- الحديث التاسع والأربعون : .
- حديث التوضي بنبيذ التمر .
قلت : روي من حديث ابن مسعود . ومن حديث ابن عباس .
- أما حديث ابن مسعود ( 1 ) فرواه أبو داود . والترمذي . وابن ماجه من حديث أبي فزارة ( 2 ) عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال له ليلة الجن : " عندك طهور ؟ قال : لا إلا شيء من نبيذ في أداوة قال : تمرة طيبة وماء طهور " انتهى . زاد الترمذي قال : فتوضأ منه قال الترمذي : وإنما روي هذا الحديث عن أبي زيد عن عبد الله وأبو زيد رجل مجهول عند أهل الحديث لا يعرف له غير هذا الحديث انتهى . ووهم شيخنا علاء الدين فعزاه للأربعة والنسائي لم يروه أصلا والله أعلم . ورواه أحمد في " مسنده " وزاد في لفظه : فتوضأ منه وصلى ( 3 ) وقد ضعف العلماء هذا الحديث بثلاث علل : أحدهما جهالة أبي زيد . والثاني : التردد في أبي فزارة هل هو راشد بن كيسان أو غيره . والثالث : أن ابن مسعود لم يشهد مع النبي صلى الله عليه وسلّم ليلة الجن أما الأول : فقد قال الترمذي : أبو زيد رجل مجهول لا يعرف له غير هذا الحديث وقال ابن حبان في " كتاب الضعفاء " : أبو زيد شيخ يروي عن ابن مسعود ليس يدري من هو ولا يعرف أبوه ولا بلده ومن كان - بهذا النعت - ثم لم يرو إلا خبرا واحدا خالف فيه الكتاب . والسنة . والإجماع . والقياس استحق مجانبة ما رواه انتهى . قال ابن أبي حاتم في " كتابه العلل " ( 4 ) سمعت أبا زرعة يقول : حديث أبي فزارة في " الوضوء بالنبيذ " ليس بصحيح وأبو زيد مجهول وذكر ابن عدي عن البخاري قال : أبو زيد الذي روى حديث ابن مسعود في " الوضوء بالنبيذ " مجهول لا يعرف بصحبته عبد الله ولا يصح هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلّم وهو خلاف القرآن انتهى .
العلة الثانية : وهي التردد في أبي فزارة فقيل : هو راشد بن كيسان وهو ثقة أخرج له مسلم وقيل : هما رجلان وأن هذا ليس براشد بن كيسان وإنما هو رجل مجهول وقد نقل عن الإمام أحمد أنه قال : أبو فزارة - في حديث ابن مسعود - رجل مجهول وذكر البخاري أبا فزارة العبسي غير مسمى فجعلهما اثنين وفي كل هذا نظر فإنه قد روى هذا الحديث عن أبي فزارة جماعة فرواه عنه شريك كما أخرجه أبو داود . والترمذي ورواه عنه سفيان ( 5 ) والجراح بن مليح كما أخرجه ابن ماجه ورواه عنه إسرائيل ( 6 ) كما أخرجه البيهقي . وعبد الرزاق في " مصنفه " ورواه عنه قيس بن الربيع ( 7 ) كما أخرجهما عبد الرزاق ( 8 ) . والجهالة عند المحدثين تزول برواية اثنين فصاعدا فأين الجهالة بعد ذلك ؟ إلا أن يراد جهالة الحال .
هذا وقد صرح ( 9 ) ابن عدي بأنه راشد بن كيسان فقال : مدار هذا الحديث على أبي فزارة عن أبي زيد وأبو فزارة اسمه : " راشد بن كيسان " وهو مشهور وأبو زيد مولى عمرو بن حريث مجهول وحكى عن الدارقطني أنه قال : أبو فزارة - في حديث النبيذ - اسمه " راشد بن كيسان " . وقال ابن عبد البر في " كتاب الاستيعاب " : أبو فزارة العبسي راشد بن كيسان ثقة عندهم وذكر من روى عنه ومن روى هو عنه قال : وأما أبو زيد مولى عمرو بن حريث مجهول عندهم لا يعرف بغير رواية أبي فزارة وحديثه عن ابن مسعود في " الوضوء بالنبيذ " منكر لا أصل له ولا رواه من يوثق به ولا يثبت انتهى .
