كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته وأحاطوا علما بوجوب الإنقياد لأمره والإذعان لحكمه وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده وتصوروا مزيد إقتداره فعظمت مهابته في نفوسهم وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والإنقياد ولا لأمره بغير الإذعان والإمتثال ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا : قيل على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو يا أرض ويا سماء إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له ثم قال سبحانه كما ترى : يا أرض ويا سماء مخاطبا لهما على سبيل الإستعارة للشبه المذكور والظاهر أنه أراد أن هناك إستعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان إدعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه ودخول حرف النداء عليه وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلا .
وقد يقال : أراد أن الإستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناءا على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادى المخاطب وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه إبتداءا بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه ! على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل ثم إستعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو أعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي .
وفي الكشاف جعل البلع مستعار لنشف الأرض الماء وهو أولى فإن النشف دال على جذب من أجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان ولأن النشف فعل الأرض والغور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا ثم إستعار الماء للغذاء إستعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوى الآكل بالطعام وجعل قرينة الإستعارة لفظة ابلعي لكونها موضوعة للإستعمال في الغذاء دون الماء .
ولا يخفى عليك إذا أعتبر مذهب السلف في الإستعارة يكون ابلعي إستعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للإستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في ينقضون عهد الله وأما إذا أعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في أنبت الربيع البقل وهو بعيد أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في نطقت الحال فيلزمه القول بالإستعارة التبعية كما هو المشهور إنه تعالى أمر على سبيل الإستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر ترشيحا لإستعارة النداء .
والحاصل أن في لفظ ابلعي بإعتبار جوهره إستعارة لغور الماء وبإعتبار صورته أعني كونه صورة أمر إستعارة أخرى لتكوين المراد وبإعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للإستعارة المكنية التي في المنادى فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها وأما جعل النداء إستعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه ثم قال جل وعلا : ماءك بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لإتصال الماء بالأرض بإتصال الملك بالمالك وإختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الإختصاص الملكي ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الإستعارة من حيث أن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية فما قيل : إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء ثم إختار لإحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل ففي اقلعي