العالم الإسلامي والتنمية والتقدم
العالم الإسلامي والتنمية والتقدم
حمده سعيد - تونس
عناصر البحث
1) مقدمة عامة
2) عناصر التقدم الحضارية
3) حضارة المسلمين ومصادرها الفكرية
4) الاجتهاد والابتكار والاقتباس بوابة التنمية والتقدم
5) التنمية والتقدم بين المنهج الفكري والمنهج التجريبي
6) خاتمة
مقدمة عامة
معلوم أن الحضارة الإسلامية التي تبوّأت مكانتها العالمية على ظهر الأرض لم تكن وليدة الصّدفة ، ولم تنبعث من فراغ ، وإنما أخذت وضعها في المجتمعات الإنسانية ، لأنها قامت على فكر مستنير استمدّ رشده وهداه من ينابيع الإسلام الأصيلة .
والحضارة تنبع من عقل الإنسان ، إذا كان عقلاً مفكرا مجتهدا بحق ، يميّز بين الحق والباطل وبين الخير والشر، وليفكر ويتدبر ويستنبط ويبحث وينقّب ويكتشف ويتقدم في هذا الكون الفسيح .
وقد نبهت نصوص الوحي بالقرآن والسنّة الى أن أهم مكسب للإنسان هو عقله وفكره ، قال تعالى " كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة " ( البقرة 219 ) ، وقال " أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها " ( الحج 46 ) . وفي الحديث الشريف " ما اكتسب رجل مثل فضل عقل يهدي صاحبه إلى هدى ويرده عن ردى وما تم إيمان عبد ولا استقام دينه حتى يكمل عقله " ( أخرجه ابن المجبر في العقل عن الحارث بن أبي أسامة )
وما تأخر المسلمون يوما إلا من أجل تفريطهم في الأخذ بأسباب العلم وركونهم الى التقليد والجمود على التراث والاكتفاء بالقديم والاستنكاف عن التجديد والله يقول " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون " ( البقرة 134 ) .
ومن مصائب الأمة الإسلامية النزوع الى الجدل والمخاصمة والمهاترة واستفزاز مشاعر العداوة المذهبية والعرقية والثقافية، والتقاصر عن العمل والإنجاز والبناء والتنمية والإعمار ، وهو الدور الموكول بالأصالة الى الإنسان كما نصت عليه سورة هود " هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا " (61) وفي التحرير والتنوير للشيخ العلامة المرحوم محمد الطاهر ابن عاشور أن السين في قوله " استعمركم " للطلب والأمر وذلك يفيد الوجوب فالعمل من أجل الإعمار واجب وهو مسؤولية يسأل عنها الإنسان بين يدي ربه يوم القيامة .
وإذا كان بثّ الحياة في ميادين الكون بإصلاح شأنه ، وتسخير ما فيه لما يخدم الإنسان ويحقّق رفاهيته وسعادته هو المقصود بإعمار الكون ، فذلك يقتضي همة في الإنسان تصل به إلى ذروة الكمال المادي والمعنوي .
فالعمل والإنجاز من أجل التنمية والتقدم وازدهار الشعوب هو مطلب الأديان السماوية ، وهو جوهر العملية الإصلاحية التي طالت في الإسلام أبعاد الإنسان من حيث كونه فردا أو مجموعة : العقل والنفس والسلوك . وكل ما يعيق هذه الحركة من الضعف الى القوة ، ومن الاحتياج الى الوفرة ، ومن التخلف الى التقدم ، فلا بد من إيجاد العلاج لها ماديا ومعنويا .
ودور الزعامات هو تصعيد الروح المعنوية لدى الشعوب حتى تحرك سواكنها الى البناء والتشييد وكسب القدرات العلمية والتقنية قال تعالى " وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا " ( النساء 13 ) .
عناصر التقدم الحضارية
إنّ المنتوج الحضاري – على قول مالك بن نبي – هـو كل ما ينتجه المجتمع في عالم الأفكارأو عالم الأشياء ، فطور الحضارة هو طور الإنتاج عندما يكون في ذروته علميا واقتصاديا . ويحتاج ذلك الى عزيمة روحية وقوة إيمانية ، فإصرار الشعوب على التقدم إنما هو نافع من روحها الفياض ودفقها المعنوي القوي . وحيثما ضعفت هذه الروح فقدت الحضارة ألقها وتداعت الى السقوط ، لأن من يفقد القدرة على الصعود لا يملك إلا أن يهوي ، على قول شاعر تونس أبو القاسم الشابي رحمه الله :
وَمَنْ لا يُحِبّ صُعُودَ الجِبَالِ يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَر
والحضارة ظاهرة إنسانية تتشكل عناصرها الثلاث من : الإنسان والتراب ( أو البيئة ) والوقت .