العلة الثالثة : وهي إنكار كون ابن مسعود شهد ليلة الجن فقد اختلف في ذلك لاختلاف ما ورد في ذلك فما ورد أنه لم يشهد ما رواه مسلم ( 10 ) من حديث الشعبي عن علقمة قال : سألت ابن مسعود هل شهد منكم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ؟ قال : لا ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب فقلنا : استطير أو اغتيل قال : فبتنا ليلة بشر ليلة ( 11 ) بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جائي من قبل حراء فقلت : يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة فقال : أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن وانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيراهم وسألوه الزاد فقال : " لكم كل عظم لكم كل بعرة علفا لدوابكم " ثم قال : " لا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم " انتهى . وفي لفظ له قال : لم أكن مع النبي صلى الله عليه وسلّم ليلة الجن ووددت أني كنت معه وفي لفظ : وكانوا من جن الجزيرة ورواه أبو داود مختصرا ( 12 ) لم يذكر القصة ولفظه : عن علقمة قال : قلت لعبد الله بن مسعود : من كان منكم مع النبي صلى الله عليه وسلّم ؟ قال : ما كان معه منا أحد انتهى . ورواه الترمذي بتمامه في " الجامع " وفي تفسير " سورة الأحقاف " وهذا الحديث يدفع تأويل من جمع بين الأخبار الدالة على أنه شهد وأنه لم يشهد بأنه كان معه أو أجلسه في الحلقة وعند مخاطبته للجن لم يكن معه قال البيهقي في " دلائل النبوة " وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن ابن مسعود لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلّم ليلة الجن وإنما كان معه حين انطلق به وبغيره يريهم آثارهم وآثار نيرانهم قال : وقد روي أنه كان معه ليلته ثم أسند إلى عبد الله بن مسعود قال : أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : " إني أمرت أن أقرأ على إخوانكم من الجن ليقم معي رجل منكم ولا يقوم معي رجل في قلبه مثقال حبة من كبر قال : فقمت معه ومعي أداوة من ماء حتى إذا برزنا خط حولي خطة ثم قال : لا تخرجن منها فإنك إن خرجت منها لم ترني ولم أرك إذا يوم القيامة هل معك من وضوء ؟ قلت : لا قال : فما في أدواتك ؟ قلت : نبيذ قال : تمرة حلوة وما طيب ثم توضأ وأقام الصلاة فلما قضى الصلاة قام إليه رجلان من الجن فسألاه المتاع قال : ألم آمر لكما آمر لكما ولقومكما بما يصلحكما ؟ قالا : بلى ولكنا أحببنا أن يحضر بعضنا معك . قال : ممن أنتما ؟ قالا : من أهل نصيبين قال : قد أفلح هذان وقومهما وأمر لهما بالطعام والرجيع ونهانا أن نستنجي بعظم أو روث انتهى . وهذا رواه أحمد في " مسنده " ( 13 ) وابن أبي شيبة في " مصنفه " وألفاظهم متقاربة قال البيهقي : وهذا يخالف ما في الصحيح من فقدهم إياه حتى قيل : اغتيل . واستطير إلا أن يكون المراد من فقده غير الذي علم بخروجه ثم أسند البيهقي ( 14 ) إلى موسى بن علي عن رباح عن أبيه عن ابن مسعود قال : استتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلّم .
فقال : إن نفرا من الجن خمسة عشر : بني إخوة . وبني عم يأتوني الليلة فأقرأ عليهم القرآن فانطلقت معه إذا المكان الذي أراد فخط لي خطا وأجلسني فيه وقال لي : " لا تخرج من هذا فبت فيه حتى أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلّم مع السحر وفي يده عظم حائل . وروثة . وحممة فقال لي : إذا ذهبت إلى الخلاء فلا تستنج بشيء من هؤلاء " قال : فلما أصبحت قلت : لأعلمن علمي حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : فذهبت فرأيت مبرك ستين بعيرا انتهى . ثم أسند البيهقي إلى أبي عثمان النهدي أن ابن مسعود أبصر زطا في بعض الطريق فقال : ما هؤلاء فقالوا : هؤلاء الزط قال : ما رأيت شبههم إلا الجن ليلة الجن وكانوا مستفزين يتبع بعضهم بعضا " انتهى . وذكر الترمذي في " جامعه " أن ابن مسعود شهد ليلة الجن تعليقا فروى في " باب كرامة ما يستنجى به " من حديث حفص بن غياث عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنه زاد إخوانكم من الجن " انتهى . ثم قال : وقد روى هذا الحديث إسماعيل بن إبراهيم . وغيره عن داود بن أبي هند عن اشعبي عن علقمة عن عبد الله أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلّم ليلة الجن الحديث بطوله قال : وكأن رواية إسماعيل أصح من رواية حفص بن غياث انتهى . لكنه رواه متصلا في " أبواب الأمثال " ( 15 ) عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود قال : صلى رسول الله A العشاء ثم انصرف فأخذ بيد ابن مسعود حتى خرج به إلى بطحاء مكة فأجلسه ثم خط عليه خطا ثم قال : " لا تبرحن مخطك فإنه سينتهي إليك رجال لا تكلمهم فإنهم لا يكلمونك " قال : فمضى رسول الله A حيث أراد بينما أنا جالس في خطي إذ أتاني رجال كأنهم الزط فذكر حديثا طويلا ثم قال : حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه انتهى . وروى أحمد في " مسنده " ( 16 ) حدثنا عارم . وعفان ( 17 ) قالا : ثنا معتمر قال : قال أبي : حددثني أبو تميمة عن عمرو البكالي عن عبد الله بن مسعود قال : استبعثني ( 18 ) رسول الله A فانطلقنا حتى أتينا مكان كذا وكذا فخط لي خطة وقال لي : " كن بين ظهري هذه لا تخرج منها فإنك إن خرجت هلكت " ثم ذكر حديثا طويلا وأخرج الطحاوي هذا الحديث في كتابه المسمى : " بالرد على الكرابيسي " ثم قال : والبكالي هذا من أهل الشام ولم يرو هذا الحديث عنه إلا أبو تميمة هذا وليس هو بالهجيمي بل هو السلمي بصري ليس بالمعروف انتهى .
