العولمة والأخلاق

العولمة والأخلاق

 

 

العولمة والأخلاق

 

الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

أستاذ الفقه في كلية الشريعة ـ جامعة دمشق

 

بسم الله الرحمن الرحيم

العولمة التي ظهرت بنحو بارز ومركّز منذ حوالي اثني عشر عاماً او الأمركة هي مظلة جديدة لهيمنة الأقوياء على الضعفاء، وتسويق الاستعمار بمفهوم اقتصادي علمي، وبمخطط ماكر، لتأكيد مفاهيم الرأسمالية وحماية الاحتكارات الكبرى، وتوفير المناخ الملائم للشركات الضخمة او العملاقة للسيطرة على مناطق النفوذ وتسويق الخدمات والمنتجات الغربية، لتحل في نهاية الأمر بسبب تفوقها وتقدمها محل الصناعات المحلية، وتخطي ظاهرة القوميات، وترويج ظاهرة اقتصاد السوق الحر بعد انهيار النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي عام 1989م.

 

والعولمة هي ايضاً اتجاه دولي احادي القطب، لفرض نموذج اقتصادي وسياسي وثقافي معين على جميع انحاء العالم ودوله، متجاوزة حدود سيادة الدولة وحقها الخاص في تنظيم شؤونها، ومرتكزة على مبدأ تسهيل انتقال السلع والخدمات والأموال، والمعلومات والمؤسسات والناس، والتقانة، والثقافة، على مستوى العالم كله.

 

إنها حالة تطبيع عالمي، ثقافي، واجتماعي، واقتصادي، وسياسي، يراد بها احلال العادات والتقاليد الغربية محل غيرها، ولاسيما القيم الإسلامية والآداب والأخلاق الدينية والحياتية المنبثقة من أصول وثقافات تجمع في المفهوم الاسلامي بين الدين والأخلاق ومقتضيات الحياة المادية، دون فصل الدين عن الحياة.

 

وأخلاقيات العولمة تتمثل في ماديتها الطاغية، وتنطلق من فلسفة إلحادية او علمانية، لا تعرف حقيقة الإيمان بالله تعالى، وهي ذات تصورات عنصرية بغيضة، تلتقي مع عنصرية الصهيونية، وتتعانق فيها المسيحية المتشددة الإرهابية مع الصهيونية المدمرة والمخربة لقيم العالم وثقافاته وأخلاقه، وتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وتلغي وجود الآخرين دينياً وثقافياً واجتماعياً وسلوكياً واقتصادياً وسياسياً، وتعتمد على صفتين او قاعدتين: الاستكبار العالمي، والقوة المادية والعسكرية. لذا فإن أغلب شعوب العالم يعارض العولمة، وإن كان لها بعض الإيجابيات او الفوائد، لكن على حساب الضعفاء، وهذا يتطلب وضع خطة علمية لمواجهتها، والحد من سلطانها.

مفهوم العولمة

لم تتضح معالم العولمة بصفتها الظاهرة، وإنما يمكن القول بأنها تعبير عن ديناميكية (حركة) جديدة تبرز داخل العلاقات الدولية([1])، وقد وجدت لها تعاريف متقاربة المعنى، معنها أنها في المفهوم الاقتصادي تعني كما جاء في ندوة (العرب والعولمة): سهولة حركة الناس والمعلومات والسلع والأموال والأفكار بين مختلف الدول على نطاق الكرة الأرضية([2]).

 

وفي المفهوم الأعم: أنها اتجاه دولي أحادي القطب لفرض نموذج اقتصادي وسياسي وثقافي معين على جميع أنحاء العالم ودوله، متجاوزة حدود سيادة الدولة وحقها الخاص في تنظيم شؤونها([3])، فهي ترتكز الى مبدأ تسهيل انتقال السلع والخدمات والأموال والمعلومات والمؤسسات والناس، والتقانة، والثقافة، على مستوى العالم كله متخطية الحدود والحواجز، أي أنها تجعل الشركات العملاقة متخطية القوميات والدولة القومية الواحدة، وتصبح هي الوحدة الأساسية بدلاً عن الدولة القومية.

