يقول تعالى معرضا بأهل مكة في قوله تعالى : { وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها } أي طغت وأشرت وكفرت نعمة الله فيما أنعم به عليهم من الأرزاق كما قال في الاية الأخرى { وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون * ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون } ولهذا قال تعالى : { فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا } أي دثرت ديارهم فلا ترى إلا مساكنهم وقوله تعالى : { وكنا نحن الوارثين } أي رجعت خرابا ليس فيها أحد .
وقد ذكر ابن أبي حاتم ههنا عن ابن مسعود أنه سمع كعبا يقول لعمر : إن سليمان عليه السلام قال للهامة ـ يعني البومة : ما لك لا تأكلين الزرع ؟ قالت : لأنه أخرج آدم من الجنة بسببه قال : فما لك لا تشربين الماء ؟ قالت : لأن الله تعالى أغرق قوم نوح به قال : فما لك لا تأوين إلا إلى الخراب ؟ قالت لأنه ميراث الله تعالى ثم تلا { وكنا نحن الوارثين } ثم قال تعالى مخبرا عن عدله وأنه لا يهلك أحدا ظالما له وإنما يهلك من أهلك بعد قيام الحجة عليهم ولهذا قال : { وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها } وهي مكة { رسولا يتلو عليهم آياتنا } فيه دلالة على أن النبي الأمي وهو محمد صلى الله عليه وسلّم المبعوث من أم القرى رسول إلى جميع القرى من عرب وأعجام كما قال تعالى : { لتنذر أم القرى ومن حولها } وقال تعالى : { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا } وقال : { لأنذركم به ومن بلغ } وقال : { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده } وتمام الدليل قوله تعالى : { وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا } الاية فأخبر تعالى أنه سيهلك كل قرية قبل يوم القيامة وقد قال تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } فجعل تعالى بعثة النبي الأمي شاملة لجميع القرى لأنه رسول إلى أمها وأصلها التي ترجع إليها وثبت في الصحيحين عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال : [ بعثت إلى الأحمر والأسود ] ولهذا ختم به النبوة والرسالة فلا نبي من بعده ولا رسول بل شرعه باق بقاء الليل والنهار إلى يوم القيامة وقيل المراد بقوله : { حتى يبعث في أمها رسولا } أي أصلها وعظيمتها كأمهات الرساتيق والأقاليم حكاه الزمخشري وابن الجوزي وغيرهما وليس ببعيد