الضرورات والسبل لإحياء الحضارة الإسلامية الحديثة في النظام العالمي المعاصر
الضرورات والسبل لإحياء الحضارة الإسلامية الحديثة في النظام العالمي المعاصر - حافظ جمالي مجو
إعداد
الشيخ حافظ جمالي مجو
المفتي والقاضي الشرعي لمدينة كوموتيني بشمال اليونان
١٤٣٩هـ /٢٠١٧م
بحث مقدم للمؤتمر الدولي " الحادي والثلاثون للوحدة الإسلامية " الذي ينظره "المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية" في الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الفترة من ١٧ ربيع الأول، ١٤٣٩هـ الموافق ٦،٤ كانون الأول - ديسمبر ٢٠١٧م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد!
فإن " الوحدة ومتطلبات الحضارة الإسلامية الحديثة" هذا الذي جعله المؤتمر الدولي "الحادي والثلاثون" للوحدة الإسلامية للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية عنواناً للمؤتمر ليتناوله المشاركون بالبحث والدراسة والمناقشة وهو موضوع في غاية الأهمية؛ لأنه موضوع الساعة والواقع ولا شك أنه موضوع عميق يحتاج إلى جهود كبيرة للغور في أعماقه حتى يستخرج منه الدرر الثمينة، والفوائد العظيمة.
وقد سطرت حول " الضرورات والسبل لإحياء الحضارة الإسلامية الحديثة في النظام العالمي المعاصر " صفحات متواضعة، داعياً الله سبحانه وتعالى أن يوفق المؤتمر إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين والبشرية أجمعين.
ثم إنني أتقدم بالشكر الجزيل للجمهورية الإسلامية الإيرانية المتمثلة برئيسها السيد "حسن روحاني " حفظه الله والأمين العالم "للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية" المتمثلة برئيسه الأستاذ الدكتور محسن الأراكي وفقه الله لما يحبه ويرضاه، وجميع العاملين بالمجمع لما يحاولون بأقصى جهودهم؛ لأداء ما تحملوه من الأمانة.
فنحن من جانبنا سنحاول بكل ما نملك من رأي وما أعطينا من علم وفكر وحكمة أن نقول ونقوم ما علينا إن شاء الله، والله مقصودنا ورضاه مطلوبنا .
مقدمة
إن لكل عصر مشكلاته ومتطلباته وحاجاته المتجددة، وإن الحوادث والنوازل متجددة لا تنقطع ولا تنتهي، فالحاجة إلى الوحدة من أهم متطلبات شريعتنا الغراء حيث أمرنا الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم خبير " وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً " [سورة آل عمران الآية:١٠٣]
وقال رسولنا وقدوتنا وزعيمنا محمد صلى الله عليه وسلم " شرح حديث أَبي موسى -رضي الله عنه- "الْمُؤْمنُ للْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشدُّ بعْضُهُ بَعْضًا"[1].
وقال سبحانه" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) " [سورة الأنفال الآية: ٢٤-٢٥]
ونحن دوماً ودائماً نقول ونكرر " إن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، بل مصلح لكل زمان ومكان" هذه القاعدة الغراء نقول: إذا فما علينا إلا أن ننكب لدارسة ديننا وقراءة كتابنا ومدارسة سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم حتى نجد حلاً لما حل بأمتنا بل حلولاً كثيرة نختار منها ما يناسبنا وما يناسب كل قارة، وكل دولة وكل مدينة بل كل فرد من أفراد المسلمين.
وقد تحدث القرآن الكريم عن عوامل ازدهار الحضارات واستمرارها وبقائها في الكثير من آياته، ويستطيع الباحث في كتاب الله أن يقف على تلك العوامل بتفاصيلها.
وإنّ أخطر ما يمكن أن يصيب أمّة من الأمم هو أن تفقد هويّتها الحضاريّة، فالهويّة الحضاريّة هي أثمن ما يمتلكه أيُّ مجتمع من المجتمعات، وقد تصاب المجتمعات بالعديد من أنواع الكوارث الّتي تقضّ مضجعها وتؤرِّق اطمئنانها وتجلب لها المعاناة، إلاّ أنّ المجتمع المدرِك لهويته وشخصيَّتِه الحضاريّة من شأنه أن يواجه تلك الكوارث الّتي تستفزُّه وتدعوه إلى المواجهة ما دامت الحضارة الّتي ينتمي إليها تملك من المقوِّمات والحلول ما يكفي لمواجهة أعباء الحياة بشتّى أشكالها، ولكنَّ تلك الأزمات والكوارث حين تلمّ بمجتمع غافل عن ذاته وهوّيته وشخصيّته ومقوِّمات وجوده، فإنّ من شأنها أن تفتك به الواحدة تلو الأخرى حتّى ترديه صريعاً، وربّما تودي به إلى الزوال من خارطة الحضارات البشريّة.
وقد اقتضت طبیعة ھذا البحث على النحو التالي:
مقدمة:
المبحث الأول: مصطلحات وتعریفات:
المطلب الأول: تعریف مصطلح الحضارة: لغة والاصطلاح.
المطلب الثاني: المصطلحات المماثلة.
المبحث الثاني: عناصر الحضارة وأركانھا:
المطلب الأول: الإنسان.
المطلب الثاني: الحیاة. المطلب الثالث: الكون.
المبحث الثالث: أھم خصائص الحضارة الإسلامیة ومظاھرھا:
المطلب الأول: العقیدة.
المطلب الثاني: الشمولیة والعالمیة.
المطلب الثالث: الحث على العلم.
المبحث الرابع: مجالات الحضارة القرآنیة:
المطلب الأول: العلاقات الاجتماعیة والاقتصاد.
المطلب الثاني: تنظیم العلاقات الدولیة والتشریع والحكم.
المطلب الثالث: شھادات منصفة.
الخاتمة.
فھرس المصادر والمراجع.
المبحث الأول: مصطلحات وتعريفات
المطلب الأول: تعريف مصطلح الحضارة
الحضارة في اللغة: وكما ورد في لسان العرب والمصباح المنير: "الإقامة في الحَضَر، والحَضَر والحَضْرة والحاضرة والحضارة بفتح الحاء وكسرها سكون الحضر، وهي خلاف البادية، وهي المدن والقرى والريف، سميت بذلك لأن أهلها حضروا الأمصار ومساكن الديار التي يكون لهم بها قرار، وحين تُذكر الحضارة في اللغة فإنّه يقصد بها ما هو عكس البداوة، أي سكنى المدن والقرى" [2].
والمعنى اللغويّ هو غير المعنى الاصطلاحيِّ، ولو كان ذا صلة به. ومرادنا في هذا البحث الوقوف على المعنى الاصطلاحيِّ للحضارة، وأوّل من توسّع في الكلام عن الحضارة والتفريق بينها وبين البداوة هو عبد الرحمن بن خلدون (ت: 808 هـ)، الّذي يرى: "أن الناس حين تخطَّوا في كسبهم للمعاش ما هو ضروري وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفه، دعاهم ذلك إلى السكون والدعة وتعاونوا في الزائد على الضرورة واستكثروا من الأقوات والملابس والتأنُّق فيها، وتوسعة البيوت واختطاط المدن والأمصار للتحضُّر، ثمّ تزيد حالة الرفه والدعة فتجيء عوائد الترف البالغة مبالغها في التأنّق في علاج القوت واستجادة المطابخ وانتقاء الملابس الفاخرة في أنواعها من الحرير والديباج وغير ذلك، ومعالاة البيوت والصروح وإحكام وضعها في تنجيدها والانتهاء في الصنائع في الخروج من القوّة إلى الفعل إلى غايتها فيتّخذون القصور والمنازل ويُجرون فيها المياه ويعالون في صرحها ويبالغون في تنجيدها ويختلفون من استجادة ما يتّخذونه لمعاشهم من ملبوس أو فراش أو آنية أو ماعون. وهؤلاء هم الحضر، ومعناه الحاضرون أهل الأمصار والبلدان" [3].
والحضارة في الاصطلاح يراد منها التعبير عن طراز العيش الّذي يسود مجتمعاً من المجتمعات، أي هويّة ذلك المجتمع، وعلى حدّ تعبير رالف لنتون : [4] "فالمجتمع عبارة عن مجموعة منظَّمة من الأفراد، والحضارة مجموعة منظَّمة من الاستجابات الّتي تعلَّمها الأفراد وأصبحت من مميِّزات مجتمع معيّن [5].
ونستمع إلى صامويل هانتغتون[6]. في تعريفه للحضارة يقول: "فما الّذي نعنيه عندما نتحدّث عن حضارةٍ ما ؟ إنّ الحضارة هي كيان ثقافي، فالقرى والأقاليم والمجموعات الإثنيّة والقوميّات والمجموعات الدينيّة لها جميعها ثقافات متميِّزة… وهكذا فإنَّ الحضارات هي أعلى تجمُّع ثقافيّ للناس وأوسع مستوى للهويّة الثقافيّة للشعب ولا يسبقها إلاّ ما يميِّز البشر عن الأنواع الأخرى، وهي تحدَّد في آن معاً بالعناصر الموضوعيّة المشتركة، مثل اللغة والدين والتاريخ والعادات والمؤسَّسات، وبالتحديد الذاتيِّ الذي يقوم به الشعب نفسه [7].
