يقول تعالى موطئا قبل المقصود المعنوي أمرا معروفا حسيا وهو أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه ولاتصير زوجته التي يظاهر منها بقوله أنت علي كظهر أمي أما له كذلك لا يصير الدعي ولدا للرجل إذا تبناه فدعاه ابنا له فقال { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم } كقوله D { ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم } الاية وقوله تعالى : { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } هذا هو المقصود بالنفي فإنها نزلت في شأن زيد بن حارثة Bه مولى النبي صلى الله عليه وسلّم كان النبي صلى الله عليه وسلّم قد تبناه قبل النبوة فكان يقال له زيد بن محمد فأراد الله تعالى أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة بقوله تعالى : { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } كما قال تعالى في أثناء السورة { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما } وقال ههنا { ذلكم قولكم بأفواهكم } يعني تبنيكم لهم قول لا يقتضي أن يكون ابنا حقيقيا فإنه مخلوق من صلب رجل آخر فما يمكن أن يكون أبوان كما لا يمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } قال سعيد بن جبير { يقول الحق } أي العدل وقال قتادة { وهو يهدي السبيل } أي الصراط المستقيم .
وقد ذكر غير واحد أن هذه الاية نزلت في رجل من قريش كان يقال له ذو القلبين وأنه كان يزعم أن له قلبين كل منهما بعقل وافر فأنزل الله تعالى هذه الاية ردا عليه هكذا روى العوفي عن ابن عباس وقاله مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة واختاره ابن جرير : وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن حدثنا زهير عن قابوس يعني ابن أبي ظبيان قال : إن أباه حدثه قال : قلت لابن عباس : أرأيت قول الله تعالى : { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } ما عنى بذلك ؟ قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوما يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه : ألا ترون له قلبين : قلبا معكم وقلبا معهم فأنزل الله تعالى : { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } وهكذا رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن صاعد الحراني عن عبد بن حميد وعن أحمد بن يونس كلاهما عن زهير وهو ابن معاوية به ثم قال : وهذا حديث حسن وكذا رواه ابن جرير وابن حاتم من حديث زهير به .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن الزهري في قوله تعالى : { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } قال بلغنا أن ذلك كان في زيد بن حارثة ضرب له مثل : يقول ليس ابن رجل آخر ابنك وكذا قال مجاهد وقتادة وابن زيد أنها نزلت في زيد بن حارثة Bه وهذا يوافق ما قدمناه من التفسير والله سبحانه وتعالى أعلم وقوله D { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله } هذا أمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام من جواز ادعاء الأبناء الأجانب وهم الأدعياء فأمر تبارك وتعالى برد نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة وأن هذا هو العدل والقسط والبر قال البخاري C : حدثنا معلى بن أسد حدثنا عبد العزيز بن المختار عن موسى بن عقبة قال : حدثني سالم عن عبد الله بن عمر قال : إن زيد بن حارثة Bه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله } وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي من طرق عن موسى بن عقبة به وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه في الخلوة بالمحارم وغير ذلك ولهذا قالت سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة Bهما : يارسول الله إنا كنا ندعو سالما ابنا وإن الله قد أنزل ما أنزل وإنه كان يدخل علي وإني أجد في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا فقال صلى الله عليه وسلّم [ أرضعيه تحرمي عليه ] الحديث ولهذا لما نسخ هذا الحكم أباح تبارك وتعالى زوجة الدعي وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلّم بزينب بنت جحش مطلقة زيد بن حارثة Bه وقال D { لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا } وقال تبارك وتعالى في آية التحريم { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } احترازا عن زوجة الدعي فإنه ليس من الصلب فأما الابن من الرضاعة فمنزل منزلة ابن الصلب شرعا بقوله صلى الله عليه وسلّم في الصحيحين [ حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب ] فأما دعوة الغير ابنا على سبيل التكريم والتحبيب فليس مما نهى عنه في هذه الاية بدليل مارواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا الترمذي من حديث سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن الحسن العرني عن ابن عباس Bهما قال : قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات لنا من جمع فجعل يلطخ أفخاذنا ويقول [ أبيني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس ] قال أبو عبيدة وغيره : أبيني تصغير بني وهذا ظاهر الدلالة فإن هذا كان في حجة الوداع سنة عشر .