أما الإنسان فهو العنصر الأساسي القيادي المؤثر بقوة . وعلى هذا يحتاج البناء الحضاري الى رجال لهم مواهب يصنعون بها الأهداف الكبرى للشعوب . وقصة الحضارة عندنا كمسلمين بدأت بالأنبياء والرسل باعتبارهم زعامات بشرية تقود الناس بواسطة الوحي الى ما يصلح شأنهم ويرفع مقامهم قال تعالى " وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا " ( النحل 36 ) ، وقال في موضع آخر من سورة الأنعام " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " ( 90 ) .
وعلى عاتق الرجال في كل أمة ، باعتبار زعامتهم القيادية السياسية أو العلمية أو الثقافية ، تلقى مهمة توجيه الشعوب توجيها عمليا وخلقيا وجماليا ،
وبتعبير آخر : إن توجيه العمل في مرحلة التكوين الاجتماعي عامة يعني سير الجهود الجماعية في اتجاه واحد بما في ذلك الرجل والمرأة ، وصاحب الحرفة ، والتاجر ، والطالب ، والعالم والعامي ، والفلاح والصناعي ، لكي يضع كل منهم في كل يوم لبنة جديدة في البناء من أجل الكرامة والرفاهية .
كذلك توجيه رأس المال باعتباره مكونا رئيسيا نشأ مع ظهور الثورة الصناعية الأولى ، وباعتباره قوة اقتصادية . وإنّ القضية ليست في تكديس الأموال بل بتحويل معناها الاقتصادي من أموال كاسدة إلى رأس مال متحرك يُنشّط الفكرة والعمل والحياة في البلاد . فينبغي أن تصير كل قطعة نقدية متحركة تنتج معها العمل والنشاط .
والعمل باعتباره مصدر الثروة الحقيقي ، قد بلغ به الإسلام مبلغ العبادة ، قال تعالى " هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور " ( الملك 15 ) ، وفي الحديث " من أمسى كالا من عمل يديه أمسى مغفورا له " ( رواه أحمد في المسند ) . ودعا الإسلام الناس الى التنافس في مضمار العمل المنتج الصالح النافع للفرد والمجموعة ، وكره لهم في المقابل العطالة والبطالة والكسل ، وسمى العمل جهادا أكبر لأنه مقوم العزة والقوة والمناعة .
وقد ضرب في العصر الحديث شعب ألمانيا وشعب اليابان مثالا فريدا في سرعة النهوض بعد الدمار الهائل بسبب الحرب العالمية الثانية ، لأن الدمار أصاب مباني الإسمنت ولم يصب مباني الروح . وإنَّ الشعوبَ التي شاركت في
الحرْب العالمية الثانية قوَّمت خسارتها في الحرب ليس بالذهب ، بل بساعاتِ العمل ، أي بقيم مِن الوقت ومِن الجهود البشريَّة ومِن منتجات ترابها ، تلك هي القِيم الخالِدة التي نجِدها كلما وجَب علينا العودةُ الى تحديد عناصر الحضارة والتنمية والتقدم .
وخلاصة الأمر أن الإنسان نوع يتحدَّد بوجوده العقلي والروحي والاجتماعي ، والأمْر هنا يشمل كافةَ أفراد الإنسان . أما التراب فهو المادةً الأوليَّة في الحالَّة الطبيعية التي تستصنع منه الحضارة المادية أو التقدم المادي . وأمَّا الوقتُ فهو نوعٌ يمثِّل أيَّ زمن تَجري فيه الأحداثُ الإنسانية ، ويتحرَّك فيه المجتمع داخلَ التاريخ ، وتتكوَّن في مجاله الحضارة عبر تنمية الذات وتنمية الأشياء حولها .
