وفي السؤال السادس مايؤيد القول الأول في الجملة ولا يخفى أن هذه الشبهات يصعب على القائلين بالحسن والقبح العقليين الجواب عنها بل قال الامام : إنه لو اجتمع الاولون والآخرون من الخلائق وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا من هذه الشبهات مخلصا وكان الكل لازما ويعجبني ما يحكى أن سيف الدولة بن حمدان خرج يوما على جماعته فقال : قد عملت بيتا ما أحسب أن أحدا يعمل له ثانيا إلا ان كان أبا فراس وكان أبو فراس جالسا فقيل له : ماهو فقال قولي : لك جسمي تعله فدمي لم تطله فابتدر ابو فراس قائلا : قال ان كنت مالكا فلي الأمر كله وعلل الزمخشري إجابته إلى استنظاره بأن في ذلك ابتلاء العباد وفي مخالفته أعظ الثواب وحكمه حكم ما خلق الله تعالى في الدنيا من صنوف الزخارف وأنواع الملاهي والملاذ وما ركب في الأنفس من الشهوات ليمتحن بها عباده وتعقبه العلامة الثاني كغيره بانه مبني على تعليل أفعاله تعالى بالأغراض وعدم اسناد خلق القبائح والشرور اليه سبحانه مع أنه ليس بشيء لأن حقيقة الابتلاء في حقه تعالى محال ومجازه لايدفع السؤال ولأن ما في متابعته من أليم العقاب اضعاف ما في مخالفته من عظيم الثواب بل لو لم يكن له الانظار والتمكين لم يكن من العباد إلا الطاعات وترك المعاصي فلم يكن إلا الثواب كالملائكة ولا يخفى ما فيه إلا أن قوله بعد : والاولى أن لا يخوض العبد في أمثال هذه الأسرار ويفوض حقيقتها إلى الحكيم المختار مم نقول به لأن معرفة ذلك ذلم في غاية الصعوبة على أرباب القال واهل الجدال هذا وإنما ترك التوقيت في هذه الآية ثقة بما وقع في سورة الحجر وص كما ترك ذكر النداء والفاء في الاستنظار والانظار تعويلا على ما ذكر فيهما .
فان قلت : لاريب في أن الكلام المحكي له عند صدوره عن المتكلم حالة مخصوصة تقتضي وروده على وجه خاص من وجوه النظم بحيث لو أخل بشيء من ذلك سقط الكلام عن رتبة البلاغة البتة فالكلام الواحد المحكي على وجوه شتى إن اقتضى الحال وروده على وجه معين من تلك الوجوه الواردة عند تلك الحكاية فذلك الوجه هو المطابق لمقتضى الحال والبالغ إلى رتبة البلاغة دون ماعداه من الوجوه ونقول حينئذ : لايخفى أن استنظار اللعين إنما صدر عنه مرة واحدة لا غير فمقامه أن اقتضى إظهار الضراعة وترتيب الاستنظار على ما حاق به من اللعن والطرد على نهج استدعاء الجبر في مقابلة الكسر كما هو المتبادر من قوله : رب انظرني حسبما حكي عنه في السورتين فما حكي عنه ههنا يكون بمعزل من المطابقة لمقتضى الحال فضلا عن العروج إلى معارج الاعجاز .
قلت : أجاب مولانا شيخ الاسلام عن هذا السؤال بعد أن ساقه بان مقام استنظاره مقتض لما ذكر من إظهار الضراعة وترتيب الاستنظار على الحرمان المدلول عليه بالطرد والرجم وكذا مقام الانظار مقتض لترتيب الاخبار بالانظار على الاستنظار وقد طبق الكلام عليه في تينك السورتين ووفي كل من مقامي الحكاية والمحكي جميعا حظه وأما ههنا فحيث اقتضى مقام الحكاية مجرد الاخبار بالاستنظار والانظار سيقت الحكاية على نهج الايجاز والاختصار من غير تعرض لكيفية كل منهما عند المخاطبة والجواب ولا يلزم أن لا يكون ذلك نقلا للكلام على ما هو عليه ولا مطابقا لمقتضى المقام فالذي يجب اعتباره في نقل الكلام إنما هو أصل معناه ونفس مدلوله وأما كيفية الافادة فقد تراعي وقد لا تراعي حسب الاقتضاء ولا يقدح في أصل الكلام تجريده عنها