ظاهرة التكفير . . دراسة في الجذور الفكرية
ظاهرة التكفير . . دراسة في الجذور الفكرية
د. حامد حافظ العبد الله
قسم العلوم السياسية كلية العلوم الاجتماعية
جامعة الكويت
مــقــدمــة
من أخطر الظواهر التي ابتلى بها المجتمع المسلم منذ الصدر الأول للإسلام هي ظاهرة التساهل في تكفير المسلمين وإباحة دمائهم. وهذه الظاهرة لا تتوقف عند حدود الفكر والتنظير والفقه ، وإنما تمتد آثارها لتشمل الإقصاء والتخوين وإباحة الدماء والأعراض والأموال وهو ما يؤدي في النهاية إلى تقويض أسس الأمن الاجتماعي.
وفي وقتنا المعاصر ، فإن أحداث القتل والإرهاب والتطرف والتفجيرات التي نعايشها يومياً في أغلب أقطار العالم الاسلامي تحت مسميات الجهاد ، هي ارتدادات لفتاوى التكفير التي انطلقت من حناجر وأقلام البعض بناء على استنتاجات خاطئة للنص المقدس وقراءة لا تقوم على دليل.
فللدماء حرمة في الاسلام لا يعادلها شيء ، وحرمة المسلم تفوق حرمة الكعبة ، ومن قال لا إله إلا الله سلم المسلمون من لسانه ويده ، ومن كفّر مسلماً فقد كفر ، ولا إكراه في الدين ، كلها نصوص تؤكد على أن دم المسلم حرام وأن النطق بالشهادتين حصن وضمان إلهيين من سفك الدماء والتكفير لمن ينطق بهما.
بل أن الأمر يتعدى ذلك ، فالإسلام ينظر إلى الانسان ، بما هو انسان بغض النظر عن دينه وجنسه ومذهبه ، فيُعلي من شأنه : "يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر و أنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا".الحجرات -13
وقال أمير البيان الإمام علي بن أبي طالب (ع) : الناس صنفان ، أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.
وقد اتفق الفقهاء على قواعد شرعية تضبط مسألة التكفير استناداً إلى مجموعة من الأحاديث الشريفة منها حديث أبي هريرة عن رسول الله (ص): "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ." رواه البخاري في كتاب الإيمان 1/75 رقم 25.
وحديث أبي ذر الغفاري عن رسول الله (ص) أنه قال : ما من عبد قال : لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة." رواه البخاري في كتاب الايمان 1/110 رقم 1237 ورواه مسلم في كتاب الايمان 1/94 رقم 153.
وقوله (ص) : سباب المسلم فسوق وقتاله كفر. رواه أحمد عن حديث عبد الله بن عمر في مسند المكثرين من الصحابة 2/112.
وفي ظل ما يعيشه العالم الاسلامي من تصاعد دعوات التكفير متزامنة مع حملة إرهابية لم يسلم منها بشر ، حتى المصلون في المساجد والعابدون في الكنائس ، اتخذت شكل المفخخات والأحزمة الناسفة والانتحاريين ، فإن الحاجة ماسة نحو توحيد الصف الاسلامي ليقف وقفة حاسمة ضد هذه الدعوات التي لم تزد أعداد الاسلام إلا فرحاً وسروراً.فالشيعة والسنة هما جناحا هذه الأمة ، وما بينهما من مشتركات وقواسم يفوق اختلافات في نظرية الحكم وبعض العقائد والفتاوى ، وأن تيار التكفير ليستهدف محاولات لم الصف والشتات ، لذا وجب فضح أكذوبته وهوان مقولاته ، وهنا يحق لنا أن نستشهد بفتوى الراحل محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر في جواز التعبد بمذهب الشيعة الامامية ([1]). (1) كدليل على المكنون الحضاري والإنساني والفهم الاسلامي العميق الذي يحمله فقهاء الاسلام الحقيقيين ، لا مدعي الفقه والشريعة.