والحضارة ليست وليدة الجغرافيا أو المناخ ، بل هي الفكرة أولا والمبدأ الأخلاقي ثانيا والعمل ثالثا . فالإنسان في صحراءِ العرَب القاحلة ، وعند رجُل الفِطرة الذي لا يعرِف سوى الحلِّ والترْحال بحثًا عن الكلأ لعيالِه وأنعامه ، استطاع أن يبني حضارته في زمن قياسي ، لأنه توفرت له الفكرة من أصول الوحي بالقرآن والسنة ، وآمن بالمبدأ الأخلاقي لأن كل حضارة لها مضامينها الأخلاقية ، وعمل جهده ليحول الفكرة الى حياة فوق الأرض وهو ما توصل إليه بنجاح . فتأثير الفِكرة في الرُّوح الفرديَّة والرُّوح الاجتماعيَّة هو الذي يُحدِث الدوافع والأسباب إلى النهوض ، ويكون هذا الحال وراءَ كلِّ تجديد حضاري، وأساس حرَكة الإنسان في مسار التاريخ .
حضارة المسلمين ومصادرها الفكرية
لا شك أن لكل حضارة في زمن ما استلهاماتها ومصادرها الثقافية الأولى . فالفكرة البوذية ما زالت تعيش في حضارة آسيا ، والفكرة المسيحية لم تنطفىء نهائيا في أوروبا والعالم الغربي عموما ، وللمسلمين فكرتهم الأصيلة التي نشأت عنها حضارتهم ، وهي مادة الوحي بالقرآن والسنة وتراث العلماء مع فتح باب الاجتهاد والاقتباس والحوار الحضاري مع الآخر . وهذه عناصر تآلفت لتصنع عبقرية الحضارة لدى المسلمين في جوانبها العلمية والأدبية والفنية والاجتماعية والاقتصادية ، ودلت الآثار من هناك وهناك على أن المسلمين قد بلغوا مراتب علية في الحضارة والتقدم استفادت منها شعوب الأرض مشرقا ومغربا .
وقد عني المؤرخون – مسلمين وغير مسلمين – بدراسة حضارة الإسلام من خلال مصادره التوثيقية التدوينية ، وتعني النتاجات الفقهية والأدبية والجغرافية وفنون الكتابات الأخرى كالنصوص الشعرية ودثائر النقوش والعمائر والكتابات عليها ، والنقود التي تحمل تاريخَ السكّ ، ورقوقٍ وبردياتٍ تعودُ للقرن الهجري الأول وعليها نصوصٌ قرآنيةٌ ، وتنظيمات مدونة للعطاء والخراج والجزية ، كل ذلك وغيره أعان على ستخراج أهم العوامل المؤسسة لفكرة التقدم والتنمية لدى المسلمين وسعيهم الى الإبداع في كل المجالات .
وبسبب هذا الزخم الحضاري المتدفق عبر قرون متواليات ، تكاثر العلماء في شتى الاختصاصات الطبية والهندسية والحسابية والفلكية ، وتكاثر الشعراء والأدباء ، وازدهرت الحياة الاجتماعية بتنوعات المذاهب الفقهية والفكريــــــة ،
وازدهر علم الكلام كعلم يرصد الوافد من الأفكار والعقائد والمذاهب بإتاحة الإفادة والاستفادة بواسطة النقد البنّاء .
وكل ذلك يعبر عن حيوية ثقافية ، وعن مجال إبداعي واسع ، عن توجه الى الكمال العمراني ، وبتعبير ابن خلدون التونسي : الحضارة تفنن وإحكام الصنائع المستعملة في وجوهه بدءا من المطابخ والملابس والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله ، فلكل واحد منها صنائع في استجابته والتأنّق فيه تختص به ويتلو بعضها بعضاً ، وتتكثّر باختلاف ما تنزع إليه النفوس من حب التنعم .
ولم ينكفىء المسلمون على أنفسهم إلا في عصور الانحطاط بسبب شيوع مشاعر التعصب والخوف من كل ما هو جديد مستنبط . وهو داء العصر ، إذ انبرت جماعات الى استعمال مصطلح البدعة في مواجهة حركة الاجتهاد والاقتباس وإثارة الفتنة الهوجاء لتخويف المسلمين تحت تأثير تهمة التكفير والتخوين ، وفي الحديث " الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها " ( العجلوني في كشف الخفاء ) ، وفي الحديث أيضا " إن الفتنة راتعة في بلاد الله تطأ في خطامها لا يحل لأحد أن يوقظها ويل لمن أخذ بخطامها " ( الـرافعي في الأمالي ) .
وعبد الرحمان ابن خلدون في مقدمته هو أول من اكتشف أن من عناصر التخلف لدى الشعوب خروجها من المدنية وارتدادها الى الحياة البدوية ، أي فقدانها لعناصر التركيب الحضاري والرجوع الى السذاجة الأولى البدائية .