- طريق آخر لحديث ابن مسعود رواه أحمد في " مسنده " ( 19 ) والدارقطني في " سننه " عن أبي سعيد مولى بني هاشم عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي رافع عن ابن مسعود أن النبي A قال له ليلة الجن : " أمعك ماء ؟ قال : لا قال : أمعك نبيذ ؟ " - أحسبه قال : نعم - فتوضأ به انتهى . قال الدارقطني : علي بن زيد ضعيف وأبو رافع لم يثبت سماعه من ابن مسعود انتهى . قال الشيخ تقي الدين في " الإمام " : وهذا الطريق أقرب من طريق أبي فزارة وإن كان طريق أبي فزارة أشهر فإن علي بن زيد - وإن ضعف ( 20 ) - فقد ذكر بالصدق قال : وقول الدارقطني : وأبو رافع لم يثبت سماعه من ابن مسعود لا ينبغي أن يفهم منه أنه لا يمكن إدراكه وسماعه منه فإن أبا رافع الصائغ جاهلي إسلامي قال أبو عمر بن عبد البر في " الاستيعاب " : هو مشهور من علماء التابعين وقال في " الاستيعاب " : لم ير النبي A فهو من كبار التابعين اسمه " نفيع " كان أصله من المدينة ثم انتقل إلى البصرة روى عن أبي بكر الصديق . وعمر بن الخطاب . وعبد الله بن مسعود . وروى عنه خلاس بن عمرو الهجري . والحسن البصري . وقتادة . وثابت البناني . وعلي بن زيد ولم يرو عنه أهل المدينة وقال في " الاستيعاب " : عظم روايته عن عمر . وأبي هريرة ومن كان بهذه المثابة فلا يمتنع سماعه ( 21 ) من جميع الصحابة اللهم إلا أن يكون الدارقطني يشترط في الإتصال ثبوت السماع ولو مرة وقد أطنب مسلم في الكلام على هذا المذاهب انتهى كلامه .
- طريق آخر رواه الدارقطني من حديث محمد بن عيسى بن حيان ( 22 ) عن الحسن بن قتيبة عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة . وأبي الأحوص عن ابن مسعود قال : مر بي رسول الله A فقال : " خذ معك أدواة من ماء ثم انطلق وأنا معه " فذكر حديث ليلة الجن ثم قال : فلما أفرغت عليه من الأدواة إذا هو نبيذ فقلت : يا رسول الله أخطأت بالنبيذ فقال : " تمرة حلوة وماء عذب " قال الدارقطني : تفرد به الحسن بن قتيبة عن يونس بن أبي إسحاق . والحسن بن قتيبة . ومحمد بن عيسى ضعيفان انتهى .
- طريق آخر أخرجه الدارقطني عن معاوية بن سلام عن أخيه زيد عن جده أبي سلام عن ابن غيلان الثقفي أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول : دعاني رسول الله A ليلة الجن بوضوء فجئته بأداوة فإذا فيها نبيد فتوضأ رسول الله A انتهى . قال الدارقطني : وابن غيلان هذا مجهول ( 23 ) قيل : اسمه عمرو وقيل : عبد الله بن عمرو بن غيلان انتهى . ورواه أبو نعيم في " كتاب دلائل النبوة " من طريق الطبراني بسنده إلى معاوية عن عمرو بن غيلان والله أعلم .
- طريق آخر أخرجه الدارقطني أيضا عن الحسين بن عبيد الله العجلي ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي وائل قال : سمعت ابن مسعود يقول : كنت مع النبي A ليلة الجن فأتاهم فقرأ عليهم القرآن فقال لي رسول الله A في بعض الليل : أمعك ماء يا ابن مسعود ؟ قلت : لا والله يا رسول الله إلا أداوة فيها نبيذ فقال عليه السلام : " تمرة طيبة وماء طهور " فتوضأ به قال الدارقطني : والحسين بن عبيد الله العجلي ( 24 ) يضع الحديث على الثقات .
- طريق آخر رواه الطحاوي في " كتابه ( 25 ) حدثنا يحيى بن عثمان ثنا أصبغ بن الفرج . وموسى بن هارون البردي قالا : ثنا جرير بن عبد الحميد عن قابوس عن أبيه عن ابن مسعود قال : انطلق رسول الله A إلى البراز فخط خطا وأدخلني فيه وقال لي : " لا تبرح حتى أرجع اليك ثم أبطأ فما جاء حتى السحر وجعلت أسمع الأصوات " ثم جاء فقلت : أين كنت يا رسول الله ؟ فقال : " أرسلت إلى الجن فقلت : ما هذه الاصوات التي سمعت ؟ قال : هي أصواتهم حين ودعوني وسلموا علي " انتهى . قال الطحاوي : ما علمنا لأهل الكوفة حديثا يثبت أن ابن مسعود كان مع النبي A ليلة الجن مما يقبل مثله إلا هذا انتهى .
( يتبع ... )