ويتحدث الشيخ السائح في تعريف الحضارة فيقول: "لفظ الحضارة في مفهومه الحديث، ومفهومه العالمي المعاصر، قد أصبح أكثر اتساعاً، مما كان يدل عليه في مفهومه اللغوي التقليدي.. وإذا كان أصل الحضارة: الإقامة في الحضر. فإن المعاجم اللغوية الحديثة، ترى أن الحضارة هي: الرقي العلمي، والفني، والأدبي، والاجتماعي، والاقتصادي في الحضر..
وبعبارة أخرى أكثر شمولاً، هي: الحصيلة الشاملة للمدنية، والثقافية، والفكر، ومجموع الحياة، في أنماطها المادية والمعنوية.. ولهذا كانت الحضارة هي: الخطة العريضة -كماً وكيفاً- التي يسير فيها تاريخ كل أمة من الأمم، ومنها الحضارات القديمة، والحضارات الحديثة والمعاصرة.. ومنها الأطوار الحضارية الكبرى، التي تصور انتقال الإنسان أو الجماعات، من مرحلة إلى مرحلة" [8].
وهذا الشيخ الميداني يحلل هذا المعنى للحضارة فيقول: "إذا كانت الحضارة تعني في أصل اللغة إقامة مجموعة من الناس في الحضر، أي في مواطن العمران، سواء كانت مدنًا أم حواضر أم قرى، فإن معناها قد توسع عند المؤرخين والباحثين الاجتماعيين حتى صار شاملاً لجميع أنواع التقدم والرقي الإنسانيين؛ لأنهما لا يزدهران إلا عند المستقرين في مواطن العمران [9].
وقد وردت تعريفات اصطلاحية كثيرة جداً للحضارة كلها متشابهة وقريبة من بعضها نكتفي منها بما أوردناها بعاليه، ولكنّ هذا المعنى أخذ يتغيّر بعد قليل، حين انتشر المصطلح في اللغات الأوربِيّة الأخرى وصار يعني: "مجموعة من الخطط والنظم القمينة بإشاعة النظام والسلام والسعادة، وبتطوّر البشريّة الفكريّ والأدبيّ، وبتأمين انتصار الأنوار "[10].
المطلب الثاني: المصطلحات المماثلة:
توجد في اللغة العربية عدة مصطلحات مقاربة لمصطلح الحضارة مثل: ثقافة، ومدنية، يقابلها في الإنجليزية على سبيل المثال: (Civilization، Culture) والذين اشتغلوا بالترجمة لم يلتزموا نمطاً واحداً، فمرة ترجموا (Culture) بالثقافة ومرة بالحضارة، وفعلوا ذات الشيء في (Civilization) فمرة ترجمت بالثقافة ومرة بالحضارة، وهكذا، فبينما تزاحم هذان المصطلحان في اللغات الأوربّيّة، نجد في المؤلَّفات والترجمات العربيّة ثلاثة مصطلحات تقوم بهذا الدور، هي: الحضارة والمدنيّة والثقافة.
وها هو جورج حدّاد [11].يضع العبارات الثلاث مقترنة في محاولة لتعريفها، فيقول في الحضارة والمدنيّة والثقافة: "إنّ كلمة حضارة أو مدنيّة مشتقَّة بالأساس من الحضر ومن حياة المدينة وهناك كلمة باللغات الأجنبيّة لها مفهوم يقرب من مفهوم الحضارة وهي (culture) و(Kultur) بالألمانيّة وترجمتها بالعربيّة هي الثقافة، ومعناها أوسع، ويفهم منها الطريقة التي بموجبها يعيش الشعب ويفكّر، وكثيراً ما تستعمل كلمة (Culture) للدلالة على الحضارة والمدنيّة في اللغات الأجنبيّة، ولذلك قلنا إن كلمة ثقافة لا تكفي لترجمة معناها" [12].
أمّا المصطلح (Culture)، فغالباً ما تُرجم باستخدام كلمة الثقافة، وهي الترجمة الّتي تراعي المعنى اللغويّ لا الاصطلاحيّ. إلاّ أنّ كثيراً من الكتّاب المعاصرين يرون أنّ كلمة ثقافة لا تفي بمعنى المصطلح الغربيّ (culture) كما مرّ معنا سابقاً في كلام جورج حدّاد- لذلك تُرجمت (Culture) إلى العربيّة بحضارة.
يستفاد من النصوص السابقة أنّ الحضارة - سواء اعتبرناها ترجمة لعبارة (Civilization) أو لعبارة (Culture) الأوربّيتين ووفق المعنى الّذي استقرّتا عليه- وواضح للعيان تاريخاً وحاضراً أنّ لكل مجتمع طريقة في العيش تميّزه عن سائر المجتمعات تجعل منه جماعة بشريّة ذات شخصيّة معيّنة ولون متميّز وهويّة خاصّة هذه الطريقة من العيش الّتي تميّز مجتمعاً عن آخر هي ما يعبَّر عنه بالحضارة، لذلك لا بدّ من أجل الوصول إلى تعريف الحضارة من معرفة العوامل الّتي تجعل للمجتمع طريقته الخاصّة في العيش، وتميّزه عن سائر المجتمعات.
المبحث الثاني: عناصر الحضارة وأركانها
لما كانت الحضارة هي ثمرة التفاعل بين الإنسان والكون والحياة فعناصر الحضارة أو أركانها الأساسية تتمثل في هذه الكليات الثلاثة: الإنسان- الحياة- الكون.
المطلب الأول: الإنسان
خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان وجعله خليفة له في أرضه وأسجد له ملائكته، لذا كان من الواضح أن الإنسان أهم هذه العناصر الثلاثة التي تكون الحضارة، إذ هو العنصر الفعال والمؤثر قال عز وجل: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [سورة البقرة، الآية: 30]، فالوظيفة التي يحملها القرآن للإنسان في الحقيقة إنما هي عمارة الأرض بمعناها الشامل العام، وهي تشمل فيما تشمل إقامة مجتمع إنساني سليم، وإشادة حضارة إنسانية شاملة.
يقول الميداني في هذا الصدد: "وبإحصاء صور التقدم والرقي عند الإنسان نستطيع أن نرجعها إلى الأصناف الثلاثة التالية:
الصنف الأول: ما يخدم الجسد ويمتعه من وسائل العيش، وأسباب الرفاهية والنعيم، ومعطيات اللذة للحس أو للنفس. ويدخل في هذا الصنف أنواع التقديم العمراني والزراعي والصناعي والصحي والأدبي والفني، والتقدم في الإنتاج الحيواني، واستخراج كنوز الأرض، والاستفادة من الطاقات المنبثة فيها، وما أشبه ذلك. ويدخل ضمن هذا جميع أنواع العلوم والثقافات التي تخدم هذا الصنف.
الصنف الثاني: ما يخدم المجتمع الإنساني، ويكون من الوسائل التي تمنحه سعادة التعاون والإخاء والأمن والطمأنينة والرخاء، وتمنحه سيادة النظام والعدل والحق، وانتشار أنواع الخير والفضائل الجماعية. ويدخل في هذا الصنف أنواع التقدم الاجتماعي الشامل للنظم الإدارية، والحقوقية، والمالية، والأحوال الشخصية، والشامل للأخلاق والتقاليد والعادات الفاضلات، وسائر طرق معاملة الناس بعضهم بعضًا في علاقاتهم المختلة. وكل أنواع الثقافات والعلوم التي تخدم هذا الصنف.
الصنف الثالث: ما يأخذ بيد الإنسان فردًا كان أم جماعة إلى السعادة الخالدة التي تبدأ منذ مدة إدراك الإنسان ذاته والكون من حوله، وتستمر مع نفسه وروحه الخالدتين إلى ما لا نهاية له في الوجود الأبدي، الذي ينتقل من حياة جسدية مادية يكون فيها الابتلاء، إلى حياة نفسية روحية برزخية يكون فيها بعض الجزاء، ثم إلى معاد جسدي نفسي وروحي يكون فيه كامل الجزاء. ويدخل في هذا الصنف أنواع التقدم الفكري القائم على التأملات الحكمية، التي توصل الإنسان إلى معرفة الخالق، وسر وجود الإنسان، وغايته ومصيره، وواجبه في الحياة الدنيا، وسبل سعادته الأبدية الخالدة، وهي الأمور التي تحمل اسم المعتقدات والواجبات الدينية وسائر التكاليف والآداب الشرعية الإسلامية"[13].