وللتوضيح فإن للحضارة الإسلامية خمس خواص :
الخاصية الأولى : أنها حضارة إيمانية توحيدية رغم أن صنعها من البشر فعلاً ، فقد كان الدين الحنيف أقوى الدوافع إلى قيامها وإبداعها وازدهارها.
الخاصية الثانية : أنها حضارة إنسانية المنزع عالميةٌ في آفاقها وامتداداتها، لا ترتبط بإقليم جغرافي ، ولا بجنس بشري ، ولا بمرحلة تاريخية ، ولكنها تحتوي جميع شعوب الدنيا ، وتصل آثارها إلى مختلف البقاع والأصقاع ، فهي حضارة يجني ثمارها كلُّ من يصل إليه عطاؤها . فالحضارة الإسلامية قامت على أساس الاعتقاد بأن الإنسان أهم مخلوقات االله ، وأن جميع الأنشطة البشرية لابد وأن تؤدي إلى سعادته ورفاهيته ، وأن كلَّ عمل قصد به تحقيقُ هذه الغاية فهو عملٌ في سبيل الله.
الخاصية الثالثة : أنها حضارة معطاء ، أخذت واقتبست من الحضارات والثقافات الإنسانية التي عرفتها شعوب العالم القديم ، وأعطتها في المقابل عطاء زاخراً بالعلم والمعرفة والفن الإنساني الراقي وبقيم الخير والعدل والمساواة والفضيلة والجمال ، لا فرق بين عربي وعجمي، بل لا فرق بين مسلم وغير مسلم ، سواء أكان من أتباع الديانات السماوية والوضعية أم ممن لا يدين بدين .
الخاصية الرابعة : أنها حضارة متوازنة ، وازنَت بين الجانب الروحي وبين الجانب المادي ، في اعتدالٍ ، فلا تفريط ولا إفراط ، ولا غلو ولا ميوعة .
الخاصية الخامسة : أنها حضارة باقية بقاء الحياة على وجه الأرض ، تستمد بقاءها من الإسلام الذي قامت على أساس مبادئه ، وقـد تكفل االله تعالى بحفظ
الدين الحنيف. فهي لا تنقرض لأنها ليست حضارة قومية ، ولا هي بعنصرية ، ولا هي ضد الفطرة الإنسانية .
فهذه الخصائص الخمس هي التي أكسبت حضارة المسلمين ميزة وانفرادا مثل الجوهر النفيس . وغير خاف أن الحضارة الإسلامية تزعمت مسيرة العلم والمعرفة في القرون الوسطى التي هي عصور التنوير في تاريخ أمتنا. وحسبنا أن نشير في هذا السياق إلى أن ما وقع تدوينه في كتاب " النشاطَ العلمي على مدى التاريخ " لجورج سارتون ، إلى وجود فترات تستمر كل منها نصف قرن من الزمن ، من سنة 750م إلى سنة 1100م ، على أي مدار 350 سنة ، كان فيه كل العلماء الرامزين من العالم الإسلامي مثل : جابر بن حيان، والخوارزمي، والرازي، والمسعودي، والبيروني، وغيرهم ، نبغوا في علوم الكيمياء والرياضة والطب والجغرافيا والطبيعة والفلك. وفي سنة 1100م، ولمدة 250 سنة أخرى ، ابتدأ اشتراك الأوروبيين مع علماء العالم الإسلامي ، أمثال ابن رشد ، والطوسي ، وابن النفيس ، وفي تلك الفترة تسنى قيام النهضة الأوروبية الحديثة التي بدأت بترجمة علوم العالم الإسلامي ودراستها والإضافة إليها ، حتى يومنا هذا .
وتلك هي الحقيقة التاريخية التي يشير إليها ويؤكدها العالم العربي المسلم المقيم في ألمانيا الدكتور محمد منصور الذي اختير من بين ألفَي شخصية عالمية تركت بصماتها على الحياة الإنسانية خلال القرن الماضي بمبادرة من جامعة كمبردج بالمملكة المتحدة .
الاجتهاد والابتكار والاقتباس بوابة التنمية والتقدم
إن للحضارة الإسلامية رسالة ومسؤولية ودوراً في التجديد الحضاري على الصعيد الإنساني بصورة عامة ، فهذه الحضارة ما زالت تمتلك اليوم عناصرها الحيوية وأهمها الاجتهاد والابتكار والاقتباس .
