99 - ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون .
- 100 - أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون .
- 101 - ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون .
- 102 - واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون .
- 103 - ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون .
قوله تعالى : { ولقد أنزلنا إليك آيات بينات } الآية . أي أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالات على نبوتك وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود ومكنونات سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم وما حرفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه من أحكامهم التي كانت في التوراة فأطلع الله في كتابه الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلّم فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف من نفسه ولم يدعها إلى هلاكها الحسد والبغي . عن ابن عباس قال : قال ابن صوريا القطويني لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك فأنزل الله في ذلك : { ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون } وقال مالك بن الصيف حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم وذكرهم ما أخذ عليهم من الميثاق وما عهد إليهم في محمد صلى الله عليه وسلّم : { والله ما عهد إلينا في محمد وما أخذ علينا ميثاق فأنزل الله تعالى : { أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم } وقال الحسن البصري في قوله : { بل أكثرهم لا يؤمنون } قال : نعم ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه يعاهدون اليوم وينقضون غدا وقال السدي : لا يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلّم وقال قتادة : { نبذه فريق منهم } أي نقضه فريق منهم . وقال ابن جرير : أصل النبذ الطرح والإلقاء ومنه سمي اللقيط منبوذا ومنه سمي النبيذ - وهو التمر والزبيب - إذا طرحا في الماء قال أبو الأسود الدؤلي : .
نظرت إلى عنوانه فنبذته ... كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا .
قلت : فالقوم ذمهم الله بنبذهم العهود التي تقدم الله إليهم في التمسك بها والقيام بحقها ولهذا أعقبهم ذلك التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة الذي في كتبهم نعته وصفته وأخباره وقد أمروا فيها باتباعه ومؤازرته ونصرته كما قال تعالى : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل } وقال ههنا : { ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم } الآية أي طرح طائفة منهم كتاب الله الذي بأيديهم مما فيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلّم وراء ظهورهم أي تركوها كأنهم لا يعلمون ما فيها وأقبلوا على تعلم السحر واتباعه ولهذا أرادوا كيدا برسول الله صلى الله عليه وسلّم وسحروه في مشط ومشاقه وجف طلعة ذكر تحت راعوفة ببئر أروان وكان الذي تولى ذلك منهم رجل يقال له ( لبيد بن الأعصم ) لعنه الله وقبحه فأطلع الله على ذلك رسوله صلى الله عليه وسلّم وشفاه منه وأنقذه كما ثبت ذلك مبسوطا في الصحيحين كما سيأتي بيانه .
قال السدي : { ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم } قال : لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلّم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم يوافق القرآن فذلك قوله : { كأنهم لا يعلمون } وقال قتادة في قوله : { كأنهم لا يعلمون } قال : إن القوم كانوا يعلمون ولكنهم نبذوا علمهم وكتموه وجحدوا به . عن ابن عباس قال : كان آصف كاتب سليمان وكان يعلم الإسم الأعظم وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه فلما مات سليمان أخرجته الشياطين فكتبوا بين كل سطرين سحرا وكفرا وقالوا هذا الذي كان سليمان يعمل بها . قال : فأكفره جهال الناس وسبوه ووقف علماء الناس فلم يزل جهال الناس يسبونه حتى أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلّم : { واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا } وقال السدي في قوله تعالى : { واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان } أي على عهد سليمان قال : كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد للسمع فيستمعون من كلام الملائكة ما يكون في الأرض من موت أو غيب أو أمر فيأتون الكهنة فيخبرونهم فتحدث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا فلما أمنتهم الكهنة كذبوا لهم وأدخلوا فيه غيره فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب وفشا ذلك في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب فبعث سليمان في الناس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق ثم دفنها تحت كرسيه ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنوا من الكرسي إلا احترق وقال : لا أسمع أحدا يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه .
فلما مات سليمان وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان وخلف من بعد ذلك خلف تمثل الشيطان في صورة إنسان ثم أتى نفرا من بني إسرائيل فقال لهم : هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا ( أي لا ينفد بالأكل منه ) قالوا : نعم قال : فاحفروا تحت الكرسي فذهب معهم وأراهم المكان وقام ناحيته فحفروا فوجدوا تلك الكتب فلما أخرجوهها قال الشيطان : إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر ثم ذهب وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا واتخذت بنوا إسرائيل تلك الكتب فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلّم خاصموه بها فذلك حين يقول الله تعالى : { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا } وقال سعيد بن جبير : كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر فيأخذه منهم فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه فدنت إلى الإنس فقالوا لهم : أتدرون ما العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك ؟ قالوا : نعم قالوا : فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه فاستخرجوه وعملوا به فأنزل الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلّم براءة سليمان عليه السلام فقال تعالى : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا } لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيما نزل عليه من الله ( سليمان بن داود ) وعده فيمن عد من المرسلين قال من كان بالمدينة من اليهود : ألا تعجبون من محمد ؟ يزعم أن ابن داود كان نبيا والله ما كان إلا ساحرا وأنزل الله : { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا } الآية .