والقرآن الكريم عندما يتحدث عن الإنسان إنما يتحدث عنه من زاويتين مختلفتين، فيصفه بأنه مخلوق حقير أصله الأول من تراب وسلالته من ماء مهين، والشأن فيه وإن طالت به الحياة أن يعود إلى أرذل العمر، وهناك العديد من الآيات القرآنية التي تتكلم عن هذه الحقيقة مثل قوله تبارك وتعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [سورة الطارق، الآيات: 5-7] ومن الناحية الأخرى يتحدث عنه بصفة التكريم والتفضيل، وأنه مخلوق مكرم على سائر المخلوقات الأخرى وأنه ذاك الذي كرمه الله تعالى، بأن أمر ملائكته بالسجود له، وأنه الذي شرفه بالخلافة على هذه الأرض وهناك العديد من الآيات التي تتكلم عن هذه الحقيقة كقوله عز وجل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [سورة الإسراء، الآية: 70].
كل ذلك ليعلم الإنسان أنه مهما بلغت مرتبته من السمو والرفعة، ومهما وصل من المراتب العليا الرفيعة، ومهما اتصف به من المزايا والصفات النادرة، فليس شيء من ذلك نابعاً من ذاته ولا هو اكتسبه بجهده واستقلال طاقته، وإنما جاء ذلك كله فيضاً من الله عزوجل، أما تكوينه الذاتي فمن تراب تافه ثم ماء مهين. "فرجل الحضارة الإنسانية في القرآن لا يهون ولا يذل ولا يركن إلى ضعف يجعله ضحية الجبابرة والمتكبرين كما أنه لا يطغى ولا يستكبر ويجعل نفسه حاكماً من دون الله عزّ وجلّ. [14]
ويحدد الميداني سبل تحقيق الرقي الحضاري فيقول: "وفي هذا الإطار يمكن أن نجمل السبل الكفيلة بتحقيق التقدم والرقي الحضاريين فيما يلي:
1- ما ينزل به الوحي، أو يفيض به الإلهام.
2- ما يتوصل إليه العقل بالبحث العلمي.
3- ما يكتسبه الإنسان عن طريق الاختبار والتجربة والممارسة التطبيقية مع الملاحظة الدقيقة لجوانب الخطأ والنقص، وما يستدعيه الكمال.
أما الصنف المادي لصور التقدم والرقي عند الناس فالسبيل الطبيعي إليه إنما هو استخدام العقل في البحث العلمي والاختبار والتجربة والممارسة التطبيقية العملية، مع الملاحظة الدقيقة لجوانب الخطأ والنقص وما يستدعيه الكمال. وقد يُسعف الوحي أو يفيض الإلهام بشيء من ذلك فنجده أخصر طريق إلى الكمال فيه.
وأما الصنف الذي يخدم المجتمع الإنساني فللتقدم والرقي فيه سبيلان:
السبيل الأول: التلقي التعلمي عن طريق الوحي، وذلك في كل ما تكفلت الشرائع الربانية ببيانه، ولا يعدل عن ذلك إلا متنكب سواء السبيل.
السبيل الثاني: استخدام العقل في البحث العلمي والاختبار والتجربة والممارسة التطبيقية العملية، مع الملاحظة الدقيقة لجواجب الخطأ والنقص، وما يستدعيه الكمال[15].
ويرتب الميداني أصناف الرقي والتقدم فيقول: "بالنظر إلى الثمرات التي يجنيها الإنسان من كل صنف من أصناف التقدم والرقي السابقة لا بد أن نلاحظ أن سلم الرقي مرتب الدرجات بشكل صاعد، بدءًا من الصنف الأول الذي يخدم الجسد الفاني وارتقاء إلى الصنف الثاني الذي يخدم المجتمع الإنساني، ثم إلى الصنف الثالث الذي تنضوي تحته أسباب سعادة الإنسان الخالدة، بما فيه من سمو المعرفة الكبرى وبما فيه من تحقيق لرضا الله تعالى. [16].
إذن، فالإسلام في حقيقته مصدر الحضارة الإنسانية التي شعّ نورها بامتداد الدعوة الإسلامية بعد الاستقرار في المدينة وبناء الدولة فيها عقب اكتمال بناء الفرد في مكة، وذلك لأن الإسلام هو دستور التقدم الإنساني بالقرآن العظيم والسنة النبوية الشريفة. فكل ما يعد تقدماً وعمراناً هو من الإسلام، وكل تخلف مضاد للتقدم ليس من الإسلام في شيء.
المطلب الثاني: الحياة
ولما كانت الحياة التي نعيشها عنصراً أساسياً وركناً مهماً من أركان الحضارة كما ورد سابقاً من تعريفات الحضارة، نجد أن القرآن الكريم -أساس الحضارات- قد تحدث عن هذا الجانب من الحياة، وبنظرتين متباينتين للحياة، فقد وصفها بأنها حياة قصيرة وأنها ليست إلا جسراً إلى الحياة الآخرة، وإنما العبرة بالحياة الأخرى التي هي القرار وهي الحياة الفعلية وهي الحياة الدائمة التي لا انقضاء لها، والآيات القرآنية التي تتحدث عن هذه الحقيقة واضحة وكثيرة، نذكر منها قوله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [سورة العنكبوت، الآية: 64]، وقوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [سورة الأنعام، الآية: 32].
وفي الجانب الآخر يتحدث القرآن الكريم عن أهمية هذه الحياة وقداستها وحرمتها بالرغم من قصر مدتها بالنسبة للآخرة، فيقول سبحانه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [سورة القصص، الآية: 77].
جاء في تاريخ الحضارات: "إن فهم الحياة وفقاً لتلك الحقيقتين، يقوم بمثابة الروح التي تبعث الحياة في الجانب الأخر، فكل منها عندما ينفصل عن الآخر ويصبح بمعزل عنه يغدو باطلاً من الأمر وخارجاً عن معنى الحياة وحقيقتها، إن الساعة الإمتحانية التي يجتازها الطالب تافهة بحد ذاتها إذا ما نظرت إليها من حيث هي مدة زمنية ضيقة، ولكنها ذات أهمية قصوى حيث إنها تنطوي على فرصة نادرة يتوقف على استغلالها أمر مصيري في حياة الإنسان وسلوكه، إن رجل الحضارة الإنسانية يقبل على الحياة إقبال العارفين بها المستأنس لها مهما كانت حاله وظروفه، فلم يكن يتبرم بها لضيق ألمّ به، ولم يكن ينتشي بها أو يلهث وراءها للذة نالته منها، واستطاع رجل الحضارة الإنسانية نتيجة لفهمه للحياة أن يعلم متى ينبغي أن يكون ضنيناً بالحياة محافظاً عليها ومتى يجب أن يتحول فيصبح سخياً بها. [17].
ونستمع إلى الميداني يتحدث عن هذه الحياة المثالية للحضارة الإسلامية مقارناً بينها وبين الحضارات السابقة لها فيقول: "كانت الأسس الفكرية عند اليونان الإغريق قائمة على تمجيد العقل فقط، حيث أثمرت لهم خلال قرون علوماً فلسفية ورياضية ونفسية وطبية، وفنوناً جمالية مختلفة. وكذلك كانت الأسس الفكرية عند الرومان قائمة على تمجيد القوة، والرغبة ببسط السلطان الروماني على الشعوب، لذلك كانت مظاهر حضارتهم ذات صلة وثيقة بهذه الأسس؛ إذ أثمرت لهم خلال قرون إعداد أجساد قوية، وجيوش متقنة البناء، حسنة الاستعدادات والتدريبات الحربية، وأورثتهم هذه القوة سلطانًا ممتدًا في الأرض على شعوب كثيرة، غلبوها واستعمروها، واستغلوا خيراتها، كما أثمرت لهم أيضًا اشتراع مجموعة من القوانين والتنظيمات المدنية والعسكرية. وكانت الأسس الفكرية عند الفرس قائمة على تمجيد اللذة الجسدية، والسلطان، والقوة الحربية، ولذلك كانت مظاهر حضارتهم ذات صلة وثيقة بهذه الأسس؛ إذ أثمرت لهم خلال قرون قصورًا فخمة، ومجالات كثيرة للترف المفرط، وجيوشًا حربية ذات بأس، بسطت سلطانهم على شعوب كثيرة غلبوها واستعمروها، واستغلوا خيراتها.
ولما كانت الأسس الفكرية لكل هذه الحضارات غير شاملة لحاجات الحياة كلها لم تستطع حضارتهم أن تعطي الصورة المثلى للحضارة الإنسانية.