 

ويتلازم قيام العولمة مع تطورين أساسيين:

 

أ ـ انهيار دول المعسكر الإشتراكي، وتزعم الفكر الاقتصادي الليبرالي (الحر) الرأسمالي.

 

ب ـ الثروة الصناعية الثالثة التي تمثلت في التطور الثقافي الهائل في مجال الاتصالات والمعلومات([4]).

 

وصارت العولمة المعلوماتية: تعني تدفق أنظمة تقنية (تكنولوجية) معقدة لا تعترف بالحكومات والدساتير والقوانين المحلية([5]).

 

وفي جانبها الاقتصادي هي أحدث درجات الاستعمار الاقتصادي، وتعد تطوراً طبيعياً في مسار النظام الرأسمالي الليبرالي، والذي يهدف الى الهيمنة على دول الجنوب والدول النامية، ومنها العالم العربي، فلا تكون في مصلحته، ولا لخدمة مصالحه، وإن لم يملك العرب ولا غيرهم في زعم مخططي العولمة أن يقبلوها او يرفضوها، فهي أمر مفروض لابد منه، وقانون تاريخي ينطبق على الجميع، سواء كان عالماً إسلامياً او علمانياً.

 

وكذلك تكون العولمة في منهجها السياسي أحد أشكال الهيمنة السياسية بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وانفراد المعسكر الرأسمالي بقيادة أميركا بالسيطرة على العالم، وحينئذ تمحى الإرادة الوطنية المستقلة للدول. وتأتي عولمة الثقافة والترويج للصناعات الغربية وإشاعة أنماط الاستهلاك الغربية، تمهيداً لإلغاء مظاهر الأنماط الثقافية المحلية، واحتلال العولمة مكانها. فهو إذن مصطلح تعاوني رحيم في الظاهر، وضرر مركز في الباطن، يتضمن استيلاء واقعياً على مقدرات الشعوب والأمم.

 انواع العولمة

العولمة: حالة تطبيع عالمي، ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، ويكون لوسائل الإعلام المختلفة دور مهم في توطيد القيم الجديدة المرتبطة بالإطار العام لمفهوم العولمة. فهي ثلاثة أنواع:

1ـ عولمة ثقافية

تعني تغريب الثقافات([6])، الوطنية بواسطة قوى الإعلام والتقنية الجديدة؛ وانتشار التوكيلات التجارية في أسواق الخليج وغيره. وهي نوع من الغزو الفكري والثقافي والقيمي على مستوى العالم كله، وبإسم العالم كله، وتفرض نموذجاً معيناً ونمطاً محدداً في التفكير والقيم والسلوك، وهو نموذج الأقوى والأغنى والأقدر مادياً وتكنولوجياً. وإذا كانت أغلب الشعوب لا تقدس قيماً معينة إلا على أنها مجرد أعراف ومصطلحات وقيم منافع، فإن المتضرر الوحيد هم الذين يدينون بدين سماوي وفي قمته المسلمون أبناء الإسلام ذي المصدر الإلهي المتمثل بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ويحتضن ثقافة وأخلاقاً وقيماً وسلوكيات مرتبطة بالعقيدة والعبادة والأخلاق الشرعية، وفي نطاق أحكام المرأة والأولاد والأسرة، والعلاقات الدولية الخارجية والداخلية.

 

وذلك بنقل مجموعة القيم الغربية الى أجزاء العالم المختلفة عن طريق تكنولوجيا الاتصال الفضائية، المشبعة بمصالح الرأسمالية الأميركية ومواصفات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتريد فرضها الآن فيما سمي: أولى حروب القرن (الـ21)، مستغلة انهيار النظام الاشتراكي وانتهاء الحرب الباردة بين الغرب والشرق، مما زاد من شراسة الآلة الإعلامية الغربية، وفرض نموذجها على بقية نماذج العالم المختلفة، معبأ بروح المنتصر، والمستكبر، والذي لا يقيم وزناً لثقافة أحد، أي زعامة القطب الواحد، زعامة أميركا.

 

وخطر هذا النوع على الهوية الثقافية واضح، لأنه يقضي تدريجاً على الخصوصيات الثقافية والتقانة الوطنية والاستقلال الوطني والدولة الوطنية، وتمييع الفوارق بين الذكر والأنثى، وذلك يهدد بإلغاء وحدة ثقافة الأمة ووحدة الوطن، ووحدة التاريخ، ووحدة المصير.