وكذلك ما دعا إليه وتبناه وناضل من أجله الشيخ محمد حسين ال كاشف الغطاء ، أحد أهم رواد التقريب بين المذاهب الإسلامية ، حيث قال :
"إن من شهد الشهادتين واتخذ الإسلام دينا له فقد حرم دمه وماله وعرضه والمسلم أخو المسلم .....وأن من صلى الى قبلتنا وأكل ذبيحتنا ولم يتدين بغير ديننا فهو منا له مالنا وعليه ما علينا " ([2]). (2)
الاطار المنهجي : وفي دراسة ظاهرة التكفير ، فإن هناك عدة من المناهج والنسق يمكن اتباعها، منها المنهج النفسي والاجتماعي والاقتصادي والتاريخي ، أما المنهجية المتبعة في هذه الدراسة فهي ستقوم على تتبع الجذور الفكرية للتكفير انطلاقا من فرضية أساسية هي أن العوامل النفسية والاقتصادية والاجتماعية لحدوث هذه الظاهرة نابعة أساساً من وجود بذور لها كامنة في فهم خاطئ للنص المقدس وتفسير يعتمد على أهواء شخصية بعيداً عن مقاصد النص الشرعي.
وسيحاول البحث أن يجيب على التساؤلات الآتية:
1- ما هو أصل ظاهرة التكفير؟
2- المراحل التي مرت بها الظاهرة التكفيرية؟
3- ما الأسس الفكرية للظاهرة التكفيرية؟
4- ما هي خطورة الظاهرة التكفيرية؟
5- ما هي المفاصل المشتركة بين تيارات التكفير؟
6- كيف يمكن مواجهة هذه الظاهرة؟
تحديد المفهوم : بادئ ذي بدء ، لا بد من تحديد المقصود بظاهرة التكفير المراد بحثها في هذه الدراسة ، فالظاهرة هي عبارة عن ممارسة متكررة من مجموع من البشر لها امتدادات في عمق التاريخ والفكر والممارسة ولا تقف عند حدود زمن أو بلد معين وهو ما ينطبق في واقع الحال على التكفير.
والمقصود بالتكفير هو إخراج المسلم من دائرة المسلمين بعناوين الشرك الأصغر والأكبر والردة أو حتى ارتكاب الكبائر ، كما ادعى الخوارج ، ويدخل ضمن هذه الدائرة الحاكم والنظام السياسي والمجتمع وطوائف ومذاهب اسلامية.
أولا : الخوارج والتكفير: ربما لم يدر بخلد الخوارج أنهم حين أطلقوا شعارهم "ان الحكم إلا لله" في معركة صفين فإنهم بذلك قد بذروا بذرة التكفير والإقصاء التي ستنمو شجرتها فيأكل من ثمرتها أقطاب التكفير والإقصاء (الشيباني ، ص 239).
فمما هو ثابت تاريخياً ، أنه بعد أحداث التحكيم التي جرت بين جيش الامام علي بن أبي طالب (ع) وجيش الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان ، فإن الخوارج ، وهم من طالب أساساً بالتحكيم ، قد رفضوا نتائجه ، منادين بعدم تحكيم الرجال في شرع الله ، انطلاقاً من فهمهم للآية المباركة "إن الحكم إلا الله" ، وانعكاساً لعبادتهم لذواتهم وآرائهم . فإنهم قد رفضوا تفسير عدل القرآن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ، منادين بكفر علي (ع) ، وضاربين بعرض الحائط آيات الله في فضله وعلمه وتقواه وما شهد به رسول الله (ص) في فضل الإمام علي (ع) وسابقيته في الاسلام.
ولم يقف التكفير عن حدود الامام علي(ع) باعتباره خليفة المسلمين ، وإنما امتد ليشمل أفراد المجتمع الذين قبلوا علياً إماماً وخليفة لهم.