وأما الحضارة الإسلامية فهي الحضارة الوحيدة التي تشتمل أسسها الفكرية والنفسية على حاجات الحياة كلها، من مختلف جوانبها الفكرية والروحية والنفسية والجسدية والمادية، الفردية والاجتماعية، ومن جميع المجالات العلمية والعملية، لذلك فهي جديرة بأن تمنح الأمم التي تلتزم بها وتسير في منهجها سيرًا قويمًا الصورة المثلى للحضارة الإنسانية الراقية، وقد استطاعت أسس هذه الحضارة ووسائلها ومناهجها أن تدفع الأمة الإسلامية في حقبة من الدهر للارتقاء في سلم الحضارة المجيدة المثلى، على مقدار التزامهم بأسسها ووسائلها ومنهجها السديد وكانت نسبة الارتقاء الذي أحرزته هذه الأمة نسبة مدهشة إذا قيست بالزمن والطاقات التي تيسرت لهم حينئذ، واستمروا في ارتقائهم المدهش حتى أدركهم الوهن والانحراف عن أسس الحضارة الإسلامية الصحيحة، ووسائلها الفعالة، ومنهجها السديد. ويظل ارتقاء قمم الحضارة المثلى أبد الدهر رهنًا بالتزام أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها ومنهجها[18]."
وبنظرة فاحصة نستطيع أن نبين أن الحضارة الإنسانية تنظر للحياة التي نعيشها حياة متكاملة الجوانب لا يطغى جانب على آخر ولا يتجاوز جانب من الجوانب الحدود السموح بها.
المطلب الثالث: الكون
أما العنصر الثالث من عناصر الحضارة، فهو الكون الذي نعيش فيه ونشاهده بكل مافيه من خلق، فنجد أن القرآن الكريم عندما تحدث عن الكون أوضح لنا أن كل مانراه من الكون ومظاهره مسخر لخدمتنا، وتدبير أسباب عيشنا، وتحقيق شروط رفاهيتنا، فقال عز وجل: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [سورة لقمان، الآية: 20].
من ناحية أخرى أبان لنا القرآن الكريم أن المكونات التي يراها الإنسان من حوله مظاهر خادعة فيحذره من الإنخداع والإنغماس فيها، فيقول سبحانه وتعالى في ذلك: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [سورة الكهف، الآية: 46]. "والسبيل إلى التوفيق بين هاتين الحقيقتين هو أنه يجب أن يمارس الناس دنياهم وأسباب عيشتهم وتقدمهم وبناء حضارتهم بدافع وظيفي وبروح استشعار المسوؤلية لا بدافع التعلق والتعشق النفسي، إن الإنسان إذا ربي على هذه التبصرة القرآنية فإنه لن يفر من الدنيا ومسوؤلياتها، ولكنه بالمقابل مهما تذوق من نعيم الدنيا ألواناً ومهما لاح له بريقها، فسيبقى كل من عواطفه وأفكاره ويقينه العقلي مشدوداً ومتجهاً إلى النعيم الأكبر يوم القيامة. [19].
يقول الميداني: "تقوم الفلسفة الإسلامية بالنسبة إلى الوسائل الكونية على أساس أن جميع ما خلق الله في الوجود من وسائل سلط أيدي عباده عليها لا توصف لذاتها بأنها خير أو بأنها شر، وإنما هي وسائل يمكن أن تستعمل في الخير، ويمكن أن تستعمل في الشر، وقد وضعها الله تحت أيدي الناس ليبتليهم فيها، هل يستعملونها في الخير أم يستعملونها في الشر؟ فالاستعمال الإنساني هو الذي وجهها لجهة الخير أو لجهة الشر. [20].
ووجه القرآن الكريم في كثير من آياته العباد للسير في هذا الكون الفسيح الذي خلقه الله تعالى وسخره لهم شاحذاً الهمم للتفكر والتدبر في هذا الخلق المبدع الذي أبدعه خالق الكون حتى يقف العبد أمام عظمة هذا الخالق، ويعد هذا في حد ذاته مظهراً مهماً من مظاهر التقدم والرقي الحضاري الذي يعتبر الإسلام والقرآن الأساس المتين له، ونستمع في هذا الاتجاه لقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [سورة الأعراف، الآية: 185]. وقال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة العنكبوت، الآية: 20].
ومن الجدير بالملاحظة أن القرآن لفت أنظار العوام من الناس إلى معرفة الحقائق الدينية عن طريق دلائلها الكونية القريبة، التي لا تحتاج أكثر من تذكير بها، وراعى حالتهم الفكرية، غير العاملة في معرفة الدلائل وعقلها، وإدراك الحقائق بها، فهم بحاجة إلى من يذكرهم وينبههم عن طريق أسماعهم، ويكشف لهم اقتران الحقائق الدينية بأدلتها الكونية التي يشاهدونها، في أنفسهم وفيما حولهم من الأدلة القريبة التي لا تتطلب جهداً فكرياً فوق استطاعتهم المعتادة، ففي لفت نظر الدهماء من الناس بشكل عام إلى آيات الله في الكون عرض القرآن أدلة واضحة، لا تحتاج إلى تفكير كثير، وبين أن فيها دلائل لقوم يسمعون، إشارة إلى أن لفت نظرهم إليها بالقول كاف لأن يجعلهم يفهمونها، فليست هي من القضايا الصعبة حتى تحتاج إلى جهد عقلي، وليست من العويصات حتى تحتاج إلى تفكر وبحث متتابعين، مما لا يصبر عليه إلا العلماء الباحثون، وإنما هي من البدهيات، أو دلائل قريبة منها. فمن ذلك قول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [سورة الروم، الآية: 30]، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [سورة يونس، الآية: 10].
فنوم الناس بالليل والنهار، وحاجتهم إليه، وعمل الناس لاكتساب الرزق، يبتغونه من فضل الله، وحاجتهم إليه من الأمور البدهية التي يشترك في إدراكها الناس جميعًا، مهما تنازلت مستوياتهم الفكرية، فلا يحتاج التبصر فيها إلى أكثر من لفت النظر بالقول، وذلك كاف في أن يشعروا بعجزهم، ويشعروا بقدرة الله وحكمته، الذي خلق فيهم الحاجة، ويسر لهم وسائل قضائها.
ولفت القرآن أنظار الفئة العاقلة من الناس إلى إدراك الحقائق التي تحتاج إلى شيء من التعقل والتأمل، ووضع أمامهم مجالات فكرية أرقى مستوى من المجالات التي وضعها أمام الدهماء، ومن أمثلة ذلك قول الله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [سورة الرعد، الآية: 13].
فمستوى إدراك القطع المتجاورات من الأرض، والجنات، وما فيها من أشجار مختلفة الصفات، ومختلفة الثمرات إذ بعضها أفضل من بعض في الأكل، مع أنها تستقي بماء واحد، أمر يحتاج إلى تأمل وراء البديهة، وإلى تعقل مناسب، ولا يكفي فيه مجرد لفت النظر إليه بالقول، بل لا بد فيه من التأمل والتعقل، بضبط شرود النفس مع الأهواء، ولذلك ذيل الله الآية بقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون} [سورة الرعد، الآية: 13].
ثم ارتقى القرآن إلى مستوى ثالث من مستويات الناس، وهو مستوى العلماء الباحثين عن دقائق الأمور، القادرين على الغوص إلى أعماق من المعرفة، لا يغوص إليها غيرهم في الأحوال العادية، فوضع أمام هؤلاء مجالات فكرية واسعة، تحتاج إلى بحث عميق، وتتبع دقيق، ليصلوا عن طريق البحث والتتبع إلى إدراك الحقائق الدينية إدراكًا يتناسب مع ما وهبهم الله من قدرات بحث، وتفكر دائم، واستنباط.
وفي لفت أنظار الفئة العليا من الناس، وهي فئة المتفكرين، الباحثين العلميين، للحقائق، واستنباطها من الأعماق، عن طريق أدلتها الدقيقة، عرض القرآن أدلة يحتاج استقصاؤها واستيعاب دقائقها إلى بحث وتتبع، وجهد فكري كثير، ونسب عالية من القدرات الفكرية.ومن أمثلة ذلك قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة الرعد، الآية: 13].
فمستوى البحث في الأرض، وكيفية تكوينها، وفي الجبال وسر وجودها، وفي الأنهار ومسالك ينابيعها ومصادرها ومواردها، وفي الثمرات وكون كل منها مؤلفًا من زوجين اثنين مذكر ومؤنث، وفي النظام الدقيق الذي يغشي الله فيه الليل النهار، مستوى دقيق لا يحسنه ولا يستطيعه إلا الباحثون العلميون الذين يتابعون البحث والتفكر والاستنباط، ولذلك ذيل الله الآية بقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة الرعد، الآية: 13].
ومن أمثلة مراعاة الإسلام مستويات الناس الفكرية في بياناته التعليمية، نص قرآني في سورة النحل جمع الله فيه طائفة من الأدلة الكونية، ذات مستويات ثلاثة، تناسب مستويات فئات الناس الثلاث، وهي فئة الدهماء بشكل عام، ثم فئة المتعقلين، ثم فئة المتفكرين الباحثين العلميين، المتتبعين دقائق المعرفة. وختمت المجموعة الأولى منها بقول الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}، وهم الذين يناسبهم أن توضع أمامهم أدلة قريبة، لا يحتاج إدراكها وفهمها إلى جهد فكري، بل يكفي لإدراكها التذكير القولي بها لبداهتها، أو لكونها قريبة من الأمور البدهية.