إن العولمة الثقافية تحاول دمغ القيم حول المرأة والأسرة، وحول الرغبة والحاجة وأنماط الاستهلاك في الذوق والمأكل والملبس، بدمغة عالمية واحدة. إنها تحاول توحيد السلوك الفردي وتغيير الذات والقيم والسلوك والعلاقة مع الآخرين.

2ـ عولمة اقتصادية واجتماعية

العولمة الاقتصادية: هي أصل العولمة وأكثر أنواعها وضوحاً وتركيزاً، لأنها تسعى الى ابراز عالم بلا حدود اقتصادية، وملء الساحة العالمية بنشاط اقتصادي عبر الشركات العابرة للقارات، مثل شركات السيارات في أميركا، واليابان، وشركات الاتصالات العالمية، كشركة  I.T.T إن هذه العولمة ترتكز الى مبدأ اساسي هو حرية التبادل (التجارة) لأنها الكفيلة بتحقيق أعلى المكاسب.

 

ومخاطر هذا النوع أشد من الناحية المادية على وجود الشعوب الأخرى، لأن العولمة في الأصل أو الأساس تكتل اقتصادي للقوى العظمى للاستثمار والظفر بثروات العالم: مواده الأولى وأسواقه، على حساب الشعوب الفقيرة والبلاد المتخلفة اقتصادياً، لعدم توافر شروط المنافسة الكاملة فيما بين الدول الفقيرة والدول الغنية، دول الجنوب ودول الشمال.

 

ومن المعلوم أن الأقوى يغلب الأضعف، وأصحاب التفوق الاقتصادي يحتلون الساحة، فيزداد الأغنياء غنى، والفقراء فقراً، أي إنه يزداد ثراء أوروبا وأميركا الشمالية، فهناك (20%) من دول العالم هي أكثر الدول ثراء، وتستحوذ على (7/84%) من الناتج الإجمالي للعالم.

 

والعولمة الاجتماعية: يراد بها احلال العادات والتقاليد والأعراف الغربية محل الموروثات الدينية ولاسيما الإسلامية، فلا قيمة ولا اعتبار لما يسمى بالعرض، ويروج لفردية النظام الأسري، وإقرار العلاقات الجنسية الشاذة، وحرية انتهاب اللذات والشهوات والمتع الدنيوية بغير ضوابط، وجعل الخيانة الأسرية من الرجل، او المرأة شيئاً عادياً، أو قضية فردية متعلقة بالزوج، ولا صلة لها بحق الله وحق المجتمع في المفهوم الديني الإسلامي، فإن عفا الزوج عن انحراف او فاحشة زوجية، فلا دخل للقضاء حينئذٍ.

 

وأدى هذا الى ظهور أمثلة فاضحة لبعض كبار المسؤولين وإنجاب أولاد بطريقة غير شرعية، ونحو ذلك من المهازل وإقرار البرلمانات زواج الذكور ببعضهم، وكذلك الإناث … الخ.

3 ـ عولمة سياسية

وهي تعني الهيمنة السياسية الاميركية او الغربية بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وانفراد المعسكر الأميركي بالسيطرة على العالم، ومحو الإرادة الوطنية المستقلة للشعوب والدول. فهي تتناقض مع وجود الدولة الوطنية المستقلة، وتتطلب العولمة فتح الحدود أمامها، ورفع الدولة يدها عن الحواجز الجمركية، وتوفير حرية انتقال الأموال عبر البنوك التجارية، وحرية تغيير أسعار الصرف بحسب أسعار السوق الدولية، وطبقاً لسياسة العرض والطلب، ورفع الدعم عن المواد الغذائية، وإنهاء وجود القطاع العام، والإسراع في خصخصته.

 

وبذلك لاتكون وظيفة الدولة حماية الاقتصاد الوطني، بل تشجيع الاستثمار الأجنبي، وتهيئة الخدمات اللازمة، أي إن العولمة تتطلب الدولة الرخوة، وليست الدولة القوية الوطنية المستقلة. وحينئذ نكون أمام شمولية رأسمالية تضاهي الشمولية الشيوعية وتتعداها، رأسمالية جارفة تسعى عبر الثقافة والتكنولوجية وقوة المعسكر للإمساك بزمام الأنظمة السياسية، من خلال نفوذها الدولي على الساحة العالمية، واستغلال المنظمات الدولية([7]).

