سبحانه لما ذكر في سورة المائدة يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا ما أحل الله لكم الخ وذكر جل شأنه بعده ما جعل الله من بحيرة الخ فاخبر عن الكفار أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله تعالى افتراء على الله عز شأنه وكان القصد بذلك تحذير المؤمنين أن يحرموا شيئا من ذلك فيشابهوا الكفار في صنعهم وكان ذكر ذلك على سبيل الايجاز ساق جل جلاله هذه السورة لبيان حال الكفار في صنعهم فأتى به على الوجه الأبين والنمط الأكمل ثم جادلهم فيه واقام الدلائل على بطلانه وعارضهم وناقضهم إلى غير ذلك مما اشتملت عليه القصة فكانت هذه السورة شرحا لما تضمنته تلك السورة من ذلك على سبيل الاجمال وتفصيلا وبسطا وإتماما واطنابا وافتتحت بذكر الخلق والملك لأن الخالق والمالك هو الذي له التصرف في ملكه ومخلوقاته اباحة ومنعا وتحريما وتحليلا فيجب أن لا يعترض عليه سبحانه بالتصرف في ملكه ولهذ السورة أيضا اعتلاق من جهة بالفاتحة لشرحها اجمال قوله تعالى : رب العالمين وبالبقرة لشرحها اجمال قوله سبحانه : الذي خلقكم والذين من قبلكم وقوله عز اسمه الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا وبآل عمران من جهة تفصيلا لقوله جل وعلا والانعام والحرث وقوله تعالى : كل نفس ذائقة الموت الخ وبالنساء من جهة ما فيها من بدء الخلق والتقبيح لما حرموه على أزواجهم وقتل البنات وبالمائدة من حيث اشتمالها على الأطعمة بأنواعها وقد يقال : إنه لما كان قطب هذه السورة دائرا على اثبات الصانع ودلائل التوحيد حتى قال ابو اسحاق الاسفرايني : إن في سورة الانعام كل قواعد التوحيد ناسبت تلك السورة من حيث أن فيها ابطال ألوهية عيسى E وتوبيخ الكفرة على اعتقادهم الفاسد وافترائهم الباطل هذا ثم أنه لما كانت نعمه سبحانه وتعالى مما تفوت الحصر ولا يحيط بها نطاق العد إلا أنها ترجع اجمالا إلى إيجاد وإبقاء في النشأة الأولى وإيجاد وإبقاء في النشأة الآخرة وأشير في الفاتحة التي هي أم الكتاب إلى الجميع وفي الأنعام إلى الإيجاد الأول وفي الكهف إلى الابقاء الأول وفي سبأ إلى الايجاد الثاني وفي فاطر إلى الابقاء الثاني ابتدئت هذه الخمس بالتحميد ومن اللطائف أنه سبحانه وتعالى جعل في كل ربع من كتابه الكريم المجيد سورة مفتتحة بالتحميد فقال عز من قائل : بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي خلق السموات والأرض جملة خبرية أو إنشائية وعين بعضهم الأول لما في حملها على الانشاء من إخراج الكلام على معناه الوضعي من غير ضرورة بل لما يلزم على كونها إنشائية من انتفاء الاتصاف بالجميل قبل حمد الحامد ضرورة أن الانشاء يقارن معناه لفظه في الوجود وآخرون الثاني لأنه لو كانت جملة الحمد اخبارا يلزم أن لا يقال لقائل الحمد لله حامد إذ لا يصاغ للمخبر عن غيره لغة من متعلق اخباره اسم قطعا فلا يقال لقائل زيد له القيام قائم واللازم باطل فيبطل الملزوم ولا يلزم هذا على تقدير كونها إنشائية فان الانشاء يشتق منه اسم فاعل صفة للمتكلم به فيقال لمن قال : بعت بائع .
واعترض بأنه لا يلزم من كل إنشاء في ذلك وإلا لقيل لقائل : ضرب ضارب والله تعالى شأنه القائل والوالدات يرضعن أولادهن مرضع بل إنما يكون ذلك إذا كان إنشاء الحال من أحوال المتكلم كما في صيغ العقود ولا فرق حينئذ بينه وبين الخبر فيما ذكر والذي عليه المحققون جواز الاعتبارين في هذه الجملة وأجابوا عما يلزم من المحذور نعم رجح هنا اعتبار الخبرية لما أن السورة نزلت لبيان التوحيد وردع الكفرة والاعلام بمضمونها على وجه الخبرية يناسب المقام وجعلها لانشاء الثناء لا يناسبه وقيل : إن اعتبار خبريتها هنا