وختمت المجموعة الثانية منها بقول الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُون}، وهم الذين تعمل أفكارهم عادة في تصيد الأدلة وعقلها، وربطها بما تدل عليه من حقائق، وهؤلاء يناسبهم أن تلفت أنظارهم إلى أدلة ذات مستوى متوسط، مما يتنبه إليه عادة المتعقلون، الذين يلذ لهم فهم ارتباط الأمور بعضها ببعض، ويحلو لهم ربط الأدلة بما تدل عليه من حقائق.
وختمت المجموعة الثالثة منها بقول الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وهم الباحثون العلميون، الذين يتفكرون باستمرار في ظواهر الأشياء، ويغوصون إلى بواطنها، ويستنبطون من أعماق المباحث الفكرية حقائق المعرفة.
أما النص القرآني من سورة النحل الذي جمع هذه المستويات الثلاثة، مع التدرج فيها من الأدنى إلى الأعلى فهو قول الله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ * وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة النحل، الآية: 16].
ففي المستوى الأول يلفت النص أنظار قوم يسمعون إلى الأدلة الكونية التي يحتوي عليها، إنزال الماء من السماء، وإحياء الأرض بعد موتها، ويلاحظ أن إدراك هذه الظاهرة الكونية من الأمور التي لا يحتاج البحث فيها إلى جهد عقلي، بل يكفي فيها التذكير بالقول، حتى يدرك السامعون ما تحتوي عليه من أدلة كونية تدل على قدرة الخالق العظيم وحكمته.
وفي المستوى الأوسط يلفت النص أنظار قوم يعقلون إلى الأدلة الكونية التي يحتوي عليها ما يخلقه الله في بطون النعام من اللبن الخالص السائغ للشاربين، يخرج من بين صنفين مختلفين اختلافًا شديدًا هما الفرث والدم المستقذران اللذان يحرم أكلهما، وإلى الأدلة التي يحتوي عليها خروج صنفين مختلفين اختلافًا شديدًا هما السكر الذي يحرم شربه، والرزق الحسن الطيب، وكل منهما يخرج من مصدر واحد، هو ثمرات كل من النخيل والأعناب، ويلاحظ أن إدراك هذه الظواهر الكونية من الأمور التي تحتاج إلى تعقل وتبصر، لما فيها من حاجة إلى فهم الأصناف المختلفة المتباينة في خصائصها، وكيفية استخلاص صنف آخر منها، كاستخلاص اللبن السائغ من بين فرث ودم، أو استخلاصها من صنف آخر، كاستخلاص السكر والرزق الحسن من ثمرات كل من النخيل والأعناب.
وفي المستوى الأعلى يلفت النص أنظار قوم يتفكرون إلى الأدلة الكونية التي لا يدركها إدراكًا تامًّا إلا الباحثون العلميون؛ إذ يلفت أنظارهم إلى دراسة مملكة النحل، دراسة مستفيضة، تتناول بحث سر الغريزة التي خلقها الله في النخل، وسر الإلهام الرباني الذي ألقاه الله إليها، فطفقت تتخذ بيوتها ذات الهندسة الرائعة، في الجبال والشجر وما يعرش الناس. وتتناول أيضًا بحث رحلاتها اليومية، لتأكل من كل الثمرات، وتمتص رحيق الأزهار المختلفة، وتسلك السبل التي ذللها الله لها. ثم بحث صناعة العسل في بطونها، وبحث أصنافه وألوانه، وبحث خصائصه التي فيها شفاء للناس. وبدهي أن إدراك هذه الآيات الكونية في مملكة النحل مما يحتاج إلى بحث عملي دقيق، وتفكر دائب. واختبارات وتجارب متتابعة، وهذه إنما يقوم بها الباحثون العلميون المتفكرون" . [21].
المبحث الثالث: أهم خصائص الحضارة الإسلامية ومظاهرها
المطلب الأول: العقيدة
من أهم خصائص الحضارة الإسلامية: أنها قامت على أساس الوحدانية المطلقة في العقيدة، فهي أول حضارة تنادي بالإله الواحد الذي لا شريك له في حكمه وملكه، هو وحده الذي يُعبد، وهو وحده الذي يُقصد {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة، الآية: 5]، وهو الذي يعز ويذل، ويعطي ويمنح، وما من شيء في السموات والأرض إلا وهو تحت قدرته وفي متناول قبضته. هذا السمو في فهم الوحدانية كان له أثر كبير في رفع مستوى الإنسان وتحرير الجماهير من طغيان الملوك والأشراف والأقوياء ورجال الدين، وتصحيح العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، وتوجيه الأنظار إلى الله وحده وهو خالق الخلق ورب العالمين.
ويصف الشيخ المودودي العقيدة التي دعا لها القرآن قائلاً: "جاء الإسلام بعقيدة التوحيد التي تُفرِد الله سبحانه بالعبادة والطاعة، وحرص على تثبيت تلك العقيدة وتأكيدها، وبهذا نفى كل تحريف سابق لتلك الحقيقة الأزلية، قال عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [سورة الإخلاص، الآيات: 1-4]. فأنهى الإسلام بذلك الجدل الدائر حول وحدانية الله تعالى، وناقش افتراءات اليهود والنصارى، وردَّ عليها في مثل قوله سبحانه وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة، الآيات: 30-31]. وقطع القرآن الطريق بالحجة والمنطق على كل من جعل مع الله إلهًا آخر، قال عز وجل: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ، لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [سورة الأنبياء، الآيات: 21-22.[22].
وجاء في الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل: "كما كان لهذه العقيدة أثر كبير في الحضارة الإسلامية تكاد تتميز به عن كل الحضارات السابقة واللاحقة، وهي خلوها من كل مظاهر الوثنية وآدابها وفلسفتها في العقيدة والحكم والفن والشعر والأدب. [23].
وقد أخرج الإسلام الناس من عبادة الأوثان إلى عبادة الله الواحد القهار، وإلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وأخرجهم من عبادة المادة إلى عبادة الله، وأراد تحريرهم من التخلف العقلي والعقائدي، وترقيق مشاعرهم وأحاسيسهم، والسمو بها إلى أعلى منزلة، فوصل هذا الإيمان إلى أعماق قلوبهم، وحوَّل هذا الإنسان من الدفاع عن قبيلته وعشيرته إلى التفاني في سبيل الدفاع عن دينه وعقيدته، والعمل على نصرة هذا الدين، والحرص على نشره، وتبليغه للناس ابتغاء مرضاة الله.
فهذا الصحابي الجليل ربعي بن عامر يدخل على رستم -قائد الفرس- فلا يهتم بالزخرفة والزينة التي تحيط به، فيقول له رستم: "ما جاء بكم؟!" فيرد عليه ربعي قائلاً: "إن الله ابتعثنا لنخرج مَنْ شاء مِنْ عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جوْر الأديان إلى عدل الإسلام. [24].
إن كُتّاب العالم الغربى يقولون: إن الحضارة الإسلامية مقتبسة من الحضارات القديمة، وهما حضارتا اليونان والرومان، وأن العقلية العربية قدْ بدَّلت الصورة الظاهرة لكل هذه الحضارات وركبتها في أسلوب جديد، مما جعلها تظهر بصورة مستقلة. وهذه فكرة خاطئة لا أساس لها من الصحة، "فالحضارة الإسلامية في ذاتها وجوهرها إسلامية خالصة، وهي تختلف عن غيرها من الحضارات اختلافًا كبيرًا، إنها حضارة قائمة بذاتها، لأنها تنبعث من العقيدة الإسلامية، وتستهدف تحقيق الغاية الإسلامية، ألا وهي إعمار الكون بشريعة الله لنيل رضاه، لا مجرد تحقيق التقدم المادي، ولو كان ذلك على حساب الإنسان والدين كما هو الحال في حضارات أخرى، مع الحرص على التقدم المادي؛ لما فيه من مصلحة الأفراد والمجتمع الإنساني كله. [25].
ونستمع إلى الميداني يدلي بدلوه هنا فيقول: "وأما الصنف الذي يأخذ بيد الناس إلى السعادة الخالدة، وهو المشتمل على المعتقدات والواجبات الدينية، وسائر التكاليف والآداب الشرعية التعبدية فالسبيل إلى تحقيق التقدم والرقي فيه إنما يكون بالتلقي التعليمي عن طريق الوحي فقط، وبدهي أن تلقي ما يأتي به الوحي وينطق به الرسل عليهم الصلاة والسلام لا بد أن يرافقه إعمال العقل في التأمل، والتدبر، والفهم الصحيح، والتحليل والتركيب، والاستنباط، وقياس الأشباه والنظائر بعضها على بعض، ولا بد أن يرافقه أيضاً إعمال العقل في التحقق والتثبت من سلامة النصوص من التحريف والتبديل، بحثًا في الرواية، ونظرًا في صحة المعنى. [26].
وعلى العموم فإن الحضارة الإسلامية حضارة جديدة تقوم على عقيدة التوحيد في أسمى صورها، وهي العقيدة التي تنبع من وحي رسالة سماوية، وتمد الحضارة بالروح والقوة والتماسك، وتوجهها إلى الموازنة الدقيقة بين مقاصد الروح ومطالب الجسد، والبعد عن الزهد المعطل للحياة، وعن المادية الجامحة المفسدة لإنسانية الحياة، لقد كان الفرد المسلم إنساناً صالحاً وكانت الأمة أمة فريدة في توحدها على عقيدة التوحيد، وفي ظل حضارة الإسلام انعقدت الصلة بين الأرض والسماء، وبين الحياة الدنيا والآخرة، بين النشاط المالي والقيم الأخلاقية، وهذا أعظم ما يصل إليه الإنسان في الأرض، وبهذا يكون متحضراً.
المطلب الثاني: الشمولية والعالمية
الإسلام دين شامل، وقد ظهرت هذه الشمولية واضحة جليَّة في عطاء الإسلام الحضاري، فهو يشمل كل جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية، كما أن الإسلام يشمل كل متطلبات الإنسان الروحية والعقلية والبدنية، فالحضارة الإسلامية تشمل الأرض ومن عليها إلى يوم القيامة؛ لأنها حضارة القرآن الذي تعهَّد الله بحفظه إلى يوم القيامة، وليست جامدة متحجرة، وترعى كل فكرة أو وسيلة تساعد على النهوض بالبشر، وتيسر لهم أمور حياتهم، ما دامت تلك الوسيلة لا تخالف قواعد الإسلام وأسسه التي قام عليها، فهي حضارة ذات أسس ثابتة، مع مرونة توافق طبيعة كل عصر، من حيث تنفيذ هذه الأسس بما يحقق النفع للناس، والتي تتجلى في رد كل شيء في هذا الكون إلى الله، وشمول إرادته وتدبيره وهيمنته وسلطانه لكل شيء، وهذه بعض النصوص القرآنية التي ترسم هذه الخاصية، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [سورة القمر، الآية: 49]، وقال عز وجل: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [سورة الفرقان، الآية: 2].
"وتتمثل خاصية الشمول التي يتسم بها هذا التصور في صور شتى: إحدى هذه الصور وأكبرها: رد هذا الوجود كله بنشأته ابتداء، وحركته بعد نشأته، وكل انبثاقة فيه، وكل تحور وكل تغير وكل تطور، والهيمنة عليه وتدبيره وتصريفه وتنسيقه، إلى إرادة الذات الإلهية السرمدية الأزلية الأبدية المطلقة، هذه الذات المريدة، القادرة، المطلقة المشيئة، المبدعة لهذا الكون، ولكل شيء فيه ولكل حي، ولكل حركة، وكل انبثاقة، وكل تحور، وكل تغير، وكل تطور. بقدر خاص. وكل انبثاق وليد. [27].
وتقف معظم الحضارات البشرية ضمن حدود ضيقة فكرية ونفسية ومادية، فنلاحظ أن أسسها الفكرية غير شاملة لكل ما في الحياة من مجالات التقدم والارتقاء، فإذا اهتمت بالجانب الوحداني النفسي، أهملت المجالات الأخرى العلمية والجسدية، وميادين العمل والإنتاج والابتكار والتحسين، وإذا اهتمت بالمجال المادي أهملت المجالات الأخرى الخلقية والسلوكية، ومجالات السمو النفسي الوجداني، وهكذا حالها بين اهتمام في جهة، وتقصير في أخرى، بعكس حضارة الإسلام التي أتت شاملة لكل مجالات الحياة كما يقول ذلك الميداني: "أما الحضارة الإسلامية فإنها مفتوحة الحدود، ممتدة الأرجاء، شاملة كل ما في الحياة من مجالات تقدم وارتقاء، في أسسها الكفرية والنفسية، والمادية.
أ- فهي حضارة لا تحدها حدود ضيقة من الفكر، فتحجبها من أي كمال من الكمالات.
ب- ولا تحدها حدود ضيقة من النفس فتحصرها ضمن الدوائر الأنانية العنصرية أو القومية أو الطبقية، أو غيرها.
ولكنها منفتحة الحدود النفسية انفتاحًا مقروناً بالتحريض على الانطلاق إلى الأبعاد الإنسانية كلها، تحمل إليها المحبة والرحمة، وإرادة الخير والسعادة للناس أجمعين، ثم إلى أبعاد أخرى أوسع من المجتمع الإنساني حتى تشمل كل ذي حياة بالرحمة والإحسان، وشواهد ذلك في النصوص الإسلامية كثيرة:
فعن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم غرس غرسًا فأكل منه إنسان أو دابة إلا كان له صدقة» . [28].
- وجاء في الحديث الصحيح أيضاً: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال: "لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي" فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له». قالوا: "يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجراً؟" قال: «في كل كبد رطبة أجر»[29].
وأخيرًا فإن الحضارة الإسلامية لا تحدها حدود مكانية، ولا حدود زمانية، فكل مكان من الأرض هدف لإقامة الحضارة الإسلامية عليه، وكل زمان من الدهر هدف لإقامة الحضارة الإسلامية فيه، وبهذين العنصرين (العالمية والشمول) تحتل أسس الحضارة الإسلامية قمة رفيعة من المجد الخالد، لم ترق إلى مثلها آية أسس حضارية أخرى. [30].
وقد بيّن المولى تبارك تعالى في كتابه الكريم أنّ المنهج الذي تقوم عليه الحضارة الإسلامية هو منهج شامل وشريعة تامة تنظم شؤون الحياة كلها، فقال عز وجل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [سورة النحل، الآية: 89]، وقال عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [سورة الأنعام، الآية: 38]، والمعنى: لا يوجد شيء تجب رعايته، والقيام بواجب حقه، وبيان نعته في الكتاب، إلا وقد فعل من غير تفريط، فالكتاب تام وكامل. وقد أمر الله سبحانه وتعالى باتباع هذا المنهاج والشريعة وعدم الحيد عنها، قال عز وجل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [سورة الجاثية، الآية: 18].
المطلب الثالث: الحث على العلم
من أهم الدلائل التي تشير إلى اهتمام القرآن الكريم بالعلم وأن أساس نشأة حضارة القرآن قامت على العلم، أن كانت أول آية قرآنية تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تحث المسلمين وتحضهم على العلم والتعلم، قال عز وجل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [سورة العلق، الآيات: 1-5].
وقد رفع الله سبحانه وتعالى قدر العلماء حيث قال عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [سورة المجادلة، الآية: 17].
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم مبينًا أهمية العلم: «طلب العلم فريضة على كل مسلم[31]».
وقد حثت الحضارة الإسلامية على العلم، وشجَّع القرآن الكريم والسنة النبوية على طلب العلم، ففرق الإسلام بين أمة تقدمت علميًّا، وأمة لم تأخذ نصيبها من العلم، فقال عز وجل: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [سورة الزمر، الآية: 9]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مبيِّنًا فضل السعي في طلب العلم: «من سلك طريقًا يبتغي فيه علمًا؛ سهل الله له به طريقًا إلى الجنة»[32]. وإذا تتبعنا النصوص القرآنية والتوجيهات النبوية التي تحدثت عن العلم وحثت عليه فلا نصل لها إلى حصر، ولا تفي القراطيس للإحاطة بذلك لذا نكتفي بهذا الذي أوردناه للاستشهاد بدلالة اهتمام الحضارة القرآنية بالعلم وبيان فضله.