مظاهر العولمة

للعولمة أو الأمركة مظاهر جديدة من أهمها ما يأتي([8]):

 

1ـ الثورة العملية وثورة الاتصالات والمعلوماتية الجديدة: وهذه هي المرحلة الثالثة التي مر بها العلم، ولاسيما عالم الكومبيوتر الذي تضاعف الى ألف ضعف عما ظهر عليه في عام 1946م، وظهر فيها مجال الهندسة الوراثية والاستنساخ وقد سبقها مرحلتان:

 

أ ـ بداية الثورة الصناعية في أوروبا وبخاصة في بريطانيا في القرن السابع عشر.

 

ب ـ الثورة العلمية خلال القرن العشرين وبخاصة في أميركا.

 

2 ـ انتشار منشورات شركة وولت ديزني الفكاهية والقصصية، وجذبها للزوار من جميع انحاء العالم، حيث تطبع كتبها فيما يقرب من 27 لغة عالمية، وقدر عدد مشاهدي افلام ديزني في مختلف أنحاء العالم بحوالي 240 مليون مشاهد.

 

3ـ صناعة الرأي والتحكم في أنظار الجمهور ومعرفة ميولهم واتجاهاتهم، فقد بلغ مجموع الإنفاق على الإعلان في أميركا عام 1972م ما يقرب من 23 بليون دولار، وقدر ما أنفق على التلفزيون القومي والمحلي بما يقرب من 4.1 بلايين دولار، والإذاعة 1.5 بليون دولار.

 

أما الصحف والمجلات فقد بلغ مجموع ما أنفق عليها 8.4 بلايين دولار. وبلغت نسبة المسلسلات الأميركية للتسلية والترفيه لإحداث التغيير في البنى القديمة والنسق الاجتماعية المتوارثة في تلفزيون ايران عام 1972م نسبة 70% من برامج التلفزيون، وقد أثرت في النزعات الاستهلاكية على الرغم من مصادمتها مقدرة الفرد ودخله المحدود، كما نجد وسائل الإعلام المصرية قد أثرت في البلاد العربية، بسبب كون المسلسلات التلفازية المصرية وكذا انتشار الأغنية المصرية هي الأكثر انتشاراً في البلاد العربية، لسهولة اللغة الدارجة المصرية وتأثير الكتاب المصريين على القوى الثقافية في البلاد العربية.

 

وصارت هيمنة الولايات المتحدة الأميركية واضحة في الجوانب الاقتصادية، وفي الوسائل الثقافية معاً بسبب هيمنتها على وسائل الإعلام العالمية، ومكنت هذه الوسائل الثقافية من هيمنة الدولة اختراقها الخصوصية الحضارية لشعوب العالم.

 

ومن المعلوم ان وسائل الإعلام الأميركية تسعى الى تمجيد القوة والمنافسة ونشر الثقافة الاستهلاكية، وتحرير الرغبة من كل القيود، وإيجاد أهداف جديدة للمجتمعات الإنسانية.

 

4ـ الثورة في عالم الاتصالات: مما ساعد على نمو الشركات وازدهارها وانتشارها في العالم، وصارت خيراتها تصب في عدد محدود من الدول.

وسائل العولمة

تحاول العولمة أو الأمركة تغريب العالم بوسائل مختلفة منها([9]):

 

1ـ التحكم في مسار تطور البنى التقليدية بالقدر الذي يسمح بتصريف منتجات الدول الرأسمالية الكبرى، والبحث عن أسواق جديدة، وتشجيع الثقافة الاستهلاكية.

 

2ـ العمل على تغريب الثقافات الوطنية بواسطة قوى الإعلام والتقنية الجديدة وانتشار التوكيلات التجارية في أسواق الخليج وغيرها.

