48 - وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون .
- 49 - وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون .
- 50 - أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون .
لما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها على موسى كليمه ومدحها وأثنى عليها وأمر باتبعاها حيث كانت سائغة الإتباع وذكر الإنجيل ومدحه وأمر أهله بإقامته واتباع ما فيه كما تقدم بيانه شرع في ذكر القرآن العظيم الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم فقال تعالى : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق } أي بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله { مصدقا لما بين يديه من الكتاب } أي من الكتب المتقدمة المتضمنة ذكره ومدحه وأنه سينزل من عند الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلّم فكان نزوله كما أخبرت به مما زادها صدقا عند حامليها من ذوي البصائر الذين انقادوا لأمر الله واتبعوا شرائع الله وصدقوا رسل الله كما قال تعالى : { إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا } أي إن كان ما وعدنا الله على ألسنة رسله المتقدمة من مجيء محمد عليه السلام لمفعولا أي لكائنا لا محالة ولا بد . وقوله تعالى : { ومهيمنا عليه } قال ابن عباس : أي مؤتمنا عليه وعنه أيضا المهيمن : الأمين قال : القرآن أمين على كل كتاب قبله . وقال ابن جريج : القرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله فما وافقه منها فهو حق وما خالفه منها فهو باطل . وعن الوالبي عن ابن عباس { ومهيمنا } أي شهيدا وكذا قال مجاهد وقتادة والسدي وقال العوفي عن ابن عباس { ومهيمنا } أي حاكما على ما قبله من الكتب . وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله فهو : أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها أشملها وأعظمها وأكملها حيث جمع فيه محاسن ما قبله وزاده من الكمالات ما ليس في غيره فلهذا جعله شاهدا وأمينا وحاكما عليها كلها وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة فقال تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } .
وقوله تعالى : { فاحكم بينهم بما أنزل الله } أي فاحكم يا محمد بين الناس بما أنزل الله إليك في هذا الكتاب العظيم وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء ولم ينسخه في شرعك { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم } فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يحكم بينهم بما في كتابنا وقوله : { ولا تتبع أهواءهم } أي آراءهم التي اصطلحوا عليها وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسله ولهذا قال تعالى : { ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق } أي لا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء من الجهلة الأشقياء . وقوله تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } عن ابن عباس : { شرعة } قال : سبيلا { ومنهاجا } قال : وسنة وعن ابن عباس أيضا ومجاهد { شرعة ومنهاجا } : أي سنة وسبيلا والأول أنسب فإن الشرعة وهي الشريعة أيضا هي ما يبتدأ فيه إلى الشيء ومنه يقال شرع في كذا : أي ابتدأ فيه وكذا الشريعة وهي ما يشرع فيها إلى الماء أما المنهاج فهو الطريق الواضح السهل والسنن الطرائق . فتفسير قوله : { شرعة ومنهاجا } بالسبيل والسنة أظهر في المناسبة من العكس والله أعلم لم هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد كما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : " نحن معاشر الأنبياء أخوة لعلات ديننا واحد " يعني بذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله وضمنه كل كتاب أنزله كماقال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } .
وقال تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } الآية وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراما ثم يحل في الشريعة الأخرى وبالعكس وخفيفا فيزاد في الشدة في هذه دون هذه وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة والحجة الدامغة قال قتادة قوله : { شرعة ومنهاجا } يقول : سبيلا وسنة والسنن مختلفة هي في التوراة شريعة وفي الإنجيل شريعة وفي الفرقان شريعة يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه والدين الذي لا يقبل الله غيره التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام { ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة } هذا خطاب لجميع الأمم وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة لا ينسخ شيء منها ولكنه تعالى شرع لكل رسول شريعة على حدة ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلّم الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة وجعله خاتم الأنبياء كلهم ولهذا قال تعالى : { ولكن ليبلوكم فيما آتاكم } أي أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة ليختبر عباده فيما شرع لهم ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله { فيما آتاكم } يعن من الكتاب ثم إنه تعالى ندبهم إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها فقال : { فاستبقوا الخيرات } وهي طاعة الله واتباع شرعه الذي جعله ناسخا لما قبله والتصديق بكتابة القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله ثم قال تعالى : { إلى الله مرجعكم } أي معادكم أيها الناس ومصيركم إليه يوم القيامة { فينبئكم بما نتم فيه تختلفون } أي فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق فيجزي الصادقين بصدقهم ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق العادلين عنه بلا دليل ولا برهان .
وقوله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوءاهم } تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك والنهي عن خلافه . ثم قال : { واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } أي واحذر أعداءك اليهود أن يدلسوا عليك الحق فيما ينهونه إليك من الأمور فلا تغتر بهم فإنهم كذبة كفرة خونة { فإن تولوا } أي عما تحكم به بينهم من الحق وخالفوا شرع الله { فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم } أي فاعلم أن ذلك كائن عن قدرة الله وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى لما لهم من الذنوب السالفة التي اقتضت إضلالهم ونكالهم { وإن كثيرا من الناس لفاسقون } أي إن أكثر الناس لخارجون عن طاعة ربهم مخالفون للحق ناكبون عنه كما قال تعالى : { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } وقال تعالى : { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } الآية . وقال محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال : قال كعب بن أسد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فأتوه فقالوا : يا محمد إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن لك ونصدقك فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأنزل الله D فيهم : { أن احكم بينهم بما أنزل الله لا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } إلى قوله { لقوم يوقنون } رواه ابن جرير .
وقوله تعالى : { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والإصطلاحات التي وضعها الرجلا بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير . قال تعالى : أفحكم الجاهلية يبغون } أي يبتغون ويريدون وعن حكم الله يعدلون .
{ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } أي ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه وآمن به وأيقن وعلم أن الله أحكم الحاكمين وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها فإنه تعالى هو العالم بكل شيء القادر على كل شيء عن الحسن قال : من حكم الله فحكم الجاهلية وكان طاووس إذا سأله رجل : أفضل بين ولدي في النحل ؟ قرأ : { أفحكم الجاهلية يبغون } الآية وقال الحافظ الطبراني عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " أبغض الناس إلى الله D من يبتغي في الإسلام سنة الجاهلية وطالب دم امرىء بغير حق ليريق دمه " وروى البخاري بإسناده نحوه بزيادة