ولما كان التكفير عند الخوارج منحصرا في نطاق آرائهم ونظرياتهم ، فإن الامام (ع) انصرف عن حربهم وقتالهم ، واختط طريق الحوار والنقاش لبيان حقيقة تفسير النص القرآني المستشهد به باعثاً لهم حبر الأمة عبد الله بن العباس ناصحا ومجادلا بالحسنى .
ولما لم يكن للفكر أن ينحصر في إطار العقل بل انعكس سلوكاً وعنفاً وقتلاً بحق المنضوين تحت ولاية وخلافة الإمام علي (ع) ، فإنه لم ير بدا إلا من قتالهم وحربهم ، وهكذا كانت "النهروان" محطة فاصلة بين "التكفير" و "حرمة دم المسلم" وبين "ظاهر النص" و "حقيقته ومضمونه"([3]).
لقد رسم الامام علي (ع) منهجين في مواجهة ظاهرة التكفير ، احدهما الحوار والجدال والنقاش بالحسنى حين يكون التكفير مجرد رأي منحصرا في العقول والصدور ، أما حين يتحول الفكر إلى عنف وتطرف ، فحينها لابد من السيف والقوة لتحقيق أسس الأمن الاجتماعي.
خفت جذوة التكفير بهزيمة الخوارج في النهروان ولكنها لم تنطفأ ، بل قام البعض على مر الدهور بالنفخ في جمرتها ونارها ليشهد العالم الاسلامي حروباً وقتالاً بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم ومدارسهم لا لشيء سوى تأكيدا للنزعة التكفيرية الإقصائية واتباعا لرغبات السلطة السياسية للإيقاع بين المسلمين كي يتسنى لهم البقاء في عروشهم وكراسيهم، وما فتنة خلق القرآن على زمن المأمون العباسي إلا حلقة من حلقات هذا التآمر السياسي.
ابن تيمية وظاهرة التكفير:
تعتبر آراء وأفكار و فتاوي ابن تيمية ، أحمد بن عبدالحليم الدمشقي الحراني المتوفي سنة 726هـ ، مرجعاً اساسياً في أدبيات الفكر التكفيري وتجلياته المعاصرة المتمثلة بتيارات السلفية الجهادية المعاصرة (نسيرة ، ص 1241)
عاش ابن تيمية فترة ما بعد سقوط الخلافة العباسية بيد التتار وعايش التحولات التي مر بها العالم الاسلامي آنذاك. فلما استقر التتار في بلاد المسلمين ، فإنهم رويداً رويداً اعتنقوا دين الاسلام ، مطبقين بعض شرائعه وفروضه. ونظراً لحداثتهم في الاسلام ، فإن كتابهم المقدس "الياسق" قد ظل مرجعاً لهم في بعض شؤونهم وأحوالهم.
استثار هذا الامر بعض اتباع ابن تيمية ، فاستفتوه في جواز قتالهم رغم أنهم مسلمين ، فأطلق الشيخ فتواه المعروفة بـ "فتوى أهل ماردين" أو "فتوى التتار" والتي خرج بها عن نطاق المتفق عليه بين منظري الخلافة آنذاك حول دار الاسلام ودار الكفر ليدخل عليها مفهوم "الدولة المختلطة بين الاسلام والكفر" فأفتى بكفر التتار وجواز قتالهم. فدار الاسلام يمكن أن تتحول إلى دار كفر متى غلبت فيها كلمة الكفر وحكمت شرائعه .(نسيرة ، ص 1250).
وهذا حكم ابن تيمية على ملايين المسلمين بالكفر انطلاقاً من فهم لا يتعدى ظاهر النصوص القرآنية والحديث الشريف ( سعد ، ص 86 – 93) ، وراسماً الطريق للعديد من المفكرين الاصوليين اللاحقين لا سيما سيد قطب وعبد السلام فرج (الموصللي 2004 ، ص 122)
ولم يقف ابن تيمية عند حدود تكفير التتار وإنما امتد ليشمل فرق اسلامية تخالفه في آرائه ومعتقداته كالشيعة والصوفية لتناقض اسلامهم ، كما يدعي ، مع أصلي الاسلام الثابتين: كتاب الله وسنة نبيه ، وبديلاً عن الدعوة إلى وحدة المسلمين والعمل وفق القواسم المشتركة عملاً بالنهج القرآني:
" قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله ".ال عمران -64
فإن كان هذا المنهج في التعامل مع أهل الكتاب ، فالحال أولى مع المسلمين ، ولكنه شطح عن ذلك سبيلاً ، فادعى على سبيل المثال لا الحصر ، أن الشيعة الامامية من الضالين الموالين دائماً للكفار من المشركين واليهود والنصارى ومعاونيهم على قتال المسلمين ومعاداتهم وأن معاونتهم لليهود أمر شهير أنهم أعظم ذوي الأهواء جهلاً وظلماً وأن أصل مذهبهم مستند إلى جهل أنهم اتخذوا أئمتهم أرباباً من دون الله وأدخلهم في الزنادقة المنافقين الملحدين ، وأيضا وصفهم بأنهم أصل كل فتنه وبلية وشر وهم قطب رحى الفتن. ([4])
وفي اجابة له على سؤال يتعلق بالموقف ممن يزعمون أنهم يؤمنون بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويعتقدون أن الامام الحق بعد رسول الله (ص) هو علي بن أبي طالب (ع). فهل يجب قتالهم؟ ويكفرون بهذا الاعتقاد أم لا؟ أفتى ابن تيمية أنه يجب قتال هؤلاء ، يقصد الشيعة الامامية ، حتى يكون الدين كله لله واقفاً في ذلك على ظاهر النصوص القرآنية والأحاديث الشريفة.
لذا فليس عجباً أن ينبري أحد أتباع مدرسة ابن تيمية لكي يصرح: "أما الدعوة للتقارب مع الرافضة وأنهم مذهب خامس ولا فرق بيننا وبينهم إلا في الفروع ، فهي دعوة كاذبة فاجرة تدل على جهل من يدعو إلى مثل تلك الدعوة " ([5]).
وهذا أبو مصعب الزرقاوي يعبر عن هذا الاعتقاد اتجاه الشيعة بعبارات تفوح منها رائحة البغض والتكفير بقوله :
"هم العقبة الكؤود والأفعى المتربصة وعقرب المكر والخبث والعدو المترصد والسم الناقع ....إن التشيع هو الخطر الداهم والتحدي الحقيقي...إن التشيع دين لا يلتقي مع الإسلام إلا كما يلتقي اليهود مع النصارى "(عبد الحسين ، ص 239 )
وذهب ابن تيمية إلى أبعد من تكفير الشيعة، فأدخل في دائرة المشركين الأشاعرة ([6]).
كما حكم على أهل مصر بالردة فقال عنهم:
"لأجل ما كانوا عليه من الزندقة والبدعة بقيت البلاد المصرية مدة دولتهم نحو مائتي سنة قد انطفأ نور الاسلام والإيمان حتى قالت فيها العلماء انها كانت دار ردة ونفاق كدار مسيلمة الكذاب"([7]).
ثالثا :حركة محمد بن عبد الوهاب والتكفير:
تأسيساً على ما كتبه ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية ، انطلقت في شبه الجزيرة العربية حركة اعتبرت امتداداً لتعاليم هذين العلمين في الحركة السلفية ، وهي الحركة التي قادها ونظر لها الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي النجدي (1115 – 1206 هـ / 1703 – 1792م).
فقد انطلق الشيخ محمد بن عبد الوهاب لكي يؤسس دعوته ويؤسس منهجه التكفيري بناء على : فهمه لظاهر النصوص القرآنية والأحاديث الشريفة ، كما فعل من سبقه من جهة ، واستيعابه لواقع الحال الاجتماعي والسياسي والديني في شبه الجزيرة العربية آنذاك من جهة أخرى ، لكي يحصر الاسلام في فئة صغيرة من اتباعه ويخرج الغالب الأعم من المسلمين من دينهم.
وقد توصل بن عبد الوهاب إلى ستة أصول اعتبرها بأنها عظيمة ومفيدة وجليلة مستخلصة من القرآن ، أولها اخلاص الدين لله تعالى وحده لا شريك له ، وثانيها أمر الله بالاجتماع في الدين والنهي عن التفرق.
والأصل الثالث السمع والطاعة لمن تأمر على المسلمين ولو كان عبداً . أما الرابع فهو بيان العلم والعلماء والفقه والفقهاء ، وخامسها بيان الله سبحانه لأولياء الله وتفريقه بينهم وبين المتشبهين بهم من أعداء الله والمنافقين والفجار. أما آخرها فيتعلق برد السنة التي وضعها الشيطان في ترك القرآن والسنة واتباع الآراء والأهواء المتفرقة المختلفة.
"وترتب على هذه الأصول مواقف عملية من كل ما يخالف السنة ، وكان سائداً آنذاك. فقد كافح الوهابيون الصوفية والدروشة وتلك الأشكال من العبادات الدينية التي كان يمارسها الأتراك والتي نشأت عبر القرون. ودعوا إلى الكفاح بلا هوادة ضد الفرس – الشيعة الذين كانوا يعتبرونهم كمرتدين ، والسلطان العثماني الخليفة الكاذب والباشوات والأتراك." (سعد ، ص 97).
ويطالعنا نص عجيب يعكس النظرة التكفيرية عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، فقد صرح بـ : " فمن فهم فهماً جيداً وعرف الشرك الذي يفعلونه – كفار قريش – رأى العجب العجاب ، خصوصاً إن عرف أن شركهم دون شرك كثير من الناس اليوم". (الفخراني ,ص 77 ).
وانطلاقاً من هذا الفهم ، فقد شنت جيوش الوهابية غزوات على بلاد المسلمين ، فأغاروا على كربلاء في نيسان 1801 فقتلوا النساء والأطفال وهدموا كل المقدسات الشيعية ونهبوا البلاد (فياض ، 2008).
وفي سنة 1217 هـ دخلوا الطائف وقتلوا الناس قتلاً عاماً حتى الأطفال وكانوا يذبحون الطفل الرضيع على صدر امه. وفي عام 1221 هـ نهبت الحجرة النبوية وهدمت القباب ومنع الناس من زيارة قبر النبي (ص) كما يذكر الجبرتي. ولم تسلم بلاد الشام من غزواتهم ، فقد أغاروا على بلاد حوران في الشام فنهبت الأموال وأحرقت الغلال وقتلت النفس البريئة وسبيت النساء وقتلت الأطفال وعاثوا في الأرض فسادا . ([8]).
رابعا : سيد قطب ومفهومي الحاكمية والجاهلية:
يعتبر سيد قطب (1906 – 1966) قطب الرحى في الحركات الأصولية الاسلامية ومعلماً مهماً لدى حركات الإسلام السياسي المعاصرة ، بدءً من جماعة المسلمين ( التكفير والهجرة) ، مروراً بالقطبيين وجماعة الجهاد والجماعة الاسلامية ، وانتهاء بالقاعدة وداعش.
ومن يدرس فكر هذه الجماعات يرى بوضوح تأثير فكر سيد قطب ، اضافة إلى ابن تيمية وبن عبد الوهاب ، على تبنيها لأسلوب ومنهج التكفير والعنف والتطرف (الشيباني ، ص 236 ) . ولو تتبعنا فكر وآراء سيد قطب ، لوصلنا إلى ذات الفرضية التي انطلق منها البحث ، وهي الوقوف على ظاهر النصوص القرآنية وتفسيرها بعيداً عن سياق النصوص القرآنية والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والظاهر والباطن والنص والتأويل.
انطلق سيد قطب من فكرة مركزية التقطها من المفكر الاسلامي أبي الأعلى المودودي (1903 – 1980) منشئ الحركة الاسلامية في باكستان ، مؤداها أن المجتمعات المعاصرة هي مجتمعات مسلمة بالاسم لا تدين بشرع الله ولا تطبق مفهوم حاكمية وسلطة الله المطلقة في أرضه ، فهي بالتالي تدخل ضمن نطاق المجتمعات الجاهلية التي كانت لا تدين بالإسلام ولا تطبق مفاهيمه ومناهجه. فنتيجة لعوامل العنف والاستبداد والانحراف عن تعاليم الشريعة الاسلامية ، وانتشار العلمانية والفكر الغربي ، كالاشتراكية والشيوعية والرأسمالية ، والعنف السياسي الذي تعرضت له حركة الأخوان المسلمين إبان العهد الناصري ، وظروف سيد قطب الخاصة من اعتقاله وسجنه وتعذيبه والحكم عليه بالإعدام ، بنى سيد قطب نظريته حول الحاكمية والجاهلية منطلقاً من فهمه لبعض الآيات القرآنية الشريفة ومنها الواردة في سورة المائدة : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون. المائدة 44
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون. المائدة 45
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون. المائدة 47
فالحاكمية عند سيد قطب ، كما كان الحال عند الخوارج ، تعني ان الحاكم الحق هو الله وأن الشريعة والسلطة الحقة هي شريعة الله وسلطته مع عدم التمييز بين حكم الله بالمعنى السياسي وبين حكم الله بالمعنى القضائي (سعد ، ص 148)
ويستتبع عدم الحكم بما أنزل الله ، أن الجاهلية بصورتها الجديدة قد عادت لتحكم العالم الاسلامي متلبسة بثلاث سمات: غياب العقيدة والعبادات والشريعة. فالجاهلية تتسع عند سيد قطب تشمل المجتمعات الشيوعية والمجتمعات الوثنية والمجتمعات اليهودية والنصرانية وكذا المجتمعات التي تؤمن بأن لا اله لا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة وتؤمن بالله واليوم الآخر ولكنها لا تطبق شرع الله في جميع مناهج الحياة. (قطب ، ص 98).
ومهما كان الأمر ، فقد أصبح سيد قطب أيقونة لدى رافعي شعارات الاسلام السياسي ، وأفكاره منهاجاً لدى جماعات التكفير والعنف خصوصاً للجماعات التي ظهرت في مصر في القرن الماضي ، كحركة القطبيين والشوقيين وجماعة المسلمين (التكفير والهجرة ) والفنية العسكرية والجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد.
خامسا : العدو القريب والعدو البعيد:
وهذه تعتبر أيضاً من أساسيات فقه التكفير وقاعدة اتخذتها جماعات العنف السياسي لتبرير تكفير المخالفين ، مستندة بها إلى فتاوى ابن تيمية. تبنى الفكرة على أن العدو القريب الذي يجب مواجهته والقضاء عليه يتجسد بحكام العصر منزلين حكم التكفير والردة عليهم ، أما العدو البعيد فهو الغرب والاستعمار والصهيونية والذي ينبغي تأجيل المواجهة معه حتى يتم القضاء على العدو القريب.
ففي كتابات شكري مصطفى مؤسس جماعة المسلمين (التكفير والهجرة) نلاحظ أن مفهوم الكفر والردة يتسع ليشمل الحاكم والنظام من جهة والمجتمع من جهة أخرى ، وهنا موضع الخطر ، لذا ينبغي مواجهتهم وحربهم ، أما الموقف من اسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية ، فهو الهجرة والانتظار إلى مرحلة (التمكن) يوم أن تقوم الملحمة في نهاية الزمان وكذلك رفض مواجهة اليهود والهرب إلى مكان آمن ان قاموا بغزو مصر (نسيرة ، ص 1667) . وفي كتيب " الفريضة الغائبة" لمحمد عبد السلام فرج ، نرى صدى واضحاً لهذا المفهوم ، بالإضافة لمفاهيم أخرى تتعلق بالتكفير.
فيقول فرج بتكفير الدولة والحاكم والنظام السياسي ومن والاهم من أفراد المجتمع قياسا على فهم حرفي للنص المقدس وأيضا على فتاوى يوردها للإمام أبو حنيفة والفقيه الحنبلي ابن تيمية.
وفيما يخص فرضية العدو القريب والعدو البعيد ، فإن فرج يرفض قول من يدعو إلى قتال اليهود وتحرير القدس كأرض مقدسة كهدف أولي مطالباً بأن يكون التركيز في هذه المرحلة نحو الحاكم والدولة ، أي العدو القريب.
ويؤكد محمد عبدالسلام فرج "إن اساس وجود الاستعمار في بلاد الاسلام هم هؤلاء الحكام ، فالبدء بالقضاء على الاستعمار هو عمل غير مجدي وغير مفيد وما هو إلا مضيعة للوقت ، فعلينا أن نركز على قضيتنا الاسلامية وهي اقامة شرع الله أولاً في بلادنا وجعل كلمة الله هي العليا. فلا شك أن ميدان الجهاد هو اقتلاع تلك القيادات الكافرة واستبدالها بالنظام الاسلامي الكامل ومن هنا تكون الانطلاقة." ([9]).
وإلى نفس المفهوم والنظرية ، يذهب عبد الله عزام ، الزعيم الروحي لتنظيم القاعدة ، وأبو قتادة الفلسطيني المقدسي أحد منظري تيار السلفية الجهادية ( عبد الحسين ، ص 168) .
ومن هذا النص ، فان المراقب لن يستغرب توقف الجماعات الإرهابية المتطرفة عن قتال الصهاينة وصمتهم صمت القبور عن ممارستهم وانتهاكهم للمقدسات الاسلامية في فلسطين ، وبذلهم الجهد بالمقابل في قتال وإرهاب مخالفيهم من المسلمين ، من شتى المذاهب والطوائف.
الخلاصة: يتضح لنا مما سبق أن هناك خيوط رابطة بين فكر التكفير ، مهما تعددت أشكاله ومسمياته وإسقاطاته التاريخية ، تتجسد في:
1- الوقوف عند ظاهر النصوص القرآنية والأحاديث الشريفة ورفض التأويل والتفسير وشروح أهل العلم والفقه.
2- تكفير الحاكم وعموم الناس ، تلك الدعوى التي انطلقت من سهام الخوارج لتستقر في كنانة ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب.
3- مفهومي الحاكمية والجاهلية كما استعرضها سيد قطب في الظلال ومعالم في الطريق.
4- مفهوم العدو البعيد والعدو القريب.
5- مفاهيم التوحيد والشرك المنحصرة بفهم ضيق يخرج عموم المسلمين عن دينهم.
إن ما نشاهده اليوم من صور التكفير اللفظي ، وما يلازمه من إرهاب وعنف في ساحات المواجهة ضد المسلمين في اقطار عدة من العالم الاسلامي لهي ارتدادات وارهاصات لهذه الظاهرة التكفيرية المتجذرة في عمق التاريخ والايديولوجيا . لو تتبعنا واستقصينا فكر جماعات السلفية الجهادية المعاصرة ، كداعش والقاعدة وبوكوحرام والشباب المسلم وجبهة النصرة وغيرها ، لوجدناها تنضح بأفكار الخوارج وابن تيمية
( عبد الكريم ، ص 75) كمفاهيم الشرك والتوحيد والتكفير والعدو القريب والبعيد ولم يسلم من دائرة الكفر الشيعة والسنة والمتصوفة والأشاعرة والليبراليين وكل من رفض فكر التكفير والاقصاء وحوادث التاريخ المعاصر تشهد على ذلك.
ولئن كان الامام علي بن أبي طالب (ع) قد واجه الفكر التكفيري بما يستحقه في بداية صعوده وظهوره ، فإن الحاجة ملحة من المفكرين والفقهاء من شتى الطوائف والمذاهب لبيان فساد هذه الافكار وابتعادها عن الفهم الحقيقي للنص القرآني وتعرية خطورتها على لم الشمل والجماعة ووحدة الأمة الاسلامية .
"إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون" الأنبياء-92
قائمة المراجع
1) الشيباني ، رضوان (2005) . الحركات الأصولية الاسلامية في الوطن العربي – مكتبة مدبولي – القاهرة.
2) الشيخ ، ممدوح (2005) الجماعات الاسلامية المصرية المتشددة في أتون 11 سبتمبر ، مفارقات النشأة ومجازفات التحول ، مكتبة مدبولي ، القاهرة.
3) العبد الكريم ، محمد (2012) صحوة التوحيد ، دراسة في أزمة الخطاب السياسي الاسلامي ، الشركة العربي للأبحاث والنشر ، بيروت.
4) اليماني ، الفخراني (2012) . النزعة التكفيرية في فكر الوهابية . مكتبة مدبولي – القاهرة.
5) سالم ، وليد (2014) المشاركة السياسية للحركة الاسلامية في النظم السياسية العربية المعاصرة ، دار النهضة العربية ، بيروت.
6) سعد ، حسين (2006) . الأصولية الاسلامية العربية المعاصرة بين النص الثابت والواقع المتغير . مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت.
7) عبد الحسين ، ياسر (2015) . الحرب العالمية الثالثة ، داعش والعراق وإدارة التوحش . شركة المطبوعات للنشر والتوزيع ، بيروت.
8) فياض ، عبد الحسين (2008) . غارات القبائل النجدية على كربلاء في مطلع القرن التاسع عشر ، مجلة مركز دراسات الكوفة ، العدد التاسع ، ص 109 – 128.
9) قطب ، سيد . معالم في الطريق . دار الشروق ، القاهرة.
10) منيب ، عبد المنعم (2010) . دليل الحركات الاسلامية المصرية ، مكتبة مدبولي ، القاهرة.
11) موصللي ، احمد (1993) . الأصولية الاسلامية دراسة في الخطاب الايديولوجي والسياسي عند سيد قطب . الناشر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان ، بيروت.
12) موصللي ، احمد (2004) . موسوعة الحركات الاسلامية في الوطن العربي وإيران وتركيا ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت.
13) نسيرة ، هاني (2013) . "السلفية الجهادية و تنظيم القاعدة المنطلقات الفكرية والمرجعيات الفقهية". في : الحركات الاسلامية في الوطن العربي ( اشراف عماد عبد الغني ) ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت.
[1] - انظر : حسن سلهب (2014) .محمود شلتوت قراءة في تجربة الاصلاح والوحدة الاسلامية. مركز الحضارة لتنمية الفكر الاسلامي . ط2 . بيروت.
[2] - انظر:عباس جعفر الإمامي (2011) . الدور السياسي للمرجعية الدينية في العراق الحديث ، بيت العلم للنابهين ، بيروت.
[3] - حول الخوارج والنهروان انظر : تاريخ اليعقوبي (د.ت ) ، المجلد الثاني ، دار صادر ، بيروت ، ص ص 191-193.
[4] - منهاج السنة لابن تيمية (1986) تحقيق محمد رشاد سالم ، الناشر جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية ، 8 مجلدات.
[5] - علي بن نايف الشحود . الخلاصة في بيان رأي شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله بالرافضة . نقلاً عن
www.islamport.com/w/aqd/web/3689/1.htm استرجعت بتاريخ 29-11-2015.
[6] - انظر : منهاج السنة النبوية لابن تيمية ، مصدر سابق.
[7] - الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1386 هـ) ، تحقيق حسنين محمد مخلوف الجزء 3 ط 1. دار المعرفة ، بيروت.
[8] - نقلا عن : Valiasr-aj.com/lib/tareh/01/bool1.htm www. استرجعت بتاريخ 29-11-2015
.
[9] - نقلاً عن : www.unfulfilledduty.weebly.com/uploads/1/8/5/3/18537222/-pdf
استرجعت بتاريخ 29-11-2015 .