للإستغراق ويدخل فيه من ذكر دخولا أوليا والكتم والكتمان ترك إظهار الشيء قصدا مع مساس الحاجة إليه وتحقق الداعي إلى إظهاره وذلك قد يكون بمجرد ستره وإخفائه وقد يكون بإزالته ووضع شيء آخر موضعه واليهود قاتلهم الله تعالى أرتكبوا كلا الأمرين ما أنزلنا على الأنبياء من البينات أي الآيات الواضحة الدالة على الحق ومن ذلك ما أنزلناه على موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام في أمر محمد .
والهدى عطف على البينات والمراد بهما يهدي إلى الرشد مطلقا ومنهما يهدي إلى وجوب إتباعه صلى الله تعالى عليه وسلم والإيمان به وهي الآيات الشاهدة على صدقه E والعطف بإعتبار التغاير في المفهوم كجاءني الآكل فالشارب وقيل إنه عطف على ما أنزلنا إلخ والمراد بالأول الأدلة النقلية وبالثاني ما يدخل فيه الأدلة العقلية أو المراد بالأول التنزيل وبالثاني ما يقتضيه من الفوائد ولا يخفى أنه تكلف يأبى عنه قرب المعطوف عليه والتبيين الدال على كمال الوضوح في قوله سبحانه : من بعد ما بيناه للناس أي شرحناه وأظهرناه لهم والظرف متع لقب يكتمون واللام في الناس صلة بينا أو لام الأجل والمراد بهم الجنس أو الإستعراق وفي تقييد الكتمان بالظرف إشارة إلى شناعة حالهم بأنهم يكتمون ما وضح للناس وإلى عظم الأثم بأنهم يكتمون ما فيه النفع العام في الكتاب متعلق بيناه وتعلق جارين بفعل واحد عند إختلاف المعنى مما لا ريب في جوازه أو متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعوله والمراد به الجنس وقيل : التوراة وقيل : هي والإنجيل وقيل : القرآن والمراد من الناس أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ومن الناس من حمل البينات على ما في القرآن وعلق من بعد ب أنزلنا وفسر الكتاب بالتوراة والكتمان بعدم الإعتراف بالحقية ولعل ما ذهبنا إليه أولى من جميع ذلك أولئك يلعنهم الله أي يبعدهم عن رحمته ويذيقهم أليم نقمته والإلتفات إلى الغيبة بإظهار أسم الذات لتربية المهابة والإشعار بأن مبدأ صدور اللعن صفة الجلال المغايرة لما هو مبدأ الإنزال والتبيين من صفة الجمال ولم يؤت بالفاء في هذه الجملة التي هي خبر الموصول كما أتي به فيما بعد من قوله سبحانه : فأولئك أتوب عليهم مع أن الموصول متضمن لمعنى الشرط وقصد السبيية في الموضعين ولذا أورد أسم الإشارة الذي تعليق الحكم به كتعليقه بالمشتق قيل : لئلا يتوهم أن لعنهم إنما هو بهذا السبب بناءا على أنفاءالسببية في الأصل لكونه فاء التعقيب يفيد أن حصول المسبب بعد السبب بلا تراخ وقد يقصد منه ذلك بمعونة المقام كما في الآية بعد وليس كذلك بل له أسباب جمة وبهذا علم أن أسم الإشارة لا يغني عن الفاء لأنه يشعر بالسببية ولا يشعر بالتعقيب الموهم للإنحصار بناءا على إمتناع التوارد .
ويلعنهم اللاعنون 951 أي من يتأتى منه اللعن عليهم من الملائكة والثقلين فالمراد باللاعنون معناه الحقيقي وليس على حد منقتل قتيلا في المشهور والإستغراق عرفي أي كل فرد مما يتناوله اللفظ بحسب متفاهم العرف وليس بحقيقي حتى يرد أنه لا يلعنهم كل لاعن في الدنيا ويحتاج إلى التخصيص وإنما أعاد الفعل لأن لعنة اللاعنين بمعنى الدعاء عليهم بالأبعاد عن رحمة الله تعالى وروى البيهقي في شعب الإيمان عن مجاهد تفسير اللاعنين بدواب الأرض حتى العقارب والخنافس ولعل الجمع حينئذ على حد قوله تعالى والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين وأستدل بهذه الآية على وجوب إظهار علم الشريعة وحرمة كتمانه لكن أشترطوا لذلك أن لا يخشى العالم على نفسه وأن يكون متعينا وإلا لم يحرم عليه الكتم إلا أن سئل فيتعين عليه الجواب ما لم يكن إثمه أكبر