 

3ـ توظيف العلم للاختراق الثقافي بهدف طحن الهوية الوطنية والهيمنة على الثقافة كماً وكيفاً، وتقليد مناهج الغرب في مفردات المواد الدراسية دون النظر الى حاجات السوق المحلية، مما جعل أكداساً من خريجي الجامعات عاطلين عن العمل، وأوجب إعادة النظر في بعض المناهج لتتناسب مع حاجة السوق المحلية التجارية والصناعية.

 

4ـ دعم سياسات المؤسسات الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وتشجيعه على الخصخصة في العالم واتباع سياسة السوق الأميركية الحرة، وأدى هذا الى مشاركة الشركات الأميركية والأوروبية واليابانية في رأس مال الشركات في الدول الفقيرة.

 

5ـ نقل الصناعات التقليدية من المراكز الرأسمالية الى أسواق العالم الثالث الحديث تكون الأيدي العاملة رخيصة، وهذا على المدى الطويل يعود بالنفع على الشركات العالمية.

 

وهناك عدة ترتيبات تقوم بها الدول العظمى للسيطرة على دول العالم الثالث، ومنها:

 

1ـ التحول الدولي السريع الى مرحلة التكتلات العملاقة.

 

2ـ تحقيق التعاون بين دول الشرق الأوسط ومنتدى البحر الأبيض المتوسط.

 

3ـ محاولة تسلل اسرائيل الى الشراكة الاقتصادية العربية، وايجاد معادلة جديدة لشرق أوسط جديد يضم النفط السعودي + الأيدي العاملة المصرية + المياه التركية + العقول الإسرائيلية.

 

4ـ إلحاق دول المغرب العربي بالغرب، وإلحاق السودان والصومال بالدائرة الأفريقية.

أهم الفروق بين العولمة والعالمية

عرفنا أن العولمة تهدف الى هيمنة أميركا على العالم، وبخاصة العالم الثالث، سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً.

 

ومن المعلوم أن الإسلام دين ذو نزعة عالمية، لكنه يختلف اختلافاً جذرياً في الوسائل والغايات عن العولمة.

 

فالعولمة تعني تحقيق عالمية الأمر ولو قسراً ومن غير تدرج، واقتحام المجتمعات والشعوب والدول اقتحاماً دون تحضير. وتطويق هذه المجتمعات، بحيث لا يمكن لأحد أن يعزل نفسه عنها أو البعد عن تأثيراتها.

 

وغايتها: فرض منطق الغرب وثقافته وعاداته وتقاليده وتصدير أنظمته الديمقراطية والمعلوماتية، وفتح اسواق جديدة أمام منتجاته وسلعه الاستهلاكية، والحرص على زيادة الثراء والغنى، على حساب الدول الضعيفة أو الفقيرة، وإبقاء الهيمنة الأميركية ذات القطب الواحد على العالم بأسره.

أما عالمية الإسلام:

فأساسها: الوفاء بحاجات الإنسان والإنسانية، ومنهجها: تعليمي، عقدي، وتربوي تعنى بتكريم الإنسان وتحقيق سعادة الإنسانية ونجاتها في الدنيا والآخرة.

 

ووسيلتها: بناء الإنسان الفاضل، والأسرة المتماسكة، وتصحيح العقيدة بالله واليوم الآخر، وإقامة الدولة الرشيدة لحراسة العقيدة والإيمان والأخلاق، وتنمية الوعي الاجتماعي، وصون عزة الإنسان وكرامته وقوة المجتمع والدولة، وتعميم كل ما يؤدي الى رقي المدنية وإعلاء صرح الحضارة الإنسانية، والترفع عن ثروات الأمم والشعوب، ومناصرة المستضعفين في العالم، وتنمية قدرات الإنسان الاقتصادية دون إبقائه في حال من البؤس والفقر والمرض والجهل وبقية مظاهر التخلف.

 

وهذه هي مقومات الإسلام العالمية التي أرشد اليها القرآن وأوضحتها السنة النبوية على أساس من الاعتقاد الصحيح الجامع بين متطلبات الروح والمادة، وإنارة العقل والوعي والإدراك، وتنمية المعارف والعلوم النظرية والتجريبية، وإحاطة ذلك كله بسوار من الخلق الرصين الفاضل والأدب الكريم من غير إمعان في المادية، ليعيش الناس في أمان واطمئنان، وتقريب بين فئات المجتمع من الناحية المادية، وتحقيق التوازن والاعتدال والوسطية والتسامح فعلاً.

