بين تبارك وتعالى أنه الإله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا نظير له ولا شريك له بل هو المستقل بالأمر وحده من غير مشارك ولا منازع ولا معارض فقال : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله } أي من الالهة التي عبدت من دونه { لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض } كما قال تبارك وتعالى : { والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير } وقوله تعالى : { وما لهم فيهما من شرك } أي لا يملكون شيئا استقلالا ولا على سبيل الشركة { وما له منهم من ظهير } أي وليس لله من هذه الأنداد من ظهير يستظهر به في الأمور بل الخلق كلهم فقراء إليه عبيد لديه قال قتادة في قوله D : { وما له منهم من ظهير } من عون يعينه بشيء .
ثم قال تعالى : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } أي لعظمته وجلاله وكبريائه لا يجترىء أحد أن يشفع عنده تعالى في شيء إلا بعد إذنه له في الشفاعة كما قال D : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وقال جل وعلا : { وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } وقال تعالى : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون } ولهذا ثبت في الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو سيد ولد آدم وأكبر شفيع عند الله تعالى أنه حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلهم أن يأتي ربهم لفصل القضاء قال : [ فأسجد لله تعالى فيدعني ما شاء الله أن يدعني ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الان ثم يقال : يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع ] الحديث بتمامه .
وقوله تعالى : { حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق } وهذا أيضا مقام رفيع في العظمة وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي فسمع أهل السموات كلامه أرعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي قاله ابن مسعود Bه ومسروق وغيرهما { حتى إذا فزع عن قلوبهم } أي زال الفزع عنها قال ابن عباس وابن عمر Bهم و أبو عبد الرحمن السلمي والشعبي وإبراهيم النخعي والضحاك والحسن وقتادة في قوله D : { حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق } يقول : خلى عن قلوبهم وقرأ بعض السلف وجاء مرفوعا إذا فرغ بالغين المعجمة ويرجع إلى الأول فإذا كان كذلك سأل بعضهم بعضا ماذا قال ربكم ؟ فيخبر بذلك حملة العرش للذين يلونهم ثم الذين يلونهم لمن تحتهم حتى ينتهي الخبر إلى أهل السماء الدنيا ولهذا قال تعالى : { قالوا الحق } أي أخبروا بما قال من غير زيادة ولا نقصان { وهو العلي الكبير } .
وقال آخرون : بل معنى قوله تعالى : { حتى إذا فزع عن قلوبهم } يعني المشركين عند الاحتضار ويوم القيامة إذا استيقظوا مما كانوا فيه من الغفلة في الدنيا ورجعت إليهم عقولهم يوم القيامة قالوا : ماذا قال ربكم ؟ فقيل لهم الحق وأخبروا به مما كانوا عنه لاهين في الدنيا قال ابن أبي نجيح عن مجاهد { حتى إذا فزع عن قلوبهم } كشف عنها الغطاء يوم القيامة وقال الحسن { حتى إذا فزع عن قلوبهم } يعني ما فيها من الشك والتكذيب وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم { حتى إذا فزع عن قلوبهم } يعني ما فيها من الشك قال : فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم وأمانيهم وما كان يضلهم { قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير } قال : وهذا في بني آدم هذا عند الموت أقروا حين لا ينفعهم الإقرار وقد اختار ابن جرير القول الأول : إن الضمير عائد على الملائكة وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه لصحة الأحاديث فيه والاثار ولنذكر منها طرفا يدل على غيره .
قال البخاري عند تفسير هذه الاية الكريمة في صحيحه حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو قال : سمعت عكرمة قال : سمعت أبا هريرة Bه يقول : إن نبي الله صلى الله عليه وسلّم قال : [ إذا قضى الله تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض ـ ووصف سفيان بيده فحرفها ونشر بين أصابعه ـ فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الاخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائه كذبة فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا فيصد بتلك الكلمة التي سمعت من السماء ] انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم من هذا الوجه وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة به والله أعلم .
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر وعبد الرزاق قالا : حدثنا معمر أخبرنا الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس Bهما قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم جالسا في نفر من أصحابه قال عبد الرزاق : من الأنصار فرمي بنجم فاستنار فقال صلى الله عليه وسلّم : ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية قالوا : كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم قلت للزهري : أكان يرمى بها في الجاهلية قال : نعم ولكن غلظت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلّم قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذي يلونهم حتى يبلغ التسبيح السماء الدنيا ثم يستخبر أهل السماء الذين يلون حملة العرش فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش : ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم ويخبر أهل كل سماء سماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء وتخطف الجن السمع فيرمون فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يفرقون فيه ويزيدون ] هكذا رواه الإمام أحمد وقد أخرجه مسلم في صحيحه من حديث صالح بن كيسان والأوزاعي ويونس ومعقل بن عبيد الله أربعتهم عن الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس Bهما عن رجل من الأنصار به وقال يونس عن رجال من الأنصار Bهم وكذا رواه النسائي في التفسير من حديث الزبيدي عن الزهري به ورواه الترمذي فيه عن الحسين بن حريث عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس Bهما عن رجل من الأنصار Bه والله أعلم .
( حديث آخر ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف وأحمد بن منصور بن سيار الرمادي والسياق لمحمد بن عوف قالا : حدثنا نعيم بن حماد حدثنا الوليد هو ابن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن عبد الله بن أبي زكريا عن رجاء بن حيوة عن النواس بن سمعان Bه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : [ إذا أراد الله تبارك وتعالى أن يوحي بأمره تلكم بالوحي فإذا تكلم أخذت السموات منه رجفة ـ أو قال رعدة ـ شديدة من خوف الله تعالى فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل E فيكلمه الله من وحيه بما أراد فيمضي به جبريل E على الملائكة كلما مر بسماء سماء يسأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول عليه السلام : قال الحق وهو العلي الكبير فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله تعالى من السماء والأرض ] وكذا رواه ابن جرير وابن خزيمة عن زكريا بن أبان المصري عن نعيم بن حماد به وقال ابن أبي حاتم سمعت أبي يقول : ليس هذا الحديث بالتام عن الوليد بن مسلم C وقد روى ابن أبي حاتم من حديث العوفي عن ابن عباس Bهما وعن قتادة أنهما فسرا هذه الاية بابتداء إيحاء الله تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلّم بعد الفترة التي كانت بينه وبين عيسى E ولا شك أن هذا أولى ما دخل في هذه الاية