إن الاجتهاد الذي فتح بابه النبي صلى الله عليه وسلم عندما معاذا رضي الله عنه الى اليمن قال له : " بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد ؟ قال : فبسنة رسول الله ، قال : فإن لم تجد ؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلو ، قال معاذ : فضرب رسول الله بيده على صدري وقال : الحمد لله أن وفق رسول رسول الله الى ما يحبه الله ورسوله " ( أخرجه أبو داود ) .
ومجال الاجتهاد تخومه واسعة تلامس الاقتباس كسبيل نحو اقتفاء أثر المعرفة في كل مكان لقوله صلى الله عليه وسلم " الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها " ( أخرجه ابن ماجة ) . فالأخذ بالعلم تكليف تعبدي للذكر والأنثى معا .
والمسلمون معهم ابتكارات لا تعد ولا تحصى . جاءت إبداعا ، وجاءت اقتباسا وهو نوع إبداع ، فمثلا اقتباسهم مفهوم الصفر من الهند واستيعابه في رياضياتهم ( الخوارزمي، بغداد، 825 ، كذلك اقتباس صناعة الورق من الصين (سمرقند، 712) جلبوها إلى الأندلس (عام 950)، ومنها انتشرت في أوروبا . و بعد خمسة قرون اخترعت أوروبا مطبعة متطورة عن سابقتها بتزويجها بالورق ، فثورت نشر المعرفة عالميا . لكـن اختراع تلك المطبعة
(1450) لم يأت من فراغ . لقد استُمدت فكرتها من حملة نابليون على مصر فاكتسبت مهارات طبع رسوم تجميلية على الأقمشة بقوالب خشبية محفورة بعملية الكبس . وفي عصرنا ، الذي يستمر فيه تقابس الحضارات وتثاقفها وحوار بعضها مع بعض ، بنسق حثيث ، نستقدم ثمار الحضارة الغربية في العلوم والتكنولوجيا ، كما في العلوم الإنسانية ، وهي عندنا مقتناة بترحاب ومستفادا منها بسعة في جميع احتياجات هذا العصر ، لنوظفها في تخصيب الثقافة المحلية وقدح زناد فكرها وإكسابها الحيوية المطلوبة .
إن حضارة الإسلام اسم يطلق اليوم على حضارة الشرق ، ولم يكن العرب وحدهم بناة لهذه الحضارة منذ القرون الوسطى ، ولكن ساهم فيها أيضا سكان الشرق الأدنى وقسم من أفريقيا بأقدار مهمة . وهو ما يقوم دليلا على أن الإسلام كديانة وحضارة اتخذ منذ البدء توجها منفتحا على العالم ، وهو يحمل بمرونته خصوصية مفردة مكنته من تخطي عقبات اللغة والعادات والتقاليد والنظم ، ليندمج في صميم كيان الشعوب دون أن يكون عبئا عليها ، قال تعالى " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ " ( الحجرات 13 ) ، واستجلب العرب زمن سطوتهم نظما ثقافية جديدة عليهم ، واقتبسوا من أساليب الشعوب المتحضرة - في فارس والهند وروما والأندلس - أدوات جديدة مكنتهم من بسط حضارتهم مشرقا ومغربا .
التنمية والتقدم بين المنهج الفكري والمنهج التجريبي :
إن آلة التقدم تبدأ بالفكر أولا كمنهج نظري ، والفكر لا يشتغل إلا في رحاب الحرية . إلا أن النظريات لا يمكنها أن تدخل الى حيز النفع إلا عبر المنهج التجريبي الذي سبق إليه علماء العرب والمسلمين كابن الهيثم الذي تميز بتطبيق منهجه الرياضي على الفيزياء . و إذا كان الفكر الغربي ينسب تأسيس المنهج التجريبي إلى المفكر الإنجليزي ديفيد هيوم ، فإن هذا المفكر ثبت خطأه في بعض تحليلاته ، وخلط أحيانا بين تصوراته ، وذلك على العكس من الغزالي مثلا . وقد شهد بهذه الحقيقة أكثر من عالم وباحث منصف ، وقالوا إن علماء العرب هم المؤسسون الحقيقيون للعلوم الفيزيائية بالمعنى الذي نعتاد اليوم استخدام هذا اللفظ به ، وهم الذين اخترعوا التجربة والقياس وشقوا بهما طريق التقدم وارتفعوا الى مكانة تقع بين ما أنجزه اليونان في فترتهم الاستقرائية القصيرة ، وما أنجزته العلوم الطبيعية في العصر الحديث
ولا ننكر اليوم أن الغرب يمثل خزانا هائلا للمعارف المتقدمة والعلوم التجريبية والتكنولوجية الدقيقة ، ويجب علينا أن نستفيد مما توفر لديهم ، وأن نشجع الأجيال الناشئة على طلب العلوم والتكنولوجية المستحدثة ، وأن نصنع البيئة العلمية المتطورة بما تستحقه من الأدوات ، وأن نغدق على ذلك أقصى الإمكانيات .