أخلاقيات العولمة بالمفهوم الغربي

يعارض كثير من مجتمعات الغرب والشرق نظام العولمة، لأنها مظهر جديد واضح المعالم من الاستعمار بمفهومه الاقتصادي العلمي.

 

ومن المعلوم أن الاستعمار إذلال سياسي، ونهب اقتصادي، وطمس معالم الخصوصية الثقافية، وبالنسبة لنا محاولة لإلغاء الهوية الإسلامية او تشويهها وأمركتها وخلطها بمذاق عادات الغرب وتقاليده.

 

ولم تكن الحربان العالميتان الأولى والثانية إلا تجسيداً لصراع بين دول قوية مستعمرة مستفيدة، ودول ناشئة تريد النمو والاستقلال، وإذا تمخضت هاتان الحربان عن ميثاق عصبة الأمم، ثم ميثاق الأمم المتحدة، فإن هذين الميثاقين يحملان أفكار وإرشادات وأطماع الدول الغالبة، وإبقاء مناطق النفوذ والسيطرة للأقوياء المنتصرين.

 

ولكن أميركا التي نجت من أضرار هاتين الحربين في حين دمرت عواصم الدول الأخرى، أهّلتها قدراتها وثرواتها لتتبوأ مركز السيطرة العالمية تحت ستار العولمة أو الأمركة، وفرض هيمنتها على العالم على المستوى الاقتصادي والسياسي والثقافي والحقوقي.

 

يتضح من هذا أن أخلاقيات العولمة تتمثل في كونها مادية طاغية، ومنطلقة من فلسفة ملحدة علمانية، لا تعرف الإيمان بالله الخالق الواحد، وعنصرية بغيضة لا يهمها إلا ذاتيتها بالإضافة لعنصرية الصهاينة وعولمتها ذات الأهداف التخريبية والإفساد لمعظم المجتمعات البشرية، وتنبع من نزعة استكبارية شرسة واستعلاء وغطرسة لا حدود لها، وتحرر أو تنصل من كل القيود الإنسانية والأخلاقية، وإلغاء لوجود الآخرين دينياً وثقافياً واجتماعياً وسلوكياً، واقتصادياً وسياسياً، وتجاوز كل ما يعرف بالحدود السياسية للدول ذات السيادة، أو الانتماء الى وطن محدد او لدولة معينة، أي إن العولمة: هي مرحلة ما بعد الإمبريالية في حياة الرأسمالية العالمية المعاصرة([10]).

 

وهي تسعى من طريق التكتلات الاقتصادية للدول والشركات الى فرض الهيمنة، وتحقيق التبعية التامة للنظام الليبرالي.

أخلاق العولمة الاسلامية

تتميز العولمة أو العالمية الاسلامية عن العولمة الحالية بكثير من الخصائص، سواء من حيث المضمون او من حيث الغاية والهدف وهي بإيجاز([11]):

 

1ـ قيامها على العقيدة الجامعة لكل خير وفضيلة: لأنها عقيدة التوحيد الخالص المنزه عن كل شرك ووثنية وضلال، والنابع من الفطرة، المنسجم مع العقل والعلم وسهولة الاقناع، والداعي الى الحوار الهادئ والتفكير المتزن، والمحقق للراحة النفسية والطمأنينة: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب). الرعد / 28.

 

2ـ ملازمتها للرحمة العامة بالعالم دون تمييز بسبب لون أو عرق او جنسية او دين، او عنصرية او إضمار حقد، او محاولة إكراه او قسر للآخرين: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ـ الأنبياء / 107. (لا إكراه في الدين) ـ البقرة / 256.

 

3ـ ترفعها عن الأطماع المادية او الاقتصادية او سلب ثروات الأمم والشعوب، وإنما تحرص على إغناء الناس ورفاههم وتحسين ظروفهم المعيشية، قال الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز: (إن الله تعالى بعث محمداً بالحق هادياً ولم يبعثه جابياً).

 

4ـ احقاقها الحق ومقاومة الباطل: فلا تمس حقاً للآخرين في الدماء والأنفس والأعراض والأموال:

 

(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) ـ الصف / 9.

