45 - وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون .
وهذا أيضا مما وبخت به اليهود وقرعوا عليه فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس وهم يخالفون حكم ذلك عمدا وعنادا ويقيدون النضري من القرظي ولا يقيدون القرظي من النضري بل يعدلون إلى الدية كما خالفوا حكم التوارة المنصوص عندهم في رجم الزاني المحصن وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار ولهذا قال هناك : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } لأنهم جحدوا حكم الله قصدا منهم وعنادا وعمدا وقال ههنا { فأولئك هم الظالمون } لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه فخالفوا وظلمو وتعدوا بعضهم على بعض . وقد استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حكي مقررا ولم ينسخ كما هو المشهور عند الجمهور والحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة . وقال الحسن البصري : هي عليهم على الناس عامة وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة بعموم هذه الآية الكريمة وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كتب في كتاب عمرو بن حزم : " أن الرجل يقتل بالمرأة " وفي الحديث الآخر : " المسلمون تتكافأ دماؤهم " ( هذا بعض حديث رواه أبو داود وابن ماجة عن ابن عمرو ) وهذا قول جمهور العلماء وعن أمير المؤمنين ( علي بن ابي طالب ) أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها إلا أن يدفع وليها إلى أوليائه نصف الدية لأن ديتها على النصف من دية الرجل وإليه ذهب أحمد في رواية واحتج أبو حنيفة C تعالى بعموم هذه الآية على أنه يقتل المسلم بالكافر الذمي وعلى قتل الحر بالعبد وقد خالفه الجمهور فيهما . ففي الصحيحين قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " لا يقتل مسلم بكافر " وأما العبد ففيه عن السلف آثار متعددة أنهم لم يكونوا يقيدون العبد من الحر ولا يقتلون حرا بعبد وجاء في ذلك أحاديث لا تصح وحكى الشافعي بالإجماع على خلاف قول الحنفية في ذلك ولكن لا يلزم من ذلك بطلان قولهم إلا بدليل مخصص إلى الآية الكريمة .
ويؤيد الإحتجاج بهذه الآية الكريمة الحديث الثابت عن أنس بن مالك أن الربيع عمة أنس كسرت ثنية جارية فطلبوا إلى القوم العفو فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : " القصاص " فقال أخوها أنس بن النضر : يا رسول الله تكسر ثنية فلانة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " يا أنس كتاب الله القصاص " قال فقال : لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية فلانة قال : فرضي القوم فعفوا وتركوا القصاص . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره " أخرجاه في الصحيحين . وروى أبو داود عن عمران بن حصين : أن غلاما لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء فأتى أهله النبي صلى الله عليه وسلّم فقالوا : يا رسول الله إنا أناس فقراء فلم يجعل عليه شيئا . وهو حديث مشكل اللهم إلا أن يقال : إن الجاني كان قبل البلوغ فلا قصاص عليه ولعله تحمل أرش ما نقص من غلام الأغنياء عن الفقراء أو استعفاهم عنه .
وقوله تعالى : { والجروح قصاص } قال ابن عباس : تقتل النفس بالنفس وتفقأ العين بالعين ويقطع الأنف بالأنف وتنزع السن بالسن وتقتص الجراح بالجراح فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين فيما بينه رجالهم ونساؤهم إذا كان عمدا في النفس وما دون النفس ويستوي فيه العبيد رجالهم ونساؤهم فيما بينهم إذا كان عمدا في النفس وما دون النفس رواه ابن جرير .
( قاعدة مهمة ) .
الجراح تارة تكون في مفصل فيجب فيه القصاص بالإجماع كقطع اليد والرجل والكف والقدم ونحو ذلك وأما إذا لم تكن الجراح في مفصل بل في عظم فقال مالك C : فيه القصاص إلا في الفخذ وشبهها لأنه مخوف خطر وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يجب القصاص في شيء من العظام إلا في السن وقال الشافعي : لا يجب القاص في شيء من العظام مطلقا وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابن عباس وهو المشهور من مذهب أحمد وقد احتج أبو حنيفة C بحديث ( الربيع بنت النضر ) على مذهبه أنه لا قصاص في عظم إلا في السن . وحديث الربيع لا حجة فيه لأنه ورد بلفظ كسرت ثنية جارية وجائز أن تكون سقطت من غير كسر فيجب القصاص والحالة هذه بالإجماع وتمموا الدلالة بما رواه ابن ماجة عن ( جارية بن ظفر الحنفي ) أن رجلا ضرب رجلا على ساعده بالسيف من غير المفصل فقطعها فاستعدى النبي صلى الله عليه وسلّم فأمر له بالدية فقال : يا رسول الله اريد القصاص فقال : خذ الدية بارك الله لك فيها . ولم يقض بالقصاص ثم قالوا : لا يجوز أن يقتص من الجراحة حتى تندمل جراحة المجنى عليه فإن اقتص منه قبل الإندمال ثم عاد جرحه فلا شيء له . والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : أقدني فقال : " حتى تبرأ " ثم جاء إليه فقال : أقدني فأقاده فقال : يا رسول الله عرجت فقال : " قد نهيتك فعصيتني فأبعدك الله وبطل عرجك " ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه تفرد به أحمد .
( مسالة ) : فلو اقتص المجنى عليه من الجاني فمات من القصاص فلا شيء عليه عند مالك والشافعي وأحمد ابن حنبل وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين وغيرهم . وقال أبو حنيفة : تجب الدية في مال المقتص . وقال عطاء : تجب الدية على عاقلة المقتص له . وقال ابن مسعود والنخعي : يسقط عن المقتص له قدر تلك الجراحة ويجب الباقي في ماله . وقوله تعالى : { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال ابن عباس : أي فمن عفا عنه وتصدق عليه فهو كفارة للمطلوب وأجر للطالب . وقال سفيان الثوري : فمن تصدق به فهو كفارة التجارح وأجر المجروح على الله D ( الوجه الثاني ) : قال ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله في قول الله D : { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال : للمجروح . وقال ابن مسعود : يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به . وروى الإمام أحمد عن أبي السفر قال : كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار فاستعدى عليه معاوية فقال معاوية : إنا سنرضيه فألح الأنصاري فقال معاوية : شأنك بصاحبك وابو الدرداء جالس فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : " ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة وحط به عنه خطيئة فقال الأنصاري : فإني قد عفوت وهكذا رواه الترمذي . وعن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : " ما من رجل يجرح من جسده جراحه فيتصدق بها إلى كفر الله عنه مثل ما تصدق به " رواه النسائي . وقوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } قد تقدم عن طاووس وعطاء أنهما قالا : كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق