المنهج المتوني مدخلا للتقريب بين المذاهب الإسلامية

المنهج المتوني مدخلا للتقريب بين المذاهب الإسلامية

 

المنهج المتوني مدخلا للتقريب بين المذاهب الإسلامية

 

السيد عصام احميدان

مقدمة عامة:

الحديث عن المنهج في فهم الدّين هو حديث عن إشكالية كبرى ألقت ولا تزال تلقي بظلالها على واقع الأمّة ومستقبلها، حيث إن تعدّد القراءات للنّصّ الديني الواحد خاصّة في إطار النص الديني الأساسي وهو القرآن الكريم، أفرز في نهاية المطاف مشهداً مذهبياً متنوعاً في أحسن الأحوال ومتشرذماً في أسوئها..

ومن حقّ الباحث عن مخرج من أزمة القراءة والفهم، أن يتساءل: ألا يمكن الوصول إلى منهج موحّد في فهم الدّين؟ هل يعدّ هذا السّؤال ضرباً من ضروب الخيال وغربة عن عالم الواقع بكل مفرداته؟ أم أنّ السّؤال مشروع ويقع ضمن الممكن المعرفي لا المفارق الخيالي؟

إننا نعتقد أنّ مشكلة المنهج في فهم الدين وقراءة النص الديني، هي مشكلة العقل بالدّرجة الأولى لا مشكلة النص الديني. حيث إنّ العقل ينزع في كثير من الأحوال وأغلبها نحو فكرة (التّأسيس) و (الإبداع) لدرجة إنّ العقل يريد أن يأخذ موقع إدارة النص كلّ النص بما في ذلك النص الديني.. وهنا يكمن مأزق العقل وتكمن مشكلة النص الديني..

وخفي على هذا العقل أن النص الديني يختلف عن غيره من النصوص ويتضمن جهات تَمَايُزٍ وتَغَايُرٍ لا يمكن لمن يتسلّح بالموضوعية والعلمية أن يغضّ الطّرف عنها..

فالنص الديني كغيره من النصوص يحرز كينونته الواقعية من استجابته الفعلية لمتطلبات الواقع وحركته اليومية، فهو من هذه الجهة -أي النص الديني- متشكّل واقعي، ولعلّ نزوله التّدريجي إنما كان تعبيراً عن محاكاة للواقع ومعايشة لأوضاعه وقضاياه..

وتدلّ على ذلك عدّة آيات وسور كريمة، كان الجواب القرآني فيها إثر حركة للسؤال في سياق الواقع ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ.. و ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ.. و ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ... و ﴿يَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ...

وأيضا لمعالجة قضايا تتحرّك في أرض الواقع﴿قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا.. و ﴿عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ.. و ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ.. فنلمس من كلّ ذلك متابعة تفصيلية لحيثيات واقعية..

وهناك جهة تمايز وتغاير بين النص الديني وغيره من النصوص، تفرضها رسالية النص الديني وهدفية الوحي المتمثلة في إرادة صياغة الإنسان وبنائه وفق منظور متكامل ومنسجم ألا وهو المنظور الرباني لعملية البناء الإنساني بل والكوني أيضا..

فالنصّ الديني يتبدّى من هذه الجهة مشكّلاً واقعياً، وليس فقط متشكّلا واقعيا، فالنص الديني بوصفه المتشكّل المشكّل جمع بين عنصري الموافقة والمخالفة للواقع، المعانقة والمفارقة له..

وأعتقد أنّ اتّجاهين في قراءة النص الديني وفهمه، وهما: الاتّجاه الجوّاني والآخر البرّاني، فالاتّجاه الجوّاني أو الداخلي وهو اللّغوي الذي يركّز على بنية اللّفظ ودلالاته، بناء على معطى أساسي وجوهري وهو أنّ الزّيادة في المبنى يلزم منها زيادة في المعنى والعكس صحيح أيضاً، قصر نظره على النص الديني بوصفه نصاً حاملاً لفكرة التّغيير وإرادة التحرير، وتتلخّص مهمّة الباحث في استكشاف غاياته ومعانيه استناداً إلى مقدمات لسانية ولغوية، لها مقدار من الكاشفية عن عمق المعاني وأسرار الذّات..

وغاب عن أصحاب هذا الاتّجاه أنّ النص الديني، جاء في سياق واقعي أيضاً، وأنه يعبّر بشكل أو بآخر عن محنة أهل الأرض، فالسياق الخارجي والظروف الواقعية لها مدخلية في فهم معاني النص وأسراره أيضاً، فالألفاظ ليست سوى جزء من القرائن ذات الوظيفة الكشفية عن مراد المتكلم وهو الله في هذا المقام..

فهناك أيضاً قرائن خارجية وظروف واقعية وملابسات محيطة بحركة النص وتطوره في سياق تفاعلي مع حركة الواقع ومتطلباته.. ولذلك اهتم علماء المسلمين بعلم أسباب النزول وعلم الناسخ والمنسوخ، وهي علوم تركّز على الجوانب الخارجية للنص، والسياقات المحيطة به، بوصفها قرائن أحوال في مقابل وظيفة الألفاظ: قرائن المقال.

وأيضاً، وقع أصحاب المنهج الواقعي في قراءة وفهم النص الديني في مشكلة التعامل مع النص كمتشكّل واقعي، وغيّب في إطار هذا المنهج، الجانب الرسالي في النص الديني، وهو جانب يعكس الهدف الأساس من وراء وجود النص الديني ذاته..

فالهدف هو ﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وهو هدف يفرض على النّص أن يتمايز مع الواقع المظلم وأن يتسلّح بخصوصيات تنويرية تحقّق تلك الغاية الوجودية من وراء النص الديني.

وحاول اتّجاه آخر بعدما لاحظ تغيّيباً لأحد بعدي النّص الديني ودعامتيه الأساسيتين: الاستجابة والتفاعل العضوي الواقعي والممانعة في أفق الفعل الثوري الرسالي، وتصحيح الأوضاع الإنسانية بالشكل الذي تنسجم فيه الحياة وتتناسق قسماتها وأبعادها الحضارية.

وحاول هذا الاتّجاه الذي يمكن تسميته بالاتّجاه التّوفيقي أن يقيم مصالحة بين بعدي النص الديني وأن يخرج بقراءة محكمة للنص الديني، غير أنه وقع في مشكلة أكبر، وهي (النزعة الالتقاطية) والفهم المزاجي للنص الديني البعيد عن الضوابط الموضوعية في حركة العقل الإنساني على قاعدة النص نفسه.

فلاحظنا كيف يتم اعتماد آليات لغوية محضة في الوصول إلى رؤية معرفية يدّعى أنّها قرآنية، وفي مورد آخر تتمّ هجرة المنهج السابق نحو اعتماد لآليات التحليل الواقعي لخلفيات النص الديني في سبيل استكناه معانيه وكشف أسراره.. وهي ملاحظة تبرز بشكل كبير في الموارد التي يخالف فيها الظهور أسباب النّزول، فنجد الباحث يقف متحيّراً لا يدري ما السّبيل، وينتهي في الأخير إلى اختيار أحد العنصرين دونما تحديد للضوابط الموضوعية لهذا الاختيار، وكأن الحالة في هذا المضمار أشبه بالعبثية والمزاجية..

وهكذا تتهاوى أطروحة التوفيق، لتكشف عن هشاشة في المنهج وضبابية في الأطر الفكرية والعملية لمعالجة الفهم الديني للنصوص.

وتشترك المناهج الثلاثة في أزمة منهجية واحدة، وهي السمة العامة التي تحكم تلك الآليات المعرفية أو تلك الاختيارات المذهبية، ونقصد بذلك أنّ إرادة التّأسيس لمنهج يحكم فهم النص الديني، تعكس رؤية غير متزنة للنص الديني نفسه وخاصة للقرآن الكريم، حيث يبدو النص الديني في وضعية القصور والعجز الذي يدعو إلى تدخل عقل قارئ أو باحث مستفيد من تجاربه الواقعية ومتسلح بخلاصات أولية وقبليات عقلية..

ولعمري كيف للنصّ الذي يريد أن يحكم العقل الإنساني وأنماط تفكيره في سياق حركة فعل ثوري رسالي ينطلق من منظومة الأفكار والقيم لينتهي إلى نسق العلاقات العامة، أن يكون محكوماً بنفس العقل وبتراكمات واقعية..

وغاب عن كلّ من ذكرنا أن النص الديني بوصفه النص المشكّل للعقل والواقع..لابدّ أن يكون نصّاً مفارقاً ويمتاز عن غيره من النصوص بخصوصية منهجه واستقلاله عن غيره من النصوص..

ممّا يعني أن المنهج هو بُعد من أبعاد النص الديني، وخصوصاً مع استنادنا إلى معطى أساسي وهو أن القرآن الكريم -مثلاً- جاء لبناء الإنسان، ولا يتمّ ذلك من دون بناء منهجه الفكري الصحيح بعد بنائه الثقافي والرّوحي، وهو ما يعبّر عنه الله عزّ وجلّ في كتابه الكريم بـ﴿الْحِكْمَةِ إذ يقول تعالى﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِين.

فالذي يريد بناء منهج تفكير الإنسان، كيف له أن يكون فاقداً لمنهج ذاتي، ومفتقراً إلى تأسيس عقلي جديد لمنهج استنادا إلى تراكم الخبرة النّظرية والعملية في سياق الواقع وتطوراته؟!

لذلك، فإنّنا نعتقد أن النصّ الديني وخاصة القرآن الكريم يمتلك منهجه الخاص، وأنّ مهمّة العلماء والباحثين هي استكشاف ذلك المنهج وليس تأسيسه، وبين الكشف والتّأسيس بون شاسع بلا شك..

وتأتي محاولتنا في هذا السياق لتسليط الضّوء على منهج الفهم الديني وفق آليات من صنع الدين نفسه، بعيداً عن غرور التّأسيس وادّعاء الإبداع، التي انتهت فيما انتهت إليه إلى تشرذم العقل وضياعه في متاهات (المنهج) .

ونقدم بين أيديكم خلاصة أولية عن هذه الرؤية المتواضعة، لعلّها تحتسب لنا في ميزان حسناتنا وليذهب الله بها عنّا بعض سيّئاتنا إنّه سميع مجيب.

الخلاصة الأوّليّة لبحث: (المنهج المتوني في النّظر للنص الديني) :

1- (النص) و (المتن) جدل اللفظ وجدلية المعنى:

(النص الديني) عبارة أخذت موقعاً مركزياً في الكتابات الفكرية الحديثة، والمطارحات النقدية في سياق دراسة التراث بشكل عام والتراث الديني بشكل خاص.. لكن العبارة تحتاج إلى إعمال آلية الفحص اللغوي لاستكشاف خلفياتها وأبعادها، وهو ما يمكن أن يساعدنا في فكّ طلاسم المنهج وإشكالياته..

(النص) كما جاء في لسان العرب لابن منظور يحمل معاني: الظّهور والارتفاع والإسناد، حيث ورد أن:

«النصّ: رَفْعَكَ الشّيءَ.

نصّ الحديث، ينصُّه نصًّا: رَفَعَه.

وكلّ ما أظهر، فقد نصّ.

وقال عمرو بن دينار: «ما رأيت رجلاً أنصّ للحديث من الزّهري» أي أرفع له وأسند.

يقال: نصّ الحديثَ إلى فلان أي رفعه، وكذلك: نصصته إليه.

ووضع على المنصّة أي على غاية الفضيحة والشّهرة والظّهور.

والمنصّة ما تظهر عليه العروس لتُرى (..).

والنصّ والنّصيص: السّير الشّديد والحثّ، ولهذا قيل: نصصت الشّيء رفعته، ومنه منصّة العريس.

وأصل النصّ: أقصى الشّيء وغايته، ثمّ سمي به ضرب من السّير سريع.

ونصُّ كلٍّ شيء: منتهاه».

وفي مقابل هذا المعنى يبرز لفظ آخر ومفردة أخرى، بينها وبين لفظ النصّ مشابهة كبيرة وهي مفردة (المتن) والتي تحمل معاني:

الارتفاع والظهور وبعد الغاية والقوّة والشدّة ومحلّ الإسناد..

«ومتنُ كلٍّ شيء: ما ظهر منه، ومتن القدر والمزادة: وجهها البارز».

وجاء في لسان العرب لابن منظور:

«متن: المتن من كلّ شيء: ما صلب ظهره، والجمع متون ومتان.

ومتن كلّ شيء: ما ظهر منه.

ومتن المزادة: وجهها البارز.

والمتن: ما ارتفع من الأرض واستوى، وقيل: ما ارتفع وصلب..

والتّمتين على وزن التّفعيل، خيوط تشدّ بها أوصال الخيام.

ورجل متن: قوي صلب.

ووتر متين: شديد.

وشيء متين: صلب.

والمماتنة: المباعدة في الغاية»

وفي (مجمع البحرين) جاء في معنى (المتن):

وَمُتنَ الشيءُ بالضم متانة: اشتد وصلب فهو متين (..)

والمتن من الأرض: ما صلب وارتفع.

ومن خلال إمعان النّظر في اللّفظين ومدلوليهما، يتضح لنا عمق المماثلة ودقة المفارقة والاختلاف، فالنص والمتن يشتركان في عنصر الارتفاع والظهور وأيضاً جهة الإسناد، غير أنّ النصّ هو مسند والمتن مسند إليه، ودعامة جهة الإسناد في المتن عنصر الشدة والصلابة فيه، وهو عنصر مفقود في سياقات النص.

ومن هنا، يمكننا القول: إنّ النص ظاهر ومرتفع لا بنفسه بل لعلّة إسناده لغيره وهو المتن، أمّا المتن فعلّة ظهوره وعلوّ مكانه وارتفاعه ذاتية، إذ هو صلب وشديد.

2-النص) و (المتن) في سياق الخطاب الدّيني:

على ضوء النّظرة الأولية على جوانب التماثل والتّمايز بين (النص) و (المتن) من الناحية اللّغوية، نستطيع القول: إن (النص الديني) محكوم بـ(المتن الديني)، حيث إن ظهور (النص) وارتفاعه راجع في عليته إلى قوة المتن وصلابته.

وهو ما يسمح بالقول: إن النص الديني مرن بطبعه ومحتاج في ظهوره إلى المتن، وهو حديث يحيلنا إلى مفهوم الثابت والمتغيّر في الخطاب الديني، ونقصد بالخطاب الديني ذلك الخطاب المتأسّس على قاعدة معرفية مقدّسة في الإسلام، أي: القرآن والسنّة الشّريفة.

فالثّابت هنا هو المتن والمتغيّر هو النص، وكما أن الثابت يمثل قاعدة ارتكاز وحاكمية لحركة المتغيّرات، فكذلك موقع المتن بالنسبة للنص.

وإذا رجعنا إلى القرآن نفسه، لوجدنا هذه اللّفتة المنهجية والإشارة العملية، إلى وجود عنصرين في البنية الدّلاليّة لألفاظ القرآن الكريم، وهما: المحكم والمتشابه.

والمحكم في اللغة: المضبوط المتقن، وفي الاصطلاح -على ما ذكره المحققون- يطلق على ما اتّضح معناه، وظهر لكل عارف باللّغة، على ما كان محفوظاً من النسخ أو التخصيص أو منهما معا، وعلى ما كان نظمه مستقيماً خالياً من الخلل، وعلى ما لا يحتمل من التأويل إلاّ وجهاً واحداً، ويقابله بكل من هذه المتشابه» ([1]) ..

ومن خلال التعريف الذي ذكره المحققون، نستشفّ أنّ معنى المحكم أعم من اللّفظ الذي لا يحتمل إلاّ معنى واحداً في دلالته وهو نفس ما يسمّيه الأصوليّون بـ«النصّ».. بل إنّ المحكم هو متن القرآن الكريم ويدخل فيه: الخاص والنّاسخ والنصّ في الدّلالة وظاهرها، ولكون الأخير هو ما اشتهر في تعريف لفظ «المحكم» فإنّنا نعبّر عن المحكم الأعمّ بلفظ «المتن».

وفي مقابل ذلك، يبرز: العام المخصّص والمنسوخ والمجمل الدّلالة، وهو المتشابه الذي نهى القرآن عن اتّباعه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، في حين أن تأويله لا يعلمه إلاّ الله، أمّا الرّاسخون في العلم فلا يعملون به مع إيمانهم به المعبّر عنه في قولهم﴿كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا.. فقد جاء في الخبر «بإسناده إلى الرقّاشي عن أبيه عن محمّد بن مروان عن المعارك بن عبّاد عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «تعلّموا القرآن وتعلّموا غرائبه وغرائبه فرائضه وحدوده، فإنّ القرآن نزل على خمسة وجوه حلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال، فاعملوا بالحلال ودعوا الحرام واعملوا بالمحكم ودعوا المتشابه واعتبروا بالأمثال([2]).

وفي رواية عن جابر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: سمعته يقول: «إنّ القرآن فيه محكم ومتشابه، فأمّا المحكم فنؤمن به ونعمل به وندين به، وأمّا المتشابه فنؤمن به ولا نعمل به وهو قول الله في كتابه: (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ).

وقد يقال بأنّ المتشابه كما هو ظاهر هذه الروايات إنّما هو مجعول للإعراض والتّرك، ولكنّنا لا يمكننا بأيّ حال من الأحوال القبول بهذا القول، لما فيه من تعريض بالقرآن الكريم ووصفه بكونه يتضمّن ما لا يفهم ولا يعمل به، فما وظيفته إذن، مع اتّصافه بأنّه الكتاب المبين، ولذلك فلا بدّ من الرّجوع إلى روايات أخرى أكثر تفصيلاً وأصحّ سنداً لبيان الموقف من متشابه الكتاب وتحديد وظيفتنا العمليّة اتّجاهه.

فقد جاء عن الصّدوق في العيون عن أبيه عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن أبي حيّون مولى الرّضا (عليه السلام) عن الرّضا (عليه السلام) قال: «من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم، ثمّ قال: إنّ في أخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن ومحكماً كمحكم القرآن فردّوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا». ([3])

فكما هو واضح من الرّواية التي بين أيدينا وغيرها كثير في هذا المقام أنّ قانون الإحكام و التّشابه وحاكميّة ما كان محكماً على ما كان متشابهاً، ليس قانوناً خاصًّا بالقرآن بل هو أيضاً قانون يشمل الحديث والسنة الشريفة، كما أنّ الرّواية أبانت عن آلية التعاطي مع المتشابه في أفق تفسيره وتأويله ابتغاء الحقّ لا الفتنة وهي آليّة الإحالة على المحكم من الكتاب والأمر نفسه يجري بالنسبة للحديث والسنة الشريفة.

فالقرآن والحديث كما رأينا أفصحا عن المنهج في التّعاطي معهما، ولم يكن موقفهما سلبيًّا اتّجاه مسألة «المنهج»، وبالتّالي فلماذا افتعال إشكاليّة المنهج في الفكر العربي المعاصر، والحديث عن ضرورة تأسيس منهج عقلاني أو حداثي أو ما شابه في أفق تفسير النصّ الديني أو تأويله؟!

أليست العمليّة أشبه بعمليّة هروب نحو الأمام؟! ألا يجدر بنا استكشاف منهج النص الديني بدلا من التّعلّق بأوهام التأسيس وادّعاء الإبداع؟! أليست الموضوعيّة تقتضي منّا إن أوجد صاحب النص منهجاً في التّعامل معه تقديمه على سواه من المناهج المبتكرة؟! أليس صاحب النصّ أولى بفهم نصّه وبعرض طريقة فهمه؟!

أسئلة كثيرة نوجّهها لأصحاب دعوة التأسيس المنهجي في فهم الكتاب والسنة.. ونعتقد في الوقت نفسه أنّنا لتحقيق عمليّة الفهم تلك نحتاج إلى البحث عن «المتن» الديني، فهو المفتاح للوصول إلى تلك الغاية.. فما هو «المتن» الديني؟ وما هي وظيفته؟ وما هي آليّات اشتغاله في أفق استكناه خلفيات وآفاق النص الديني؟..

الجواب على هذه الأسئلة يشكّل الأرضية الأساسيّة للبحث والنقاش، بهدف التوصّل إلى المنهج الذّاتي للنص الديني..

3- المنهج المتوني: «الوظائف وآليات الاشتغال:

«المتن» الديني هو القاعدة المتينة والأرضية الصّلبة التي تزوّدنا بالمنهج في التّعامل مع نصوص الكتاب والسنة، وإن كان «المتن» أيضاً هو «نصّ»، غير أنّ هناك علاقة منطقيّة من نوع العموم والخصوص المطلق، إذ كل متن فهو نصّ، وليس كلّ نص متن.

فالنصّ وفق هذه العلاقة أعمّ مطلقاً من المتن، وهذا الأخير أخصّ مطلقاً..

وليس «المتن» الذي نريد بيانه وعرضه هو المحكم بالمعنى الخاص الذي يعرّف بكونه اللّفظ الذي لا يتحمّل إلاّ معنى واحداً، ولا نريد به أيضاً المحكم بالمعنى العام الذي يتضمّن: الخاص والمقيّد والنّاسخ والنصّ في الدلالة.. بل «المتن» هو تلك النّصوص التي جعلت لغاية كلّية وهي غاية بيان «المنهج الذّاتي» للنّص الديني سواء كان قرآناً أو سنة.

فكلّ متدبّر حكيم يدرك أنّ الفارق بين قوله تعالى﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ.. وقوله تعالى﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ.. هو فارق في الغرض من كلّ نصّ من النّصّين، فالآية الأولى ليست بصدد بيان منهج فهم الكتاب وتفسيره، بل هي في صدد عرض الموقف الإلهي من السّلوك الإنساني مع تحديد مصير كلّ سلوك..

أمّا الثّانية، فهي بلا شكّ بصدد عرض منهج القرآن في فهم القرآن.. لذلك فالآية الأولى نص والثانية متّصفة بصفة زائدة عن كونها نصًّا وهي كونها «متناً»، لأنها تحكم عمليّة الفهم، وتقعّد لها من خلال ضوابط إجرائية عملية في أفق استيعاب عملية الفهم وجعلها ممكناً معرفيّاً لا مفارقاً خياليّاً..

ولاشكّ أنّ هناك فارق جوهري دقيق بين الحديث: «المؤمن القوي خير من المؤمن الضّعيف» والحديث الذي ورد عن أكثر من إمام من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) القائل: «إن جاءكم بالخبر عنّا برّ أو فاجر فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافقه فخذوا به، وإن خالفه فاضربوا به عرض الجدار»، فالحديث الأوّل ليس في مقام التّأسيس المنهجي لعمليّة الفهم الدّيني أمّا الثّاني فهو في صلب ذلك المقام وتلك العمليّة.

ولذلك، فإنّني أعتقد أنّه بات من الضّروري لتجسيد المنهج المتوني في النّظر للنص الديني أن يتمّ استقراء المتن من النص سواء في مقام القرآن الكريم أو في مقام السنة الشريفة..فذلك هو ما يمكن أن يجعلنا نتجاوز إشكالية المنهج في فهم الإسلام..

ونقصد باستقراء المتن من النص الديني، ضرورة تحويل مفردة المنهج المتوني في النص الديني إلى محور في التّفسير الموضوعي، وهو ما نلاحظ غيابه على صعيد السّاحة الفكريّة، واستغراقها في جوانب أخرى من جوانب التفسير الموضوعي كالإعجاز العلمي في القرآن الكريم والظاهرة الاجتماعية في القرآن الكريم والحركة التّاريخية في القرآن الكريم، مع أنّني أعتقد بأن مسألة المنهج المعرفي في فهم القرآن والسنة لابدّ أن تحتلّ الأولوية الكبرى ضمن هذه البحوث في التّفسير الموضوعي، لما لها من مدخليّة أساسية في تأسيس الرّؤية القرآنية لمختلف القضايا بما فيها القضايا المذكورة.. ممّا يعني أنّه إن تمّت بلورة المنهج القرآني في فهم القرآن مثلاً، فإنّ ذلك سيمتدّ بنتائج ربّما جديدة ومغايرة تتجلّى في الأبعاد المذكورة: الاجتماعية والتّاريخية والعلمية في القرآن الكريم.

فالمتن الديني وظيفته الكشف عن مراد المتكلّم بناء على قاعدة إجرائيّة-عمليّة، والمنهج المتوني يشتغل وفق آليّات محدّدة تتلخّص في آليّتين وهما:

1-آليّة العرض.

2-آليّة الإحالة.

فالمتن القرآني مثلاً تارة يعرض منهجه في تفسير النص القرآني، وتارة أخرى يحيل على مرجعيّة معرفية دينية يتم من خلالها إمّا عرض المنهج أو إحالتها على القرآن نفسه أو مرجعيّة أخرى لبيان طبيعة المنهج..

فالحركة في أفق المنهج تتّخذ عدّة صور وأبعاد، فقد تكون الحركة ذات مسار واحد مستقيم كما هي حالة أسلوب العرض أو الإحالة على مصدر معرفي آخر يفصح عن خلفيات الألفاظ وأسرار المعاني، كما قد يكون المسار متعدّداً ودائرياً، حيث إن الإحالة من مصدر معرفي (القرآن مثلاً) إلى مصدر معرفي آخر (الحديث والسنة) قد ترتدّ إلى إحالة من الحديث إلى القرآن، لتنتهي الرحلة المعرفية في أفق استكشاف المعاني إلى تفسير القرآن بالقرآن.. ولا يلزم من ذلك ورود إشكال الدّور واستغلاق المعاني وتوقف الشيء على نفسه، لكون الإحالة الثانية ترجع إلى المتن في القرآن بعد أن كانت الإحالة الأولى تنطلق من النص لا من المتن.

وأعتقد أنّ علماء القرآن قد أبدعوا في صياغة علوم القرآن، وقدّموا الكثير من الإيضاحات حول تفسير القرآن بالقرآن وهو أشرف مناهج تفسير القرآن وأهمّها على الإطلاق، وحول تفسير القرآن بالحديث وهو المنهج الأثري في تفسير القرآن، ويقع في المرتبة الثانية من حيث الأهمية بعد تفسير القرآن بالقرآن.

ولكنّنا نعتقد في الوقت ذاته أنّ حلقات بناء المنهج المتوني لم تكتمل بعد، ولا يزال هناك مشاريع أخرى في طريق علماء القرآن وعلماء الحديث، وهي: تفسير الحديث بالقرآن وتفسير الحديث بالحديث..

وتفسير الحديث بالقرآن لم يأخذ حيّزاً من الدّراسة والبحث بسبب الفكرة التّقليديّة السّائدة لدى علماء القرآن والحديث والقائلة بكون القرآن أشرف وأعلى درجة من السّنة ولذلك فالسنة شارحة ومفسّرة للقرآن.. ولا يمكنها أن تكون مفسَّرَة بالقرآن، ولكون القرآن أكثر عمومية في صياغته وخطابه من السنة فهو من يحتاج إلى تفسير وإيضاح..

والحقيقة أنّ الحديث إن كان مجملاً في دلالته ولم يمكن ترجيح أحد معانيه على الآخر، فيمكننا من خلال العرض على القرآن الكريم تعيّين أحد الوجوه بطريق أو بآخر ولو من خلال أسلوب الانحصار الذي يتم من خلال نفي أحد المعاني المحتملة لبطلانه وعدم انسجامه مع القرآن، فيتعيّن المعنى الآخر.. وفي تعيين أحد المعاني المحتملة في لفظ الحديث بواسطة القرآن تكمن إمكانية تفسير الحديث بالقرآن..

والأمر نفسه يقال بالنسبة للحديث، حيث هناك أحاديث تحكم ما تشابه من الأحاديث وهو أسلوب أفصح عنه أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كما ذكرنا سابقاً..

فوجوه التفسير إذن على النحو التالي:

1- تفسير القرآن بالقرآن.

2- تفسير الحديث بالحديث.

3- تفسير القرآن بالحديث.

4- تفسير الحديث بالقرآن.

وأعتقد أنّ أكبر مشكلة في إطار عملية الفهم الديني هي مشكلة فهم الحديث، فقد أخذ الحديث مكانة مركزية في الفكر الإسلامي تاريخياً وإلى يومنا هذا، غير أنّ هذه المرجعية الدينية ليست معصومة من الزيادة والنقصان ووقوع التحريف والتبديل كما هو حال القرآن، لذلك فالخلاف الحاصل بين الروايات عميق جدّا، وهو خلاف امتدّ إلى داخل النسق الدّلالي القرآني، ليطبعه أيضاً بطابع الخلاف والانقسام في الرؤية والموقف..

ومن المفارقات العجيبة والخطيرة في الوقت نفسه، أنّ الحديث أخذ المكانة المركزية في تفكير المسلمين بسبب تقديس القرآن الكريم وحرص علماء الإسلام أن يكون المصدر المعرفي الأول في الإسلام هو مرتكز العملية التفسيرية وأنه لا يمكن للقرآن أن يفسّر الحديث، لكنّ ذلك أدّى إلى هيمنة الحديث على القرآن، فانتقل جوهر الخلاف الحاصل في الحديث إلى خلاف حاصل في الرؤية..

إنّ علماء المسلمين في تفسيرهم للقرآن ارتكزوا على الأثر من الحديث خوفاً من التّجاوز على قدسيّة القرآن الكريم وتجنيبه التفسير بالرّأي وما شابه ذلك..

كما أنّهم في تفصيل مجملات القرآن رجعوا إلى الحديث، فأصبح الحديث حاكماً على القرآن، في الوقت الذي رفعوا فيه شعار: أنّ الحديث دون القرآن في الدرجة والرتبة..

ونعتقد أنّه لبلوغ توحيد الفهم الديني من خلال منهج موحد وثابت، فإنّ هذا الهدف -إن سلّمنا بواقعيته- لا يمكن المرور إليه إلاّ من خلال جعل القرآن حاكماً على الحديث لا على مستوى الشعار فقط، بل على مستوى التطبيق العملي أيضاً.

فالمصنفات الحديثية ومرجعيات الحديث مختلفة، كما أن الوضع والتّدليس والاختلاف في دلالات الروايات إلى حد التعارض الكلي المستقر، لا يمكن أن تساهم في بناء منهج موحد لفهم الدين، لكون المنهج هو في نهاية المطاف صورة العملية البرهانية في حين تساهم مادة تلك العملية في عدم توحيد المعرفة بسبب اختلافها.

كما أنّه لا يمكن إخضاع قطعي الصّدور لظني الصّدور أو ما كان قطعي الدلالة لما كان ظني الدلالة، ونقصد بذلك أنّ المحكم في القرآن الكريم هو الحاكم على الحديث، لجهة حيازته القطع بصدوره وبدلالته على معنى محدّد.

إنّ تجاوز الخلاف الحاصل في تفسير متشابه القرآن تتمّ من خلال حاكمية المحكم منه على متشابهه، وتجاوز الخلاف الحاصل في تفسير الحديث أو تعيين صحّة صدور الحديث تتمّ من خلال حاكمية المحكم من القرآن على الحديث..

بل يمكن القول: إنّ القرآن الكريم هو وحدة كلية محكمة ليس فيها متشابه، فالتّشابه هنا مفهوم نسبي يتحدّد بحسب مدى إجراء المحكم على المتشابه، فقبل هذه العملية، لا يمكننا نفي وجود الإثنينية أي وجود المتشابه إلى جانب المحكم، أمّا أن يتمّ إحكام متشابه بمحكم، يصبح ذلك المتشابه المحكم قادراً على القيام بدوره في إحكام غيره ممّا تشابه وهكذا..

وإذا رجعنا إلى القرآن الكريم قليلا لوجدناه يصف نفسه بكونه الذي أحكمت آياته ثمّ فصّلت بعد ذلك ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ.. ([4]) . وفي موضع آخر يصف القرآن نفسه بأنه كتاب متشابه ﴿كِتَابًا مُّتَشَابِهًا([5]) . وفي موضع آخر يصف القرآن نفسه بكونه يتضمّن محكماً ومتشابهاً ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ.... فكيف يمكن فهم كلّ ذلك؟

المسألة هي أنّ المحكم في الآية الأولى هو المجمل في الحكم بقرينة «ثمّ فصّلناه» والمتشابه في الآية الثانية يعني الاتساق والانسجام لأنّه من معاني التشابه وبقرينة «أحسن الحديث» كتاباً متشابهاً.

أمّا في الثالثة، فالمحكم هنا هو ما نبحث في سياقه، وكما هو ظاهر أنّه يمثّل بعض الكتاب لا كلّه بقرينة «منه» والتي تفيد التبعيض.

وتستوقفنا في هذا المقام عبارة «هنّ أمّ الكتاب» وأمّ هنا بمعنى أصل، فالمحكم هو أصل الكتاب.. ولا بدّ من الأصل أن يكون مجملاً في الحكم ومتيناً وثابتاً يحكم الآيات المرنة المتعدّدة دلاليًّا والمتغيّرة..

إنّ فهم الدين يتمّ من خلال المنهج المتوني في النظر للنص الديني، أي أنّ توظيف المتن الديني في استيعاب أسرار النص الديني ومعانيه الخفية أو تعيين ما أجمل من معانيه..وما دام هناك إجماع بين المسلمين حول القطع بصدور القرآن الكريم وأيضاً القطع بدلالة المحكم، فإنّ عملية التوحيد في إطار الفهم الديني للنصوص ممكنة وليست مطلباً مثالياً..

لكن قد يقال بأنّ التوافق حول بعض محكمات الكتاب الكريم لم يمنع من الاختلاف في تأويل دلالاتها ومعانيها والبناء عليها في تشكيل رؤى مختلفة ومتعارضة أحياناً.. فعلى سبيل المثال، يقول الله عزّ وجلّ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فقد قالت بعض فرق المسلمين: إنّ الآية بصدد نفي المشابهة المعبّر عنها بحرف الكاف وهو للتّشبيه، فيلزم من ذلك نفي كلّ أفراد المشابهة كالتّجسيم وغيره.. وقالت فرق أخرى: إنّ الآية لا تمنع التّجسيم بقدر ما تمنع المشابهة، فيمكن نسبة الجسمية للذات الإلهية مع التمسك بالقول بأنّها جسم لا كالأجسام أو القول عند السؤال عن الكيف الجسماني: (جسم لا بكيف).. وقال آخرون: الآية أجنبية عن مقام نفي المشابهة مع الذات الإلهية والفعل الإلهي، بل هي في مقام نفي المشابهة مع مثيل الله لأن الكاف تعني (مثل) أي (ليس مثل مثله شيء...)

فكما هو واضح، فإن الآية المحكمة أيضاً تحوّلت محلّ خلاف واختلاف، فكيف تدّعون إمكانيّة توحيد الفهم الديني من خلال توحيد المنهج وإحكام المتشابه..؟!

وليس الأمر كذلك، حيث إنّ العقل الإنساني يستطيع تأويل ما هو نصّ في المعنى فضلاً عمَّا كان ظاهراً في معناه، فكما أن العقل يمكن أن تعرض له شبهة في مقابل بديهة، فإن البدهي يبقى بدهياً ولا تغيّر الشّبهة من أمره شيئاً..والأمر نفسه يجري في مسألة الآيات المحكمات، فالمحكما يبقى محكماً وإن عرضت الشبهة لبعض فأوَّلوا ما لا يجوز تأويله..

خلاصة القول: إنّ دعوى التأسيس المنهجي لفهم الدّين تفتقد الجانب الموضوعي والعلمي في التعاطي مع المعطيات، وأمام وجود نص كالنص الديني الإسلامي لا يمكن ادّعاء كينونة النص مجرّدا عن أدوات إجرائية منهجية لاستيعاب مضامين النص الديني ما ظهر وما بطن..

فلا يمكن والحال هكذا إلاّ العمل على استقراء النصوص الموجّهة لمسألة المنهج في فهم القرآن والحديث، فهي التي تمثّل المتن للنص وبالتالي تمثّل القاعدة الصلبة لبناء تصورات عن الوحي وحركته الواقعية ومشروعه لهداية الإنسانية جمعاء..

وفي الأخير، لابد من توضيح أمر هام يتعلّق بمسألة توحيد الفهم الديني، وهو أنّ إشكاليات عديدة علقت بالبحث القرآني أو الروائي كان مصدرها الأساسي عدم تفعيل الأطر العملية للمنهج المتوني والتقيّد بتوجيهات النص الديني نفسه في مجال المنهج في فهم الدين..

فمن بين تلك الإشكاليات: إشكالية التفسير الظّاهري والتّفسير الباطني، والتي هي في حقيقتها إشكالية غير حقيقية حاولت إيجاد ثنائية صارمة في المنهج التفسيري للقرآن الكريم، ومن ثمّ تحديد نوعين من الاختيار المذهبي في سياق التفسير والتأويل..

وعلى ضوء المنهج المتوني، وبناء على تحديدات مفاهيمية ومنهجية من قبل بعض النصوص/ المتون يمكن القول: إن المسألة لا تعدو أن تكون عبارة عن فعالية قانون الجري في التأويل، فتارة يتم تأسيس لفظ عام بلحاظ خاص وأخرى يكون اللفظ خاصاً بلحاظ خاص، وهما من سنخ التفسير لا التأويل، وأخرى يكون اللفظ فيها عاماً واللّحاظ عامٌ كذلك..وأخيراً قد يكون اللفظ خاصا واللحاظ عامٌ.. فبالنسبة لهذين النوعين وحيث يكون مراد المتكلم كلية المعاني سواء كان جسر العبور إليها جزئياً أم كلياً كذلك، فإنه مما يمكن تسميته بالتأويل وجريان اللفظ الكلي أو الجزئي في العالم الكلي للمعاني..

ونعتقد أن عمق المعاني وتجذرها في بطون الدلالات يرجع في الحقيقة إلى كلية المعنى وإمكان انطباقه على جزئيات متكثرة يصح انطباق اللفظ عليها بوصفها مصاديق جزئية لذلك المعنى الكلي..

وقد ألبس هذا الموضوع هالة من القدسية وعبر عنه بطلاسم ورموز وإشارات خفية، في محاولة لترويج الفكر الباطني القائم على أساس التأويل بلا دليل، أو أقصى ما يمكن أن يستدل عليه بمقايسات تمثيلية باطلة أو بعرض متشابه القرآن على متشابهه، في محاولة لابتغاء الفتنة وابتغاء تأويل القرآن بما لا يستقيم من خلال فهم مشوش فاقد للضوابط العامة لحركية التفسير والتأويل.

هذه محاولة أولية، نريد من خلالها تسليط الضوء على جوانب آلية في المنهج الذاتي للنص الديني أو ما نسميه (المتن الديني..)

ونرجو أن تكون هذه خطوة أولى نحو تحرير العقل الاجتهادي من عقدة غرور الإبداع والتأسيس لمنهج يحكم الفهم الديني للنصوص، دونما استرشاد بحركة الوحي وبصائره.. لينصب تفكيرنا بعد ذلك على استكشاف المتن الديني سواء في القرآن الكريم أو السنة الشريفة، لتكون عملية الفهم الديني قائمة بالأساس على العقل المستبصر بالوحي لا العقل المنفصل عن بصائر التوجيه الرباني.. فالعقل في المنظور الإسلامي ذو مكانة عالية لكنه يبقى جهازاً معرفياً محدوداً ومتطلعاً في حركته لآفاق الوحي وبصائره ليكون العقل المعصوم والعقل الكامل، والذي يستمد عصمته و كماله من كمال الوحي ومعصوميته.

4- مشكلة المنهج بين أزمة العقل وأزمة الفعل:

مما لا شك فيه أن هناك أزمة نظرية تتصل بالجانب المنهجي في فهم الدين، ومن ثم متصلة بنمط التعقل الديني للنصوص، غير أن هناك أزمة أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها وهي أزمة تتصل بالجانب العملاني في تجسيد الدين وتحويله من أطر تشريعية إلى أطر تنفيذية..

ولقائل أن يقول: ما هي طبيعة العلاقة بين هذين المستويين؟ وكيف تؤثر أزمة الفعل الديني في بلورة مشكلة المنهج في الفهم الديني؟

وهو سؤال جوهري ومشروع، يفتحنا بلا شك من جديد على إشكالية قديمة جديدة في الوقت ذاته وهي إشكالية أولوية الفهم على الممارسة أو العكس، ومدى تأثير كل منهما على الآخر..

إن الشريعة الإسلامية بما هي حركة وحي ورسالة إلهية تختزن في ذاتها أبعاداً واقعية، لا لكون النص الديني نصًّا تاريخياً كما يدعي أنصار (تاريخانية) النص الديني كمحمد أركون ومحمد عابد الجابري وغيرهما، وإنما لأن الواقع يمثل موضوع الرسالة الإلهية، فالنص الديني إنما جاء ليعالج مشكلة هذا الواقع في أبعاده الثلاث: الإنسان، الكون، الحياة، وهو ما يفرض أن يكون النص الديني ذا جنبة واقعية تمثل عنصر الاتصال مع الأرض لا بمعنى المطابقة وإنما بمعنى المعانقة في أفق الارتقاء بحركة الإنسان نحو أبعاد وفضاءات رسالية أرحب..

فلكون الواقع يمثل جانباً مهمًّا من الخطاب الديني، فإن فهم الواقع يؤثر بلا شك في إدراك خلفيات النص الديني وأبعادها العميقة.. ولما كان العقل ذا مكانة بارزة في عملية الفهم الديني فإن العقل بدوره يؤثر بلا شك في تحديد مسار الثقافة الدينية وطبيعة التجربة الدينية للفرد والجماعة المتدينة.

لذلك يمكن القول: إن هناك فرقا بين الدين كنص ثابت وبين فهم الدين بما هو حركة متغيرة ترتكز على فهم لذلك الدين، وقد تؤثر على هذا العقل مسلمات وقبليات تساهم في توجيه النص الديني وتأويله وفقاً لخصوصيات التجربة الدينية للمفسر والمأوّل..

لذلك، نجد في الكثير من البحوث التفسيرية أو الكلامية التي تنتمي إلى خط مذهبي واحد نزعات عقلية مختلفة ومتفاوتة، فعقلانية الفخر الرازي من داخل المدرسة الأشعرية تختلف في منطلقاتها ونتائجها على صعيد تفسير وتأويل النص الديني مع صوفية أبي حامد الغزالي، بل قد يمتد الخلاف بين النزعتين إلى الخلاف في الموقف من قضايا أخرى لها جهة اتصال بالنص الديني، كما هو الحال من الموقف إزاء الفلسفة أو علم الكلام أو ما شابه ذلك..

فعقل القارئ والمفسر للنص الديني له جانب من المدخلية في تحديد شكل الفهم الديني وأنساقه العامة في التفكير، وأية أزمة داخل بنية التفكير الإنساني قد تؤثر بالتالي على بنية التفكير الديني وتحدد مساراته الخاصة..

فالنزعات العقلية ارتبطت دائماً بظروف ذاتية وموضوعية متعلقة بالناظر في النص الديني، فالموقف المؤيد لإطلاق فعالية العقل غالباً ما يتعزز بعد فترة من الجمود العقلي وضمور قيمة العقل في الوعي الإنساني.. في حين يستمد الموقف المعارض لإطلاق فعالية العقل في التفكير الديني قوته من هيمنة النزعة المتطرفة نحو العقل وضمور قيمة المصادر الأخرى للمعرفة في التفكير الإنساني كما هو الحال مع الوجدان أو النقل..

وفي هذا السياق يبرز مدى التشابك الحاصل بين الفهم الديني والفعل الديني، فالفعل الديني الذي يمكن أن نطلق عليه تعبير «التجربة الدينية» هو الذي يؤثر في صياغة الفهم الديني في شكل نزعة عقلية ذات اتجاه خاص..

غير أننا مع ذلك لا يمكننا من باب الإنصاف والموضوعية أن نجرد الإنسان من أهم عنصر فيه وهو عنصر الإرادة والقدرة على التجرد ومغالبة هيمنة البعد الشخصاني كما الموضوعي، فعملية الفهم الديني قد تكون سبباً لتشكل معالم التجربة الدينية أيضاً، فتتحول الفكرة إلى حركة نحو تغيير المحتوى الداخلي الإنساني ومن ثم نحو تغيير الإطار الخارجي للأمة..

لذلك، فالإنصاف يقتضي القول: إن مستوى الإرادة ومدى قوتها أو ضعفها هو الذي يحدد مدى قدرة الناظر في النص الديني على التجرد وتغليب قيمة الحق على غيرها من سائر القيم الأخرى..

فتغيير المحتوى الداخلي للإنسان هو المنطلق نحو تعزيز موقعية الإرادة في التجرد والرسالية، لتصبح عملية النظر في النص الديني أكثر شفافية في الكشف عن أبعاد النص وخلفياته العميقة..

وهذا ما يعني أن عملية الفهم الديني لا بد أن ترتكز على قواعد أخرى متعلقة بالجوانب الأخلاقية والنفسية للمفسر والمؤوّل.. لذلك كان لابد من تقييد الاجتهاد في النظر للنص الديني بضوابط أخلاقية عالية ضماناً لتحقق التجرد في رحلة البحث عن الحق..

وهذا ما أكد عليه علماء المسلمين، لكنهم قصروا نظرهم ذلك على الجانب الفقهي، حيث أكدوا أكثر ما يكون التأكيد على البعد الأخلاقي في تحديد شرائط الاجتهاد الفقهي، ضمن بحث (الاجتهاد والتقليد)، وغيّبوا الحديث عن تلك الضوابط الذاتية في بحوث علم الكلام والتفسير، مع كون هذين العلمين أشرف وأعظم من علم الفقه، وهذا الأخير يتزود منهما في صياغة ملامحه العامة إن لم نقل الخاصة..

فأزمة التجربة الدينية حديث لطالما غُيّب الحديث عنه في سياق رحلة النظر في النص الديني، وما كان يحضر إلا في سياق الجدل المذهبي الطائفي الذي يسعى نحو الكشف عن الأبعاد الذاتية في تشكيل وعي أرباب المذاهب الأخرى، تقليلاً من شأنها ومحاولة لإظهارها لحالات مذهبية تعبر بشكل أو بآخر عن نفسية مؤسسيها وعقدهم الشخصية..

وهذا الحديث بقدر ما هو سلبي في منطلقاته وغاياته، بقدر ما هو إيجابي في دراسة العوامل المؤثرة في الفهم الديني على قاعدة التجربة الدينية لمؤسسي تلك المذاهب الفكرية سواء كانت سياسية أو دينية (فقهية أو كلامية)..

فالتجربة الدينية تساهم إلى حد كبير في تشكيل الفهم الديني، لكن لا على نحو القسر والجبر، كما أن الفهم الديني ومستوى الإدراك والتعقل يساهم في تحديد مسار التجربة الدينية..

فأزمة المنهج في المحصلة قد تكون أزمة فهم ديني كما قد تكون أزمة عمل ديني يتجه نحو بناء الإنسان الرسالي بناءً يخلصه من هيمنة كل القيم على القيمة العليا الأساسية وهي: قيمة الحق..

فالحديث عن أزمة المنهج إذن لا ينفصل في امتداداته عن الحديث حول أزمة الفعل الرسالي، وتغيير المحتوى الداخلي للإنسان كما هو مدخل لتغيير المحتوى الخارجي للإنسان فهو أيضاً مدخل لمعالجة مشكلة المنهج.. ولعلّ هذا البعد هو البعد الغائب في نقد أطروحات معاصرة تحاول معالجة أزمة المنهج في فهم الدين، وتساهم في بناء تصورات دينية جديدة..حيث إن أغلب هذه الأطروحات لم تجعل قيمة الحق قيمة عليا، فسيطرت قيم أخرى، لتكون المحصلة هي بروز أطروحات مؤدلجة محكومة بخلفيات ذاتية وموضوعية للناظر في النص الديني.. ولست أستبعد حضور البعد ذاته (البعد الشخصاني في التجربة الدينية) في رسم الأطروحات القديمة في مجالات التفكير الديني (علم الكلام، علم الفقه، علم التفسير، علم الحديث..).

وأخيراً، فإننا نعتقد أن التجرد والتزام قيمة الحق من شأنه أن يمثل الخلفية الذاتية نحو تجاوز أزمة المنهج، والتي أعتقد أنها أزمة عقل وليست أزمة نص، فالعقل المستضيء بنور الحق هو العقل الباحث والمنقب عن متون النص الديني ومنهج الدين في فهم الدين، أما العقل المتأثر بقيم أخرى غير قيم الحق، هو العقل المتحرك نحو تأسيس منهج خاص لفهم الدين، بدافع من غرور التأسيس وادعاء التنظير.. هذه مجرد تأملات وعلامات استفهام نثيرها أمامكم لعلها تستفزنا نحو إقامة مصالحة مع ذواتنا أولاً من خلال السير نحو الحق، ونحو تعزيز حضور المنهج الديني في فهم الدين والذي أسميه هنا «المنهج المتوني في النظر للنص الديني» لما للمتن من مدخلية كبرى في تحديد مسارات النص الديني وتقييده وفق مداليل محكمة، وأرجو من الله أن أكون قد وفقت لتقريب هذه الرؤية المتواضعة وبسطها أمامكم لتكون مادة للنقاش في أفق تطويرها وإغنائها.

 



[1]- مجمع البحرين ج 7 ص 338.

[2]- النوري، الشيخ ميرزا حسين، مستدرك وسائل الشيعة ج4، ص234 .

[3]- مصدر سابق، مستدرك وسائل الشيعة ج17، ص345.

[4]- سورة هود، آية 1.

[5]- سورة الزمر، آية 23 .