الثقة بالله تعالى والاكتفاء بولايته ونصرته واعترضه أبو حيان بأن الفارسي قد منع الاعتراض بجملتين فما ظنك بالثلاث وأجاب الحلبي بأن الخلاف إذا لم يكن عطف والجملة هنا متعاطفة وبه يصير الشيئان شيئا واحدا وقيل : إنه بيان لأعدائكم وفيه أنه لا وجه لتخصيص علمه سبحانه بطائفة من أعدائهم لا سيما في معرض الاعتراض وقيل : إنه صلة لنصير أي ينصركم من الذين هادوا وفيه تحجير لواسع نصرة الله تعالى مع أنه لا داعي لوضع الموصول موضع ضمير الأعداء وكون ما في حيز الصلة وصصفا ملائما للنصر غير ظاهر وقيل : إنه خبر مبتدأ محذوف وقوله تعالى : يحرفون الكلم عن مواضعه صفة له أي من الذين هادوا قوم يحرفون ويتعين هذا في قراءة عبدالله و من الذين وقد تقرر أن المبتدأ إذا وصف بجملة أو ظرف وكان بعض اسم مجرور بمن أو في مقدم عليه يطرد حذفه ومن قوله : وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح والفراء يجعل المبتدأ المحذوف اسما موصولا و يحرفون صلته أي من الذين هادوا من يحرفون والبصريون يمنعون حذف الموصول مع بقاء صلته إلا أنه يؤيده ماا في مصحف حفصة رضي الله تعالى عنها من يحرفون واعترض هذا أيضا بأنه يقتضي بظاهره كون الفريق السابق بمعزل من التحريف الذي هو المصداق لاشترائهم في الحقيقة و الكلم اسم جنس واحده كلمة كلبنة ولبن ونبقة ونبق وقيل : جمع وليس بشئ من المختار ولعل من أطلقه عليه أراد المعنى اللغوي أعني ما يدل على ما فوق الاثنين مطلقا وتذكير ضميره باعتبار أفراده لفظا وجمعيته باعتبار تعدده معنى وقرئ بكسر الكاف وسكون اللام جمع كلمة تخفيف كلمة بنقل كسرة اللام إلى الكاف وقرئ يحرفون الكلام والمراد به ههنا إما ما في التوراة وإما ما هو أعم منه ومما سيحكى عنهم من الكلمات الواقعة منهم في أثناء محاورتهم مع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والأول هو المأثور عن السلف كابن عباس ومجاهد وغيرهما وتحريف ذلك إما إزالته عن مواضعه التي وضعه الله تعالى فيها من التوراة كتحريفهم ربعة في نعت النبي صلى الله عليه وسلّم ووضعهم مكانه طوال وكتحريفهم الرجم ووضع الحد موضعه وإما صرفه عن المعنى الذي أنزله الله تعالى فيه إلى ما لا صحة له بالتأويلات الفاسدة والتمحلات الزائغة كما تفعله المبتدعة في الآيات القرآنية المخالفة لمذهبهم ويؤيد الأول ما رواه البخاري عن ابن عباس قال : كيف تسألون أهل الكتاب عن شئ وكتابكم الذي أنزل على رسوله أحدث تقرءونه محضا لم يشب وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله تعالى وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا : هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا واستشكل بأنه كيف يمكن ذلك في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر وانتشرت نسخه شرقا وغربا ! .
وأجيب بأن ذلك كان قبل اشتهار الكتاب في الآفاق وبلوغه مبلغ التواتر وفيه بعد وإن أيد بوقوع الاختلاف في نسخ التوراة التي عند طوائف اليهود وقيل : إن اليهود فعلوا ذلك في نسخ من التوراة ليضلوا بها ولما لم ترج عدلوا إلى التأوي والمراد من مواضعه على تقدير إرادة الأعم ما يليق به مطلقا سواء كان ذلك بتعيينه تعالى صريحا كمواضع ما في التوراة أو بتعيين العقل والدين كمواضع غيره وأصل التحريف إمالة الشئ إلى حرف أي طرف فإذا كان يحرفون بمعنى يزيلون كان كناية لأنهم إذا بدلوا الكلم ووضعوا مكانه غيره لزم أنهم أمالوه عن مواضعه وحرفوه والفرق بين ما هنا وما يأتي في سورة المائدة من قوله سبحانه : من بعد مواضعه أن الثاني أدل على ثبوت مقار الكلم واشتهارها مما هنا وذلك لأن الظرف يدل على أنه بعد ما ثبت الموضع