 

5ـ معاملتها جميع الناس على أساس ثابت وأصيل من العدل، والإحسان والتسامح، والحرية والمساواة في كل شيء من القيم الإنسانية والتكاليف او الالتزامات: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) ـ النحل / 90.

 

وقال الله في الحديث القدسي: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) ([12]).

 

6ـ احتضانها كل القيم الانسانية العليا: من تنظيم المجتمع الإنساني على أساس التعاون والتضامن، والسلم والأمان والمحبة والاستقرار، والتزام الفضائل والأخلاق وضبط السلوك الإنساني بما يكفل كرامة الإنسان، وينمي وشائج الإتصال والود والتعامل الطيب بين الجميع. (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) ـ الحجرات / 13. (ولقد كرمنا بني آدم) ـ الإسراء / 70.

 

وقال النبي (ص): (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ([13]).

 

وهذا إعلان صريح بحقوق الإنسان على نحو أصيل لا يخدش سواء في حال السلم أو في حال الحرب، وتنظيم للعلاقات الدولية على أساس من المعاهدات المتكافئة: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها) ـ النحل / 91.

 

7ـ تنمية عوامل النهضة والتقدم، والبناء والتمدن، والحضارة والعمران، من خلال تمجيد العلم وإعمال الفكر، والحفاظ على المكاسب، وتعمير الكون، والدعوة الدائمة للخطاب والحوار الحضاري والتعامل مع الأمم والشعوب الأخرى على قدم المساواة والدعوة الى الحق والانفتاح دون تعصب ولا أحقاد ولا انغلاق ولا ترفع او استكبار او استعلاء او فرض هيمنة أو رضا بالواقع: (ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجـادلهم بالتي هي أحسن) ـ النحل / 125.

 

8 ـ تنظيم المجتمع بسياسة حكيمة عادلة، وإقامة اقتصاد حر عادل ومرن، ومجتمع أسري متوازن ومترابط ومتراحم، يقوم على الوسطية والتعادل بين الحقوق والواجبات، وتنمية القدرات والكفاءات والحريات المسؤولة البناءة، وصيانة الكرامة الإنسانية، والدفاع عن الأعراض والحرمات: (يا أيها الناس إتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً) ـ النساء / 1.

 

9ـ إقامة عدالة اجتماعية بين أبناء المجتمع من غير تفاوت صارخ او صراع حاد، وتوزيع عادل، وتمكين حر من الإنتاج الشامل والتنمية العامة، وتحقيق تكافل اجتماعي عميق الجذور، مأمون التطبيق، فالكل شركاء في الثروة، والأغنياء والفقراء إخوة: (إنما المؤمنون إخوة) ـ الحجرات / 10.

 

10ـ الحرص على إشاعة السلام والأمان والاطمئنان على أساس من الحق والعدل والفضيلة والأخلاق الرصينة (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) ـ البقرة / 208، ولكن مع الحفاظ على قوة المجتمع والدولة والاستقلال والحرية، والعزة والكرامة: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) ـ البقرة / 190، وفي ضوء هذا يكون هناك فرق بين ممارسة حق الدفاع أو المقاومة المشروعة في كل الشرائع الدولية، وبين الإرهاب: وهو الاعتداء على الآخرين من غير حق أو مسوغ مشروع.

كيفية نواجه العولمة أو الأمركة؟

نلاحظ قبل الإجابة عن هذا السؤال أن أغلب بلدان العالم وليس المسلمين وحدهم متضايقون من العولمة حتى حلفاء الولايات المتحدة الأميركية مثل كندا وأوروبا، ويطالبون بمراعاة الخصوصيات الثقافية أو اعتماد مبدأ الاستثناء الثقافي، كما نلاحظ أن العولمة ليست شراً محضاً، ففيها بعض الإيجابيات، ولكن محاولة فرض تطرف العولمة سيؤدي الى رد فعل عنيف او معاكس فإن تيار العولمة ربما يكون حافزاً للبلاد الإسلامية ومفكريها للإعداد النهضوي الجيد، والتجديد الواضح لمواجهة العولمة على أساس من الحرية والاعتدال والديمقراطية الإسلامية، والتسامح في إطار الحفاظ على الهوية الثقافية الإسلامية([14])، وكذلك تنمية الاقتصاد والاعتماد على الذات، وسلوك طريق الحوار بين الحضارات. ومواجهة تحديات  العولمة يتطلب من المفكرين الاسلاميين وأرباب القوة الإسلامية الإبداع، والاعتماد على الذات، وتوفير القوة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في المستقبل القريب من خلال ما يأتي([15]):

 

1ـ إقامة وحدة سياسية واقتصادية وعسكرية فيما بين المسلمين.