إن المنطقة العربية والمنطقة الإقليمية الإسلامية تنتظر إنجاز ثورتها الصناعية ، وإقامة سوقها الاقتصادي الهائل ، حتى يعم التقدم وينتشر الرفـاه .
المرجو . وربما احتجنا في الأثناء الى تصفية تراث قديم لم يعد له مكان بيننا لأنه يعوقنا عن التقدم ، وهو تراث الذلة والخنوع والتخفي وراء برقع الجمود والعصبية والعنصرية والمذهبية المقيتة . وقد أثر هذا التراث الغبي في بعض شبابنا ليتحولوا الى أدوات دمار وخراب وقنابل موت . إن اللحظة التاريخية التي نعيشها اليوم هي لحظة فارقة في تاريخ العرب والمسلمين ، ولا يمكن مواجهتها إلا بالوحدة الصماء والتضامن الكلي ونبذ الفرقة في كل تلوناتها وترك الصراعات التي تغذيها المصالح الضيقة . وعلينا أن نستجيب لداعي الله عز وجل " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " ( آل عمران 103).
إن الجهد الذي يقتضي أموالا خيالية في تعبئة ترسانة السلاح ، حوّل الجغرافيا الإسلامية الى جغرافيا دم ينزف على مدار الليل والنهار . وكان أولى أن يصرف في بناء التقدم وإنجاز حلم الشعوب في الحياة الآمنة والعيش السعيد .
إننا نحتاج الى ثورة ثقافية وثورة علمية وثورة مفاهيم تغير من الواقع الأليم الى واقع يرنو الى ارتقاء مصعد الحضارة . ويجب أن نحول اهتمام الشعوب من الجدل الى العمل ، ونستثمر جهود شبابنا الذين هم منا بنسبة تفوق 60 بالمائة الى طاقة بناء وتعمير واستثمار قال تعالى " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " ( التوبة 105 ) . وفرق بين شعب مستهلك وشعب مستثمر لا يستويان مثلا ، هذا حبيس شهوته والآخر طليق قدرته ، هذا عبد لغيره والآخر سيد على نفسه، وخير الأيادي وأكرمها اليد العليا ، واليد السفلى ذليلة آيسة لا أمل لها في كرامة الحياة .
خاتمة :
إن قضية القضايا هي التقدم تنشده كل شعوب العرب والمسلمين لها ولأبنائها وأجيالها المتعاقبة . والتقدم هو مزيج من التفاعلات بين ما هو تقدم علمي وتقني وحضاري شامل ، أنجزه المسلمون الأوائل وانقطعت حلقاته في تاريخ غير بعيد ، وعلى المسلمين أن يستأنفوا دورهم العلمي الريادي بمنهجيه الفكري والتجريبي .
ولا يمكن أن يحدث ذلك إلا بمراجعة التراث وغربلته إبقاء على عناصر حيويته ، وإلغاء لما هو في حكم الموات منه . فمن معوقات التراث الجمود والتعصب والعنصرية والفرقة والمذهبية المجحفة ، ومن معوقات الحاضر انكفاء الشعوب على نفسها وهو معيقها لا محالة ، لأن الزمن هو زمن تكتلات اقتصادية وسياسية وعسكرية .
إن المرحلة التي يمر بها العالم الإسلامــي هي مرحلة حرجة ودقيقة وفارقة ، في سياق من الأحداث الإرهابية المنتشرة في كامل الجغرافيا العربية والإسلامية ، مما يستدعي تظافر الجهود وتوحد العزائم .
كما أن المرحلة الحالية هي مرحلة تتشوف فيها الأمة بأكملها تحديث أبنيتها الثقافية والحضارية ، واستحداث ثورتها الصناعية المرتجاة كشرط حتمي للتقدم والتنمية متعددة الأبعاد .
أرجو من مؤتمرنا أن يضمن هذه الورقة فيما ينتهي إليه من نتائج ، وأرجو من الله أن تعم الفائدة بها .