يقول السايح: "ولقد كانت المملكة الإسلامية تزدهر بالعلم والحضارة شرقًا وغربًا، وتنتشر فيها أرقى الصناعات على اختلافها، وما تركه المسلمون من تراث علمي، لأكبر شاهد على ذلك.. ولقد تلمست أوربا الحضارة الإسلامية، فاستقت من روافدها العلوم والمعرفة من الفلك والجبر والهندسة والحساب والكيمياء والطب والزراعة، وسائر أنواع الفنون الحضارية. وبنى رجال أوربا بما تعلموه في معاهد المسلمين بالأندلس، وبما نقلوه من علوم.. بنوا أسس النهضة الحديثة التي ظهرت بوادرها في القرن الثامن عشر، وازدهرت في القرن العشرين.. والإسلام بدعوته إلى العلم هو الذي خرج جهابذة الفكر، ورجال الحضارة، أمثال ابن الهيثم، وابن البيطار، وابن سينا، وابن النفيس، وابن زهر، وابن بطوطة، والكندي، والفارابي، والبيروني، والطوسي، والدينوري، والبغدادي، والرازي، والقزويني، والأنطاكي، والخوارزمي، والإدريسي، والمسعودي، وجابر والحافظ، وغيرهم ممن أفادوا الإنسانية. وهذا ابن الهيثم يبحث في السهول والأودية، ويجول فيها طولا وعرضا، حتى يضع قواعد علم الضوء. وابن الدجيلي، يسهر على قمم الجبال العالية، يحدق في الكواكب والنجوم، ليحد أفلاكها، ويعرف أبعادها، ويقيس محيط الكرة الأرضية. وعبد الله الخوارزمي العالم المسلم الذي ولد في إقليم خوارزم، أول رجل في العالم يضع أصول علم الجبر، وفي كتابه (الجبر والمقابلة) يقسم العلماء إلى ثلاثة أقسام: فمنهم المخترع المبتكر الذي لم يسبق إليه، ومنهم الذي يتناول آراء العلماء قبله بالشرح والتفصيل والتوضيح، ومنهم الذي لم يكلف نفسه أكثر من جمع المتفرق.. وأبو الريحان محمد البيروني الذي ولد في بيرون، وهي مدينة صغيرة تتبع مدينة خوارزم. يساهم في الفلك والرياضيات، بمساهمات فعالة. وابن النفيس العالم الدمشقي، يجري التجارب والاختبارات، حتى يثبت أن الدم ليس سائلا مستقرا في الأوردة والشرايين. بل هو سائل متحرك، يدور في جميع أجزاء الجسم، وذلك قبل أن يكتشف العالم البرتغالي (هارفي) الدورة الدموية بثلاثة قرون..وابن مسكويه ذلك المفكر الإسلامي الكبير الذي طرق الدراسات الأخلاقية والنفسية، فذلل متونها، وسبق علماء أوربا، فيما وصل إليه من النظريات النفسية والسلوكية.. هذا كله في الوقت الذي كانت فيه أوربا تعيش في ظلمات الجهل والهمجية، ولم ينقذ أوربا من ورطتها التي كانت واقعة فيها إلا نور الإسلام[33].
المبحث الرابع: مجالات الحضارة القرآنية
المطلب الأول: العلاقات الاجتماعية والاقتصاد
كانت البشرية قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم تعيش في ظلمات كثيرة، وتتخبط في الجهل، وكثُرتْ الوثنية، ووصل عدد الآلهة التي تُعبد من دون الله إلى عدد لم تعهده البشرية من قبل، وانتشرت المفاسد والشرور والمساوئ الأخلاقية، وشمل الفساد كل بقاع الأرض، ثم شاء الله أن يرسل نورًا يزيل به ما على الأرض من ظُلمة، فأشرقت شمس الإسلام، وتغيرت الموازين، ودبت الحياة في العالم. وأقام الإسلام مجتمعًا متكاملاً، فبنى الفرد المسلم الصالح، فكان أساسًا لبناء المجتمع المسلم الصالح المترابط الذي يسير على منهج الله سبحانه، وكان لابد من تكوين مجتمع مسلم؛ ليحمل عبء هذه الدعوة مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، والدفاع عنها بعد موته، ونشرها في كل أرجاء الدنيا. وقد انشغل الرسول صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة في مكة بتربية الفرد المسلم؛ كأساس لبناء المجتمع المسلم.
ومن البدهي على كل نظام يدعي العالمية أن يحترم قدرات أتباعه، وأن يقدّر إنجازاتهم بغض النظر عن أعراقهم وخلفياتهم الجغرافية، أو الاجتماعية أو اللغوية أو غيرها. فهو يقيّم الناس حسب ما يستطيعون فعله، لا وفق ما جبلوا عليه من صفات خلقية لوناً كانت أم عرقاً. فالناس في نظر الإسلام سواسية أما الاختلافات الطبيعية بين الناس فإنها لمقاصد وحكم تتطلب منا التدبر والتقدير لا الازدراء والاحتقار وسلب الحقوق. قال الله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} [سورة الروم، الآية: 22] وقال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: «الناس سواسية كأسنان المشط» «لا فرق بين عربي ولا عجمي ولا أحمر ولا أسود إلا بالتقوى». وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم».
فالإسلام يرفض كل أشكال الاستعلاء على الخلق والتكبر والتمييز العنصري البغيض الذي ينقص من آدمية الإنسان وتكريمه الرباني. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [سورة الإسراء، الآية: 70] وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [سورة الحجرات، الآية: 13].
"ولقد أذهلت المساواة كما يدعو إليها وآلياتها العملية والتطبيقية واحدة من أكبر شعراء الهند ساروحيني نايدو (Sarojni Naidu) حتى عبرت عن هذه المساواة بقولها: إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي أرسى وطبق الديموقراطية الحقيقية؛ فالمساواة الإسلامية تتجلى كل يوم خمس مرات، عندما ينادى المؤذن للصلاة فيجتمع المسلمون زرافات ووحداناً، حينها يقف الحاكم والمحكوم جنباً إلى جنب ساجدين لله ومردّدين "الله أكبر" لقد أذهلني هذا التضامن الحقيقي الذي يجعل الإنسان أخاً فطرياً لأخيه الإنسان، فعندما نقابل مصرياً أو جزائرياً أو تركياً في لندن مثلاً، فمصر مجرد بلد ذاك الشخص وكذلك الهند أو تركيا.
ولقد أذهلت تلك الأسس العالمية للمساواة بين الخلق في شريعة الإسلام مفكرين وعلماء كثر، فهذا ر.ل.ميليما رئيس القسم الإسلامي في المتحف الهولندي بامستردام، يقول: إن مبدأ الإخوة الإسلامية الذي يضم تحت جناحه كافة البشر بصرف النظر عن اللون والجنس ..هذا المبدأ الذي جعل الإسلام الدين الوحيد القادر على تطبيق الأخوة في حيز الواقع لا في المجال النظري فحسب؛ فالمسلمون في جميع أنحاء العالم يعرفون أنهم جميعاً إخوة في الله.
كما يقول لايتز: في المساجد ترى المساواة التامة بين المصلين فلا يوجد فيها مقاعد خاصة بأحد، وأي إمام يمكنه أن يؤم المصلين ولا يوجد أبهج من منظر جماعة المسلمين يصلون وهم خاشعون صامتون.
وهذه دييرا بوتر(Deborah Potter) تقول: الإسلام نظام عالمي وديني كوني جاء لجميع الناس في كل العصور، ولم يحدث أن أقرّ الإسلام آية تفرقة بسبب الوقت أو الوطن أو الثقافة أو الطبقة، فكل مؤمن بالحقيقة مسلم يتمتع بالأخوة الإسلامية مع كافة الناس في كل عصر ومصر، هذا هو سر قوة الإسلام. [34]
وجاء الإسلام الحنيف وفي جوهر مقاصده بقاء الإنسان ناهضاً بتبعاته يسعد بحياة آمنة لا يرى فيها ظلماً ولا هضماً. "فالعدالة والإنصاف والقسطاس سمة الحياة في الإسلام، والاستقامة ورعاية الحقوق وأداء الواجبات هي الأمل والعمل والسبيل والهدف، وإن الإنسانية في مسيرتها عبر التاريخ في الزمان والمكان لم تعرف دعوة إلى العدل كما عرفتها في ظل الإسلام ليستقر المجتمع الدولي ويعيش في أمن وأمان"[35]. عندما تحدثت الآيات القرآنية عن العلاقات الاجتماعية إنما كانت تتحدث عن مناهج ونظم تحكم حياة الأمم والشعوب فيما بينها وعلاقاتها مع غيرها من الأمم والشعوب الأخرى، فقد وضع المنهج القرآني في تنظيمه للحياة القوانين والقواعد التي تحكم علاقات الأفراد بعضهم ببعض وعلاقات المجتمعات فيما بينها ونظمت طريقة المعاملات المالية والاقتصادية بين تلك الشعوب، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [سورة المائدة، الآية: 66]، وقال جل شأنه: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [سورة الأنعام، الآية: 141]، وقال سبحانه وتعالى: {يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [سورة الأعراف، الآية: 31]، وقال سبحانه وتعالى: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [سورة يوسف، الآيات: 46-49]، ونستمع إلى قوله عز وجل: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [سورة الإسراء، الآيات: 26-27]، ويوجهنا سبحانه في هذا الاتجاه فيقول: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا، إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [سورة الإسراء: 29-30]، ويلفت نظرنا إلى التوسط فيقول: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [سورة الفرقان، الآية: 67]، ويأمر سبحانه بالإنفاق فيقول: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [سورة الطلاق، الآية: 7]، وغيرها كثير من الآيات القرآنية تشير إلى تنظيم العلاقات الاجتماعية بين أفراد الأمة، والعلاقات السياسية بين الدول والمجتمعات، وإلى تنظيم العلائق الافتصادية التي تحكم التعامل بين المجتمعات.
وبين الله سبحانه وتعالى أن هذا المال فتنة وحذرنا عن الاستغناء به عن الله فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [سورة المنافقون، الآية: 9]، وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [سورة التغابن، الآية: 15].
وأحسن الشيخ علي بن نايف عندما حدد ما ينبغي على المسلم معرفته عن المال، والطرق الشرعية لاكتسابه وإنفاقه عندما قال: "وهناك أمور ينبغي على المسلم أن يعرفها عن المال، وهي:
1- أن هذا المال شأنه كشأن غيره مما في هذا الكون ملك لله.
