إنه عليم بذات الصدور أي الخواطر التي جعلت كأنها مالكة للصدور والمراد أنه يعلم ما سيكون فيها من الجرأة والجبن والصبر والجزع ولذلك دبر ما دبر وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا مقدر بمضمر خوطب به الكل بطريق التلوين والتعميم معطوف على ما قبل والضمير أن مفعولا يرى وقيللا حال من الثاني وإنما قللهم سبحانه في أعين المسلمين حتى قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إلى من بجنبه : أترتهم سبعين فقال : أراهم مائة تثبيتا لهم وتصديقا لرسوله E ويقللكم في أعينهم حتى قال أبو جهل : إنما أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أكلة جزور وكان هذا التقليل في إبتداء الأمر قبل إلتحام القتال ليجترؤا عليهم ويتركوا الإستعداد والإستمداد ثم كثرهم سبحانه حتى رأوهم مثليهم لتفاجئهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا .
ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور كرر لإختلاف الفعل المعلل به إذ هو في الأول إجتماعهم بلا ميعاد وهنا تقليلهم ثم تكثيرهم أو لأن المراد بالأمر ثم الإلتقاء على الوجه المحكى وههنا إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وحزبه هذا وذكر غير واحد أن ما وقع في هذه الواقعة من عظائم الآيات فإن البصر وإن كان قد يرى الكثير قليلا والقليل كثيرا لكن لا على ذلك الوجه ولا إلى ذلك الحد وإنما يتصور ذلك بصد الأبصار عن إبصار بعض دون بعض مع التساوي في الشرائط واعترض بأن ما ذكر من التعليل مناسب لتقليل الكثير لا لتكثير القليل وأجيب بأن تكثير القليل من جانب المؤمنين يكون الملائكة عليهم السلام ومن جانب الكفرة حقيقة فلا يحتاج إلى توجيه فيهما وإنما المحتاج إليه تقليل الكثير وذكر في الكشاف طريقين لإبصار الكثير قليلا أن يستر الله تعالى بعضه بساتر أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير كما خلق في عيون الحول ما يستكثرون به القليل فيرون الواحد إثنين وعليه فيمكن أن يقال : أن رؤيتهم للمؤمنين مثليهم من قبيل رؤية الأحول بل هي أعظم على تقدير أن يراد مثلى أنفسهم وحينئذ لا يحتاج إلى حديث رؤية الملائكة مع المؤمنين وفي الإنتصاف أن في ذلك دليلا بينا على أنه تعالى هو الذي يخلق الإدراك في الحاسة غير موقوف على سبب من مقابلة أو قرب أو إرتفاع حجب أو غير ذلك إذ لو كانت هذه الأسباب موجبة للرؤية عقلا لما أمكن أن يستتر عنهم البعض وقد أدركوا البعض والسبب الموجب مشترك فعلى هذا يجوز أن يخلق الله تعالى الإدراك مع إنتفاء هذه الأسباب ويجوز أن لا يخلقه مع إجتماعها فلا ربط إذن بين الرؤية وبينها في مقدور الله تعالى وهي رادة على القدرية المنكرين لرؤيته تعالى لفقد شرطها وهو التجسم ونحوه وحسبهم هذه الآية في بطلان زعمهم لكنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون ثم إن رؤياه E كانت في قول علي طرز رؤية أصحابه رضي الله تعالى عنهم المشركين وذكر بعض المحققين أنها كانت في مقام التعبير فلا يلزم أن تكون على خلاف الواقع والقلة معبرة بالمغلوبية والواقعة من الرؤيا منها ما يقع بعينه ومنها ما يعبر ويؤول وتحقيق الكلام فيها يقتضي بسطا فتيقظ واستمع لما يتلى فنقول : اعلم أن النفس الناطقة الإنسانية سلطان القوى البدنية وهي الآت لها وظاهر أن القوى الجسمانية تكل بكثرة العمل كالسيف الذي يكل بكثرة القطع فالنفس إذا إستعملت القوى الظاهرة إستعمالا كثيرا بحيث يعرض لها الكلال تعطلها لتستريح وتقوى كما أن الفارس إذا أكثر ركوب فرسه يرسله ليستريح ويرعى