19 - أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين .
- 20 - يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير .
هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين وهم قوم يظهر لهم الحق تارة ويشكون تارة أخرى فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم ( كصيب ) والصيب : المطر نزل من السماء في حال ظلمات وهي الشكوك والكفر والنفاق و ( رعد ) : وهو ما يزعج القلوب من الخوف فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع كما قال تعالى : { يحسبون كل صيحة عليهم } وقال : { ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون } و ( البرق ) : هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان ولهذا قال : { يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين } أي ولا يجدي عنهم حذرهم شيئا لأن الله محيط بهم بقدرته وهم تحت مشيئته وإرادته كما قال : { هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود بل الذين كفروا في تكذيب . والله من ورائهم محيط } أي بهم ثم قال : { يكاد البرق يخطف أبصارهم } أي لشدته وقوته في نفسه وضعف بصائرهم وعدم ثباتها للإيمان .
قال ابن عباس : { يكاد البرق يخطف أبصارهم } أي لشدة ضوء الحق { كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا } أي كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا به واتبعوه وتارة تعرض لهم الشكوك أظلمت قلوبهم فوقفوا حائرين . وعن ابن عباس : يعرفون الحق ويتكلمون به فهم من قولهم به على استقامة فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا : أي متحيرين . وهكذا يكونون يوم القيامة عندما يعطى الناس النور بحسب إيمانهم فمنهم من يعطى من النور ما يضىء له مسيرة فراسخ وأكثر من ذلك وأقل من ذلك ومنهم من يطفأ نوره تارة ويضيء أخرى ومنهم من يمشي على الصراط تارة ويقف أخرى ومنهم من يطفأ نوره بالكلية وهم الخلص من المنافقين الذين قال تعالى فيهم : { يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا } وقال في حق المؤمنين : { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار } الآية . وقال تعالى : { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه . نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا . واغفر لنا إنك على كل شيء قدير } .
وقوله تعالى : { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير } عن ابن عباس في قوله تعالى : { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } قال : لما تركوا من الحق بعد معرفته { إن الله على كل شيءقدير } : أي إن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير . وقال ابن جرير : إنما وصف الله تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم محيط وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير ومعنى ( قدير ) قادر كما معنى ( عليم ) عالم . وذهب ابن جرير ومن تبعه من كثير من المفسرين إلى أن هذين المثلين مضروبان لصنف واحد من المنافقين . وتكون ( أو ) في قوله تعالى : { أو كصيب من السماء } بمعنى الواو كقوله تعالى : { ولا تطع منهم آثما أو كفورا } أو تكون للتخيير . أي اضرب لهم مثلا بهذا وإن شئت بهذا . قال القرطبي : أو للتساوي مثل جالس الحسن أو ابن سيرين ووجهه الزمخشري بأن كلا منهما مساو للآخر في إباحة الجلوس إليه ويكون معناه على قوله : سواء ضربت لهم مثلا بهذا أو بهذا فهو مطابق لحالهم .
( قلت ) : وهذا يكون باعتبار جنس المنافقين فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات كما ذكرها الله تعالى في سورة ( براءة ) - ومنهم - ومنهم - ومنهم - يذكر أحوالهم وصفاتهم وما يعتمدونه من الأفعال والأقوال فجعل هذن المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة لأحوالهم وصفاتهم والله أعلم كما ضرب المثلين في سورة ( النور ) لصنفي الكفار الدعاة والمقلدين وفي قوله تعالى : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة } إلى أن قال : { أو كظلمات في بحر لجي } الآية . فالأول للدعاة الذين هم في جهل مركب والثاني لذوي الجهل البسيط من الأتباع المقلدين والله أعلم بالصواب