وقد أجاب عليه السلام بهذا عن مقالتهم الشنعاء المبنية على إعتقاد كون آلهتهم تضر وتنفع ولما كان ما وقع أولا منه عليه السلام في حقها من كونها بمعزل عن الألوهية إنما وقع في ضمن الأمر بعبادة الله تعالى واختصاصه بها وقد شق ذلك عليهم وعدوه مما يورث شينا حتى زعموا ما زعموا صرح عليه السلام بالحق وصدع به حيث أخبر ببراءته القديمة عنها بالجملة الإسمية المصدرة بأن وأكد ذلك بأشهد الله فإنه كالقسم في إفادة التأكيد وأمرهم بأن يسمعوا ذلك ويشهدوا به والمقصود منه الإستهانة والإستهزاء كما يقول الرجل لخصمه إذا لم يبال به : أشهد على أني قائل لك كذا وكأنه غاير بين الشهادتين لذلك وعطف الإنشاء على الإخبار جائز عند بعض ومن لم يجوزه قدر قولا أي وأقول اشهدوا ويحتمل أن يكون إشهاد الله تعالى إنشاء أيضا وإن كان في صورة الخبر وحينئذ لا قيل ولا قال وجوز أن يكون إشهاده عليه السلام لهم حقيقة إقامة للحجة عليهم .
وعدل عن الخبر فيه تمييزا بين الخطابين فهو خبر في المعنى كما هو المشهور في الأول لكن الأولى الحمل على المجاز ثم أمرهم بالإجتماع والإحتشاد مع آلهتهم جميعا دون بعض منها حسبما يشعر به قولهم بعض آلهتنا والتعاون في إيصال الكيد إليه عليه السلام ونهاهم عن الإنظار والإمهال في ذلك فقال : فكيدوني جميعا ثم لاتنظرون .
54 .
- أي إن صح ما لوحتم به من كون آلهتكم مما يقدرون على إضرار من ينال منها ويصد عن عبادتها ولو بطريق ضمني فإني بريء منها فكونوا أنتم معها جميعا وباشروا كيدي ثم لا تمهلوني ولا تسامحوني في ذلك فالفاء لتفريع الأمر على زعمهم من قدرة آلهتهم على ما قالوا وعلى البراءة كليهما والخطاب للقوم وآلهتهم ويفهم من كلام بعض أنه للقوم فقط وفيه نفي قدرة آلهتهم على ضره بطريق برهاني فإن الأقوياء الأشداء إذا لم يقدروا مع إجتماعهم واحتشادهم على الضر كان عدم قدرة الجمادات عليه معلوما من باب أولى وأياما كان فذاك من أعظم المعجزات بناءا على ما قيل : إنه كان عليه السلام مفردا بين جمع عتاة جبابرة عطاش إلى إراقة دمه يرمونه عن قوس واحدة وقد خاطبهم بما خاطبهم وحقرهم وآلهتهم وهيجهم على ما هيجهم فلم يقدروا على مباشرة شيء مما كلفوه وظهر عجزهم عن ذلك ظهورا بينا وفي ذلك دلالة على مزيد ثقته بالله سبحانه وكمال عنايته به وعصمته له وقد قرر ذلك بإظهار التوكل على من كفاه ضرهم في قوله : إني توكلت على الله ربي وربكم وفيه تعليل لنفي ضرهم بطريق برهاني يعني أنكم وإن لم تبقوا في القوس منزعا وبذلتم مضادتي مجهودكم لا تقدرون على شيء مما تريدون بي فإني متوكل على الله تعالى واثق بكلاءنه وهو مالكي ومالككم لا يصدر عنكم شيء ولا يصيبني أمر إلا بإرادته وجيء بلفظ الماضي لأنه أدل على الإنشاء المناسب للمقام ثم إنه عليه السلام برهن على عدم قدرتهم على ضره مع توكله عليه سبحانه بقوله : ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها أي إلا هو مالك لها قادر عليها يصرفها كيف يشاء غير مستعصية عليه سبحانه والناصية مقدم الرأس وتطلق على الشعر النابت عليها واستعمال الأخذ بالناصية في القدرة والتسلط مجاز أو كناية وفي البحر أنه صار عرفا في القدرة على الحيوان وكانت العرب تجز الأسير الممنون عليه علامة على أنه قد قدر عليه وقبض على ناصيته وقوله : إن ربي على صراط مستقيم .
56 .
- مندرج في البرهان وهو تمثيل واستعارة لأنه تعالى مطلع على أمور العباد مجاز لهم بالثواب والعقاب كاف لمن إعتصم به كمن وقف على الجادة فحفظها ودفع ضرر السابلة بها وهو كقوله سبحانه : إن ربك لبالمرصاد