ولا أرى أحدا فقلت فيكم من هذه الأهواء التي فينا ؟ قال : نعم فقلت فما الرافضة فيكم ؟ قال : شرنا عرضت هذا الإسناد على شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزني فقال هذا إسناد صحيح إلى الأعمش وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة العباس بن أحمد الدمشقي قال : سمعت بعض الجن وأنا في منزل لي بالليل ينشد : .
( قلوب براها الحب حتى تعلقت ... مذاهبها في كل غرب وشارق ) .
( تهيم بحب الله والله ربها ... معلقة بالله دون الخلائق ) .
وقوله تعالى : { وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا } أي نعلم أن قدرة الله حاكمة علينا وأنا لا نعجزه في الأرض ولو أمعنا في الهرب فإنه علينا قادر لا يعجزه أحد منا { وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به } يفتخرون بذلك وهو مفخر لهم وشرف رفيع وصفة حسنة وقولهم { فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا } قال ابن عباس وقتادة وغيرهما : فلا يخاف أن ينقص من حسناته أو يحمل عليه غير سيئاته كما قال تعالى : { فلا يخاف ظلما ولا هضما } { وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون } أي منا المسلم ومنا القاسط وهو الجائر عن الحق الناكب عنه بخلاف المقسط فإنه العادل { فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا } أي طلبوا لأنفسهم النجاة { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا } أي وقودا تسعر بهم .
وقوله تعالى : { وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا * لنفتنهم فيه } اختلف المفسرون في معنى هذا على قولين : ( أحدهما ) وأن لو استقام القاسطون على طريقة الإسلام وعدلوا إليها واستمروا عليها { لأسقيناهم ماء غدقا } أي كثيرا والمراد بذلك سعة الرزق كقوله تعالى : { ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } وكقوله تعالى : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } وعلى هذا يكون معنى قوله : { لنفتنهم فيه } أي لنختبرهم كما قال مالك عن زيد بن أسلم : لنفتنهم لنبتليهم من يستمر على الهداية ممن يرتد إلى الغواية .
( ذكر من قال بهذا القول ) قال العوفي عن ابن عباس : { وألو استقاموا على الطريقة } يعني بالاستقامة الطاعة وقال مجاهد { وألو استقاموا على الطريقة } قال : الإسلام وكذا قال سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وعطاء والسدي ومحمد بن كعب القرظي وقال قتادة { وألو استقاموا على الطريقة } يقول : لو آمنوا كلهم لأوسعنا عليهم من الدنيا وقال مجاهد : { وألو استقاموا على الطريقة } أي : طريقة الحق وكذا قال الضحاك واستشهد على ذلك بالايتين اللتين ذكرناهما وكل هؤلاء أو أكثرهم قالوا في قوله : { لنفتنهم فيه } أي لنبتليهم به وقال مقاتل : نزلت في كفار قريش حين منعوا المطر سبع سنين .
( والقول الثاني ) { وألو استقاموا على الطريقة } الضلال { لأسقيناهم ماء غدقا } أي لأوسعنا عليهم الرزق استدراجا كما قال تعالى : { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } وكقوله : { أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون } وهذا قول أبي مجلز لاحق بن حميد فإنه قال في قوله تعالى : { وألو استقاموا على الطريقة } أي طريقة الضلالة رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وحكاه البغوي عن الربيع بن أنس وزيد بن أسلم والكلبي وابن كيسان وله اتجاه ويتأيد بقوله لنفتنهم فيه وقوله : { ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا } أي عذابا مشقا شديدا موجعا مؤلما قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة وابن زيد : { عذابا صعدا } أي مشقة لا راحة معها وعن ابن عباس : جبل في جهنم وعن سعيد بن جبير : بئر فيها