 

2ـ تطوير الإمكانات العلمية والتقنية والمالية، والاستفادة من الموارد المائية والنفطية والمعدنية وغيرها.

 

3ـ التحرر من التبعية والولاء للأجانب.

 

4ـ إيجاد بديل حضاري مدروس لمواجهة حضارة الغرب للإنقاذ والصمود.

 

5ـ إبداع ثقافة جديدة تجمع بين الأصالة والمعاصرة، تزول فيه معالم الاستبداد والظلم الاجتماعي والقهر، والتجزئة والتخلف والتغريب([16]).

 

6ـ كسر حدة الانبهار بالغرب ومقاومة قوة جذبه، ورده الى حدوده الطبيعية، والقضاء على أسطورة الثقافة العالمية.

 

7ـ توفير القوة الذاتية في الإبداع للتخفيف من غلواء العولمة، بالتفاعل بين الماضي والحاضر، وبين ثقافة الماضي وثقافة العصر، فيتحقق التوافق بين الخصوصية الثقافية والعولمة.

الهوامش:

([1]). د. عبدالوهاب الحكمي، مقال في جريدة الرياض، العدد 11546، السنة 36 شوال 1420 هـ / فبراير (شباط) 2000 (العولمة .. معناها ومبناها ومفهومها في الثقافة العربية والإسلامية).

([2]). د. فتحي يكن ورامز طنبور، (العولمة ومستقبل العالم الاسلامي)، ص10.

([3]). د. عبداللطيف الصباغ، محاضرة عن العولمة والهوية الثقافية الاسلامية، جمادى الثانية 1419 هـ / ايلول 1998م.

([4]). د. إلياس سابا، (التعاطي مع ظاهرة العولمة)، جريدة الأيام البحرينية.

([5]). فتحي يكن، المرجع السابق، ص10.

([6]). الثقافة: هي المركب الذي يتضمن المعرفة والإيمان، والفن والأخلاق، والقانون والأعراف، وأية قدرات وعادات يكتسبها الإنسان بصفته عضواً في جماعة. وعلى هذا، فإن الثقافة هي: النشاطات التي يتفاعل بواسطتها الفرد من جميع جوانبه الإنسانية مع المجتمع، وهي التي تسمح للمجتمع بتكوين ميزاته الخاصة.

([7]). د. جلال أمين، العولمة، والدولة، العرب والعولمة، ص 153 ـ 170، نقلاً عن كتاب ما العولمة، د. حسن حنفي وجلال العظم، صص 8 - 4 وما بعدها.

([8]). د. عبدالوهاب الحكمي، المرجع السابق.

([9]). المرجع السابق.

([10]). د. اسماعيل صبري عبدالله، (الكوكبة ـ العولمة ـ : الرأسمالية العالمية في مرحلة ما بعد الإمبريالية) مجلة الطريق، بيروت عدد 4 تموز (يوليو) ـ آب (اغسطس) 1997: ص 45 ـ 69، عن كتاب: ما العولمة؟ المرجع السابق.

([11]). انظر وقارن د. فتحي يكن ورامز طنبور، المرجع السابق، ص 121 ـ 142.

([12]). أخرجه مسلم عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.

([13]). أخرجه الإمام أحمد في مسنده وغيره.

([14]). محاضرة الدكتور عبداللطيف الصباغ، المرجع السابق، ص 8 ـ 9.

([15]). العولمة ومستقبل العالم الإسلامي، د. فتحي يكن، ورامز طنبور، المرجع السابق، ص 127.

([16]). د. حسن حنفي، ما العولمة؟ المرجع السابق، ص 53 وما بعدها.