5 - اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين .
لما ذكر تعالى ما حرمه على عباده المؤمنين من الخبائث وما أحله لهم من الطيبات قال بعده : { اليوم أحل لكم الطيبات } ثم ذكر حكم ذبائح أهل الكتابين من اليهود والنصارى فقال : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } قال ابن عباس : يعني ذبائحهم وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء إن ذبائحهم حلال للمسلمن لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عنه تعالى وتقدس . وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مغفل قال : أدلي بجراب من شحم يوم خيبر فحضنته وقلت : لا أعطي اليوم من هذا أحدا والتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلّم يتبسم وفي الصحيح أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم شاة مصلية وقد سموا ذراعها وكان يعجبه الذراع فتناوله فنهش منه نهشة فأخبره الذراع أنه مسموم فلفظه وأثر ذلك في ثنايا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وفي أبهره وأكل معه منها بشر بن البراء بن عرور فمات فقتل اليهودية التي سمتها وكان اسمها زينب وقال ابن ابي حاتم عن مكحول قال : أنزل الله : { ولا تأكلوا مما لم ذكر اسم الله عليه } ثم نسخه الرب D ورحم المسلمين فقال : { اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتو الكتاب حل لكم } فنسخها بذلك وأحل طعام أهل الكتاب وفي هذا الذي قاله مكحول C نظر فإنه لا يلزم من إباحته طعام أهل الكتاب إباحة أكل ما لم يذكر اسم الله عليه لأنهم يذكرون اسم الله على ذبائحهم وقرابينهم وهم متعبدون بذلك ولهذا لم يبح ذبائح من عداهم من أهل الشرك ومن شابههم لأنهم لم يذكرا اسم الله على ذبائحهم بل ولا يتوقفون فيما يأكلونه من اللحم على ذكاة بل يأكلون الميتة بخلاف أهل الكتابين ومن شاكلهم من السامرة والصائبة ومن يتمسك بدين إبراهيم وشيث وغيرهما من الأنبياء على أحد قولي العلماء ونصارى العرب كبني تغلب وتنوخ وبهرا وجذام ولخم وعاملة ومن أشبههم لا تؤكل ذبائحهم عند الجمهور .
وقال أبو جعفر بن جرير عن محمد بن عبيدة قال قال علي : لا تأكلوا ذبائح بني تغلب لأنهم إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر وكذا قال غير واحد من الخلف والسلف . وقوله تعالى : { وطعامكم حل لهم } أي ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم وليس هذا إخبارا عن الحكم عندهم الله إلا أن يكون خبرا عما أمروا به من الأكل من كل طعام ذكر اسم الله عليه سواء كان من أهل ملتهم أو غيرها والأول أظهر في المعنى أي ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم وهذا من باب المكافأة والمقابلة والمجازاة كما ألبس النبي صلى الله عليه وسلّم ثوبه لعبد الله بن ابي بن سلول حين مات ودفنه فيه قالوا : لأنه كان قد كسا العباس حين قدم المدينة ثوبه فجازاه النبي صلى الله عليه وسلّم بذلك فأما الحديث الذي فيه : " لا تصحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي " ( أخرجه الترمذي وأبو داود عن أبي سعيد ) فمحمول على الندب والاستحباب والله أعلم .
وقوله تعالى : { والمحصنات من المؤمنات } أي وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات وذكر هذا توطئة لما بعده وهو قوله تعالى : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } فقيل أراد بالمحصنات الحرائر دون الإماء حكاه ابن جرير عن مجاهد وإنما قال مجاهد : المحصنات الحرائر فيحتمل أن يكون أراد ما حكاه عنه ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة كما قال في الرواية الأخرى عنه وهو قول الجمهور ههنا وهو الأشبه لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة فيفسد حالها بالكلية ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل : " حشفا وسوء كيله " والظاهر من الآية أن المراد من المحصنات : العفيفات عن الزنا كما قال تعالى في الآية الأخرى : { محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان } وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية ويقول : لا أعلم شركا أعظم من أن تقول إن ربها عيسى وقد قال الله تعالى : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } الآية . وقال ابن ابي حاتم عن ابن عباس : نزلت هذه الآية { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } قال : فحجز الناس عنهن حتى نزلت الآية التي بعدها : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } فنكح الناس نساء أهل الكتاب وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأسا أخذا بهذا الآية الكريمة { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } فجعلوا هذه مخصصة للتي في سورة البقرة { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها وإلا فلا معارضة بينها وبينها لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع كقوله تعالى : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة } وقوله : { إذا آتيتموهن أجورهن } أي مهورهن أي كما هن محصنات عفائف فابذلوا لهن المهور عن طيب نفس . وقد أفتى جابر بن عبد الله وإبراهيم النخعي والحسن البصري : بأن الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها أنه يفرق بينهما وترد عليه ما بذل لها من المهر رواه ابن جرير عنهم .
وقوله تعالى : { محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان } فكما شرط الإحصان في النساء وهي العفة عن الزنا كذلك شرطها في الرجال وهو أن يكون الرجل أيضا محصنا عفيفا ولهذا قال غير مسافحين وهم الزناة الذين لا يرتدعون عن معصية ولا يردون أنفسهم عمن جاءهم { ولا متخذي أخدان } أي ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إلا معهن ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل C إلى أنه لا يصح نكاح المرأة البغي حتى تتوب وما دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف وكذلك لا يصح عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويقلع عما هو فيه من الزنا لهذا الآية وللحديث : " لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله " وقال ابن جرير عن الحسن قال قال عمر بن الخطاب : لقد هممت أن لا أدع أحدا أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة فقال له أبي بن كعب : يا أمير المؤمنين الشرك أعظم من ذلك وقد يقبل منه إذا تاب وسيأتي الكلام على هذه المسألة مستقصى عند قوله : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } ولهذا قال تعالى ههنا : { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين }