وأما دلالة الآية على أن الجنة خارجة عن هذا العالم بناءا على أنها تقتضي أن الجنة أعظم منه فلا يمكن أن يكون محيطا بها ففيه نظر كما يرشدك إليه النظر فيما تقدم .
والجملة في موضع جر على أنها صفة لجنة وجوز أن تكون في موضع نصب على الحالية منها لأنها قد وصفت وجوز أيضا أن تكون مستأنفة قال أبو البقاء : ولا يجوز أن تكون حالا من المضاف إليه لثلاثة أمور : أحدها أنه لا عمل له وما جاء من ذلك متأول على ضعفه والثاني أن العرض هنا لا يراد به المصدر الحقيقي بل المسافة والثالث أن ذلك يلزم منه الفصل بين الحال وصاحبها الذين ينفقون في محل الجر على أنه نعت للمتقين مادح لهم وقيل : مخصص أو بدل أو بيان أو في محل نصب على إضمار الفعل أو رفع على إضمار هم ومفعول ينفقون محذوف ليتناول كل ما يصلح للإنفاق المحمود أو متروك بالكلية كما في قولهم : فلان يعطى .
في السراء والضراء اي في اليسر والعسر قاله إبن عباس وقيل : في حال السرور والإغتمام وقيل : في الحياة وبعد الموت بأن يوصى وقيل : فيما يسر كالنفقة على الولد والقريب وفيما يضر كالنفقة على الأعداء وقيل : في ضيافة اغنى والأهاء إليه وفيما ينفقه على أهل الضر ويتصدق به عليهم وأصل السراء الحالة التي تسر والضراء الحالة التي تضر والمتبادر ما قاله الحبر والمراد إما ظاهرهما أو التعميم كما عهد في أمثاله أي أنهم لا يخلون في حال ما بإنفاق ما قدروا عليه من كثير أو قليل وقد روى عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها تصدقت بحبة عنب وعن بعض السلف أنه تصدق ببصلة وفي الخبر أتقوا النار ولو بشق تمرة وردوا السائل ولو بظلف محرق والكاظمين الغيظ أصل الكظم شد رأس القربة عند إمتلائها ويقال : فلا كظيم أي ممتليء حزنا و الغيظ هيجان الطبع عند رؤية ما ينكر والفرق بينه وبين الغضب على ما قيل : إن الغضب يتبعه إرادة الإنتقام البتة ولا كذلك الغيظ وقيل : الغضب ما يظهر على الجوارح والبشرة من غير إختيار والغيظ ليس كذلك وقيل : هما متلازمان إلا أن الغضب يصح إسناده إلى الله تعالى والغيظ لا يصح فيه ذلك .
والمراد والمتجر عين للغيظ الممسكين عليه عند إمتلاء نفوسهم منه فلا ينفقون ممن يدخل الضرر عليهم ولا يبدون له ما يكره بل يصبرون على ذلك مع قدرتهم على الإنفاذ والإنتقام وهذا هو الممدوح فقد أخرج عبدالرزاق وإبن جرير عن أبي هريرة مرفوعا من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله تعالى قلبه أمنا وإيمانا .
وأخرج أحمد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله تعالى على رؤس الخلائق حتى يخيره الله تعالى من أي الحور شاء وفي الأول جزاء من جنس العمل وفي الثاني ما هو من توابعه وهذا الوصف معطوف على ما قبله والعدول إلى صيغة الفاعل هنا للدلالة على الإستمرار وأما الإنفاق فحيث كان أمرا متجددا عبر عنه بما يفيد التجدد والحدوث والعافين عن الناس أي المتجاوزين عن عقوبة من أستحقوا مؤاخذته إذا لم يكن في ذلك إخلال بالدين وقيل : عن المملوكين إذا أساؤا والعموم أولى .
أخرج إبن جرير عن الحسن أن الله تعالى يقول يوم القيامة : ليقم من كان له على الله تعالى أجر فلا يقوم إلا إنسان عفا وأخرج الطبراني عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : من سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه ويعط من حرمه ويصل من قطعه