وروي أنه لما مات سليمان عليه السلام قام إبليس - لعنه الله - خطيبا فقال : يا أيها الناس إن سليمان لم يكن نبيا إنما كان ساحرا فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه فقالوا : والله لقد كان سليمان ساحرا هذا سحره بهذا تعبدنا وبهذا قهرنا فقال المؤمنون : بل كان نبيا مؤمنا . فلما بعث الله النبي محمدا صلى الله عليه وسلّم وذكر داود وسليمان فقالت اليهود : انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل يذكر سليمان مع الأنبياء إنما كان ساحرا يركب الريح فأنزل الله تعالى : { واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان } ( رواه ابن جرير عن شهر بن حوشب ) الآية . فهذه نبذة من أقوال أئمة السلف في هذا المقام .
وقوله تعالى : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } أي واتبعت اليهود الذين أوتوا الكتاب من بعد إعراضهم عن كتاب الله الذي بأيديهم ومخالفتهم لرسول الله محمد A ما تتلوه الشياطين أي ما ترويه وتخبر به وتحدثه الشياطين على ملك سليمان وعداه بعلى لأنه تضمن { تتلو } تكذب .
وقال ابن جرير : { على } ههنا بمعنى في أي تتلو في ملك سليمان ونقله عن ابن جريج وابن إسحاق ( قلت ) والتضمن أحسن وأولى والله أعلم وقول الحسن البصري C : - وكان السحر قبل زمن سليمان - صحيح لا شك فيه لأن السحرة كانوا في زمان موسى عليه السلام وسليمان بن داود بعده كما قال تعالى : { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى } الآية ثم ذكر القصة بعدها وفيها : { وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة } وقال قوم صالح - وهم قبل ابراهيم الخليل عليه السلام - لنبيهم صالح إنما { أنت من المسحرين } أي المسحورين على المشهور وقوله تعالى : { وما أنزل على الملكين بباب هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفره فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه } اختلف الناس في هذا المقام فذهب بعضهم إلى أن " ما " نافية أعني التي في قوله : { وما أنزل على الملكين } قال القرطبي : " ما " نافية ومعطوف على قوله { وما كفر سليمان } ثم قال { ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين } وذلك أن اليهود كانوا يزعمون أنه نزل به جبريل وميكائيل فأكذبهم الله وجعل قوله { هاروت وماروت } بدلا من الشياطين قال : وصح ذلك إما لأن الجمع يطلق على الإثنين كما في قوله تعالى : { فإن كان له إخوة } أو لكونهما لهما أتباع أو ذكرا من بينهم لتمردهما . تقدير الكلام عنده : يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت ثم قال : وهذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح ولا يلتفت إلى ما سواه .
وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : { وما أنزل على الملكين ببابل } الآية . يقول : لم ينزل الله السحر وبإسناده عن الربيع بن أنس في قوله { وما أنزل على الملكين } قال : ما أنزل الله عليهما السحر . قال ابن جرير . فتأويل الآية على هذا " واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان " من السحر وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت . فيكون قوله { ببابل هاروت وماروت } من المؤخر الذي معناه المقدم قال : فإن قال لنا قائل : كيف وجه تقديم ذلك ؟ قيل : وجه تقديمه أن يقال : " واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان من السحر وما كفر سليمان وما أنزل الله السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت " فيكون معنيا بالملكين جبريل وميكائيل عليهما السلام لأن سحرة اليهود فيما ذكرت كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود فأكذبهم الله بذلك وأخبر نبيه محمدا A أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر وبرأ سليمان عليه السلام مما نحلوه من السحر وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين وأنها تعلم الناس ذلك ببابل وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان اسم أحدهما ( هاروت ) واسم الآخر ( ماروت ) فيكون هاروت وماروت علىهذا التأويل ترجمة عن الناس وردا عليهم . ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول وإن ( ما ) بمعنى الذي وأطال القول في ذلك وادعى أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما الله إلى الأرض وأذن لهما في تعليم السحر اختبارا لعباده وامتحانا بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك لأنهما امتثلا ما أمرا به وهذا الذي سلكه غريب جدا وأغرب منه قوله من زعم أن { هاروت وماروت } قبيلان من الجن كما زعمه ابن حزم .
وقد روي في قصة ( هاروت ) و ( ماروت ) عن جماعة من التابعين كمجاهد والسدي والحسن البصري وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى والله أعلم بحقيقة الحال .
وقوله تعالى : { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } عن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية : نعم أنزل الملكان بالسحر ليعلما الناس البلاء الذي اراد الله أن يبتلي به الناس فأخذ عليهم الميثاق أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر . وقال قتادة : كان أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة : أي بلاء ابتلينا به فلا تكفر . وقال ابن جرير في هذه الآية : لا يجترىء على السحر إلا كافر . وأما الفتنة فيه المحنة والأختبار ومنه قول الشاعر : .
وقد فتن الناس في دينهم ... وخلى ابن عفان شرا طويلا .
( يتبع . . . )