متبحرا في علم اللسان مترقيا منه إلى ذوق العرفان وله في رياض العلوم الدينية أو في مرتع وفي حياضها أصفى مكرع يدرك أعجاز القرآن بالوجدان لا بالتقليد وقد غدا ذهنه لما أغلق من دقائق التحقيقات أحسن إقليد فذاك يجوز له أن يرتقى من علم التفسير ذروته ويمتطي منه صهوته وأما من صرف عمره بوساوس أرسطاطاليس وأختار شوك القنافذ على ريش الطواويس فهو بمعزل عن فهم غوامض الكتاب وإدراك ما تضمنه من العجب العجاب وأما كلام السادة الصوفية في القرآن فهو من باب الإشارات إلى دقائق تنكشف عى أرباب السلوك ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة وذلك من كمال الإيمان ومحض العرفان لا أنهم أعتقدوا أن الظاهر غير مراد أصلا وإنما المراد الباطن فقط إذ ذاك إعتقاد الباطنية الملاحدة توصلوا به إلى نفي الشريعة بالكلية وحاشى سادتنا من ذلك كيف وقد حضوا على حفظ التفسير الظاهر وقالوا لا بد منه أولا إذ لا يطمع في الوصول إلى الباطن قبل أحكام الظاهر ومن إدعى فهم أسرار القرآن قبل إحكام التفسير الظاهر فهو كمن إدعى البلوغ إلى صدر البيت قبل أن يجاوز الباب ومما يؤيد أن للقرآن ظاهرا وباطنا ما أخرجه إبن أبي حاتم من طريق الضحاك عن إبن عباس قال : القرآن ذو شجون وفنون وظهور وبطون لا تنقضي عجائبه ولا تبلغ غايته فمن أوغل فيه برفق نجا ومن أوغل فيه بعنف هوى أخبار وأمثال وحلال وحرام وناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه وظهر وبطن فظهره التلاوة وبطنه التأويل فجالسوا به العلماء وجانبوا به السفهاء .
وقال إبن مسعود : من أراد علم الأولين والآخرين فليتل القرآن ومن المعلوم أن هذا لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر وقد قال بعض من يوثق به لكل آية ستون ألف فهم وروى عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع قال إبن النقيب أن ظاهرها ما ظهر من معانيها لأهل العلم بالظاهر وباطنها ما تضمنته من الأسرار اتي أطلع الله تعالى عليها أرباب الحقائق ومعنى قوله ولكل حرف حد أن لكل حرف منتهي فيما أراده الله تعالى من معناه ومعنى قوله : ولكل حد مطلع أن لكل غامض من المعاني والأحكام مطلعا يتوصل به إلى معرفته ويوقف عن القدر يكفي بعد ذلك في المقصود كما لايخفى على من لم يركب مطية الجحود المراد به وقيل في رواية لكل آية ظهر وبطن وحد ومطلع والمذكور بوساطة الألفاظ وتأليفاتها وضعا وإفادة وجعلها طرقا إلى إستنباط الأحكام الخمسة هو الظهر وروح الألفاظ أعنى الكلام المعتلى عن المدارك الآلية بجواهر الروح القدسية هو البطن وإليه الإشارة بقول الأمير السابق والحد إما بين الظهر والبطن يرتقى منه إليه وهو المدرك بالجمعية من الجمعية وإما بين البطن والمطلع فالمطلع مكان الأطلاع من الكلام النفسي إلى الأسم المتكلم المشار إليه بقول الصادق لقد تجلى الله تعالى في كتابه لعباده ولكن لا يبصرون والحد بينهما يرتقي به من البطن إليه عند إدراك الرابطة بين الصفة والأسم وإستهلاك صفة العبد تحت تجليات أنوار صفة المتكلم تعالى شأنه وقيل الظهر التفسير والبطن التأويل والحد ما تتناهى إليه الفهوم من معنى الكلام والمطلع ما يصعد إليه منه فيطلع على شهود الملك العلام إنتهى .
فلا ينبغي لمن له أدنى مسكة من عقل بل أدنى ذرة من إيمان أن ينكر إشتمال القرآن على بواطن يفيضها المبدأ الفياض على بواطن من شاء من عباده وياليت شعري ماذا يصنع المنكر بقوله تعالى وتفصيلا لكل شيء وقوله تعالى ما فرطنا في الكتاب من شيء ويا الله العجب كيف يقول بإحتمال ديوان المتنبي وأبياته المعاني الكثيرة ولا يقول بإشتمال قرآن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآياته وهو كلام رب العالمين المنزل على خاتم المرسلين على ما شاء الله تعالى من المعاني المحتجبة وراء سرادقات تلك المباني سبحانك هذا بهتان عظيم بل ما من حادثة ترسم بقلم القضاء في لوح الزمان إلا وفي القرآن العظيم إشارة إليها فهو المشتمل على خفايا الملك والملكوت وخبايا قدس الجبروت .
وقد ذكر إبن خلكان في تاريخه أن السلطان صلاح الدين لما فتح مدينة حلب أنشد القاضي محيي الدين قصيدة بائية