يقول تعالى ذاما لمن تولى عن طاعة الله : { فلا صدق ولا صلى * ولكن كذب وتولى } { وأعطى قليلا وأكدى } قال ابن عباس : أطاع قليلا ثم قطعه وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة وغير واحد قال عكرمة وسعيد : كمثل القوم إذا كانوا يحفرون بئرا فيجدون في أثناء الحفر صخرة تمنعهم من تمام العمل فيقولون أكدينا ويتركون العمل .
وقوله تعالى : { أعنده علم الغيب فهو يرى } أي أعند هذا الذي قد أمسك يده خشية الإنفاق وقطع معروفه أعنده علم الغيب أنه سينفد ما في يده حتى قد أمسك عن معروفه فهو يرى ذلك عيانا ؟ أي ليس الأمر كذلك وإنما أمسك عن الصدقة والمعروف والبر والصلة بخلا وشحا وهلعا ولهذا جاء في الحديث [ أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا ] وقد قال الله تعالى { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين } .
وقوله تعالى : { أم لم ينبأ بما في صحف موسى * وإبراهيم الذي وفى ؟ } قال سعيد بن جبير والثوري : أي بلغ جميع ما أمر به وقال ابن عباس { وفى } لله بالبلاغ وقال سعيد بن جبير { وفى } ما أمر به وقال قتادة { وفى } طاعة الله وأدى رسالته إلى خلقه وهذا القول هو اختيار ابن جرير وهو يشمل الذي قبله ويشهد له قوله تعالى : { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما } فقام بجميع الأوامر وترك جميع النواهي وبلغ الرسالة على التمام والكمال فاستحق بهذا أن يكون للناس إماما يقتدى به في جميع أحواله وأقواله وأفعاله قال الله تعالى : { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف الحمصي حدثنا آدم بن أبي إياس العسقلاني حدثنا حماد بن سلمة حدثنا جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم هذه الاية { وإبراهيم الذي وفى } قال [ أتدري ما وفى ؟ ] قلت : الله ورسوله أعلم قال [ وفى عمل يومه بأربع ركعات من أول النهار ] ورواه ابن جرير من حديث جعفر بن الزبير وهو ضعيف .
وقال الترمذي في جامعه : حدثنا أبو جعفر السمناني حدثنا أبو مسهر حدثنا إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء وأبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الله D أنه قال : [ ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره ] قال ابن أبي حاتم C : وحدثنا أبي حدثنا الربيع بن سليمان حدثنا أسد بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا زبان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : [ ألا أخبركم لم سمى الله تعالى إبراهيم خليله الذي وفى ؟ إنه كان يقول كلما أصبح وأمسى : { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون } حتى ختم الاية ] .
ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن رشدين بن سعد عن زبان به ثم شرع تعالى يبين ما كان أوحاه في صحف إبراهيم وموسى فقال : { ألا تزر وازرة وزر أخرى } أي كل نفس ظلمت نفسها بكفر أو شيء من الذنوب فإنما عليها وزرها لا يحمله عنها أحد كما قال : { وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى } { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } أي كما لا يحمل عليه وزر غيره كذلك لا يحصل من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه ومن هذه الاية الكريمة استنبط الشافعي C ومن اتبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمته ولا حثهم عليه ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة Bهم ولو كان خيرا لسبقونا إليه وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والاراء فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما .
وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : [ إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : من ولد صالح يدعو له أو صدقة جارية من بعده أو علم ينتفع به ] فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وكده وعمله كما جاء في الحديث [ إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه ] والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من آثار عمله ووقفه وقد قال تعالى : { إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم } الاية والعلم الذي نشره في الناس فاقتدى به الناس بعده هو أيضا من سعيه وعمله وثبت في الصحيح [ من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ] وقوله تعالى : { وأن سعيه سوف يرى } أي يوم القيامة كقوله تعالى : { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون } أي فيخبركم به ويجزيكم عليه أتم الجزاء إن خيرا فخير وإن شرا فشر وهكذا قال ههنا : { ثم يجزاه الجزاء الأوفى } أي الأوفر