وقوله { ادعوهم لآبائهم } في شأن زيد بن حارثة Bه وقد قتل في يوم مؤتة سنة ثمان وأيضا ففي صحيح مسلم من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري عن الجعد أبي عثمان البصري عن أنس بن مالك Bه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم [ يابني ] ورواه أبو داود والترمذي وقوله D { فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم } أمر تعالى برد أنساب الأدعياء إلى آبائهم إن عرفوا فإن لم يعرفوا فهم إخوانهم في الدين ومواليهم أي عوضا عما فاتهم من النسب ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم خرج من مكة عام عمرة القضاء وتبعتهم ابنة حمزة Bها تنادي ياعم ياعم فأخذها علي Bه وقال لفاطمة Bها : دونك ابنة عمك فاحتملتها فاختصم فيها علي وزيد وجعفر Bهم في أيهم يكفلها فكل أدلى بحجة فقال علي Bه : أنا أحق بها وهي ابنة عمي : وقال زيد : ابنة أخي وقال جعفر بن أبي طالب : ابنة عمي وخالتها تحتي يعني أسماء بنت عميس فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلّم لخالتها وقال [ الخالة بمنزلة الأم ] وقال لعلي Bه [ أنت مني وأنا منك ] وقال لجعفر Bه [ أشبهت خلقي وخلقي ] وقال لزيد Bه [ أنت أخونا ومولانا ] ففي الحديث أحكام كثيرة من أحسنها أنه صلى الله عليه وسلّم حكم بالحق وأرضى كلا من المتنازعين وقال لزيد Bه [ أنت أخونا ومولانا ] كما قال تعالى : { فإخوانكم في الدين ومواليكم } .
وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه قال : قال أبو بكرة Bه : قال الله D { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم } فأنا ممن لا يعرف أبوه فأنا من إخوانكم في الدين قال أبي : والله إني لأظنه لو علم أن أباه كان حمارا لانتمى إليه وقد جاء في الحديث [ من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه كفر ] وهذا تشديد وتهديد ووعيد أكيد في التبري من النسب المعلوم ولهذا قال تعالى : { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم } .
ثم قال تعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } إي إذا نسبتم بعضهم إلى غير أبيه في الحقيقة خطأ بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع فإن الله تعالى قد وضع الحرج في الخطأ ورفع إثمه كما أرشد إليه في قوله تبارك وتعالى آمرا عباده أن يقولوا { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } وثبت في صحيح مسلم [ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : قال الله D : قد فعلت ] وفي صحيح البخاري عن عمرو بن العاص Bه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم [ إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر ] وفي حديث آخر [ إن الله تبارك وتعالى رفع عن أمتي الخطا والنسيان وما يكرهون عليه ] وقال تبارك وتعالى ههنا { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما } أي وإنما الإثم على من تعمد الباطل كما قال D { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } الاية وفي الحديث المتقدم [ ليس من رجل ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه إلا كفر ] وفي القرآن المنسوخ : فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس عن عمر Bهم أنه قال : إن الله تعالى بعث محمدا A بالحق وأنزل معه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فرجم رسول الله A ورجمنا بعده ثم قال قد كنا نقرأ ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم وأن رسول الله A قال [ لا تطروني كما أطري عيسى ابن مريم E فإنما أنا عبد الله فقولوا عبده ورسوله ] وربما قال معمر [ كما أطرت النصارى ابن مريم ] ورواه في الحديث الاخر [ ثلاث في الناس كفر : الطعن في النسب والنياحة على الميت والاستسقاء بالنجوم ]