2- هذا الكون بما فيه من مالٍ وغيره مسخر للإنسان تكريمًا له.
3- المال مال الله، والإنسان مستخلف فيه، فإن أحسن التصرف فيه؛ فله خير الجزاء، وإن أساء التصرف فيه؛ فحسابه على الله.
4- المال هو وسيلة لحياة كريمة عزيزة، لا غاية يسعى الإنسان لتحقيقها، ويضيع عمره من أجلها، فالمسلم الحق لا يدع حب المال يستبد به، بل يجمع المال من حلال، وينفقه فيما يحب الله، على المسلم أن يتحرى الحق والصواب في طلب المال
5- المال الذي اكتسبه صاحبه من طريق حلال ملك له ملكية خالصة، يجب أن يحافظ عليه، ولا يجوز لأحد التعدي عليه. [36].
وبناء على هذه المبادئ والأسس السابقة يكون للإنسان الحق في التصرف في ماله كسبًا وإنفاقًا وإدارة، وهي حقوق مترتبة على ملكية الإنسان للمال الذي جاء من طريق شرعي.
وتعتبر الحضارة الإسلامية الرائدة في مجال تنظيم الأموال الاقتصادية والموارد المالية للأمة الإسلامية وعرفت البشرية أول وزارة للمالية على نفس النمط الذي يسود الآن في أرقى الدول المتحضرة وهذه الوزارة الرائدة كانت (بيت المال)، ويعتبر الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من أنشأ بيت المال بسبب الفتوحات العظيمة التي تمت في عهده والخيرات التي تدفقت على الدولة المسلمة، فقد روى ابن سعد في طبقاته أن أبا هريرة قدم على عمر من البحرين فلقيه في صلاة العشاء الآخرة فسلم عليه ثم سأله عن الناس ثم قال لأبي هريرة: "ماذا جئت به؟" قلت: "جئت بخمسمائة ألف درهم"، قال: "ماذا تقول؟" قلت: "مائة ألف، مائة ألف، مائة ألف حتى عددت خمسًا"، فقال عمر: "إنك ناعس فارجع إلى أهلك فنم، فإذا أصبحت فأتني"، قال أبو هريرة: فغدوت إليه فقال: "ماذا جئت به؟" قلت: "جئت بخمسمائة ألف درهم"، قال عمر: "أطيب" قلت: "نعم لا أعلم إلا ذلك"، فقال عمر للناس: "إنه قد قدم علينا مال كثير، فإن شئتم أن نعده لكم عدًا وإن شئتم أن نكيله لكم كيلاً"، ونشأت من يومها فكرة بيت المال[37].
المطلب الثاني: تنظيم العلاقات الدولية والتشريع والحكم
إنّ العلاقات الدولية تحتكم في التصوّر الإسلامي إلى مبادئ وقيم ثابتة في إطار احترام التعددّ الثقافي والسياسي، وتقارب الشعوب وتعارفها: {يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [سورة الحجرات، الآية: 13].
الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل - (1 / 2).
وإن نظام الحكم الإسلامي له أسسه وقوانينه الواضحة المستمدة من القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولأهمية الحكم في الإسلام فقد اهتم الإسلام ببيان ما على الحاكم والمحكوم، فحذر الحاكم من اتباع الهوى وشهوات النفس، قال تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة ص، الآية: 26]. وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [سورة المائدة، الآية: 49].
وحذر الله سبحانه المحكوم من العصيان دون سبب مقبول شرعًا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء، الآية: 59]. وحرص الإسلام على أن يسود العدل بين جميع الناس، وحذر من الظلم وعواقبه، حتى مع غير المسلمين، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [سورة النساء، الآية: 58]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» (مسلم).
وقدم الإسلام للمجتمع البشرى أسساً للحياة، تَكْفُل السلامة لهذا المجتمع، وإن اختلفت عقائد الدول وأديانها. فنظم التعاون بين الأمم في كل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، كما قدَّم النظم المناسبة للتخفيف من ويلات الحروب، وكان ما قدمه الإسلام في مجال العلاقات الدولية هو أول تعليمات سامية في هذا المجال عرفتها البشرية. وشرع الإسلام نظام المعاهدات، والسفراء، وتأمين الرسل المبعوثين إلى الدول الأخرى، وكتب رسائل الدعوة لهذه الدول.
تتميز العلاقات الدولية الإنسانية في شريعة الإسلام في جعل حرية العقيدة لغير المسلمين أمراً مقرراً، لأن الإسلام لا يكره أحداً على الدخول فيه، ذلك لأن الله خلق الناس جميعاً مختلفين في أديانهم وألوانهم وعاداتهم وتقاليدهم، ولا يزالون كذلك إلى يوم الدين، يؤكد ذلك أن القرآن الكريم أنزل سورة كاملة تحتوي على هذا المفهوم الشامل، قال عز وجل: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [سورة الكافرون، الآيات: 1-6].
يقول الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه (العلاقات الدولية في الإسلام 83) : "الإسلام ينظر إلى الرعايا الذين يُحكَمون بالظلم ويُقيدون في حرياتهم نظرة رحيمة عاطفة، ينصرهم إذا استنصروه، ويرفع عنهم نير الطغيان إن هم استعانوا به"[38] .
يقول صاحب كتاب نظرات استشرافية في فقه العلاقات الإنسانية بين المسلمين وغير المسلمين: "تشير المعاملة الإسلامية لغير المسلمين في ظل دولة الإسلام الحق والقانون والحماية إلى تميز الحكم الإسلامي بصيانة الحقوق والأخلاق ودفع الظلم وإنجاز كل ما فيه خير للفرد والأمة في الحاضر والمستقبل" . [39].
وبطبيعة الحال يشمل ذلك غير المسلمين، فجعل النظام السياسي الإسلامي الحكم أمانة يجب تحقيق مفهوم العدالة فيها تطبيقاً وتنفيذاً شرعياً كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [سورة النساء، الآية: 58].
ولا شك أن وجود السلطة القضائية المستقلة العادلة النزيهة لهو أكبر الضمانات لمحاكمة تتوافر لها عوامل الحيدة والنزاهة والاستقلال. ومن صور المساواة والعدالة في الحكومة، التسوية في مجلس القضاء والاستماع إلى الخصم غير المسلم، وعدم الضيق بهم والحنق عليهم كما جاء ذلك في توجيهات النظم القضائية الإسلامية، وكما معلوم وممارس في سيرة نبي الهدى صلى الله عليه وسلم وسيرة صحابته رضوان الله عليهم أجمعين.
المطلب الثالث: شهادات منصفة
ولدى تتبع ميادين نشاط المسلمين المختلفة، لا بد أن نعرض أمثلة منها: نقدم فيها بيانًا موجزًا عامًّا يعتمد على نقول وشهادات، لنعود إلى التفصيلات المناسبة في الباب الخاص بالآثار التطبيقية للحضارة الإسلامية من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
لقد كان للمسلمين نشاط جم في علمي التاريخ والجغرافيا، ولقد أعجب كثير من العلماء الأوروبيين الذين تفقهوا الحضارة الإسلامية من كتبها، وأكبروا أعمال المؤرخين والجغرافيين المسلمين، أمثال: المقدسي، وابن حوقل، وياقوت الحموي، والمسعودي، والطبري، وابن الأثير، والبلاذري، والبيروني، وأبي الفداء، وابن جبير، وابن سعيد، وابن سعد، وابن خلكان، وابن عساكر، والإدريسي إلى آخرين كثيرين كتبوا في هذين العلمين، وكتبهم تفخر بها المكتبة الإسلامية، ولقد استفاد منها الغربيون فوائد جلى، ونوهوا بها في شتى المناسبات.
وكان للمسلمين نشاط جم في علم الفلك، قال دلامير في تاريخ العلم: "إننا إذا أحصينا راصدين أو ثلاثة من الروم رحنا نعد كثيرين من العرب "المسلمين" في هذا الفن، مما دل على بعد غورهم في علم الأفلاك"[40].
ونقل نظير ذلك غوستاف لوبون في حضارة العرب "نشأت مكانة علم الفلك عند العرب -أي المسلمين- من توسع الرياضيين منهم في الحساب؛ لأنهم اخترعوا أساس حساب المثلثات، وحقق العرب طول محيط الأرض بما كان لهم من الأدوات، وأخذوا ارتفاع القطب ودورة كرة الأرض المحيطة بالبر والبحر، وحققوا طول البحر المتوسط الذي قدره بطليموس بـ (12) درجة فارجعوه إلى أربع وخمسين أولاً، ثم إلى (42) درجة أي: إلى الصحيح من مقداره تقريبًا"[41]
ويقول جورج سارتون في كتابه (مقدمة في تاريخ العلم): "إنّ الجانب الأكبر من مهام الفكر الإنساني اضطلع به المسلمون؛ فـ(الفارابي) أعظم الفلاسفة، و(المسعودي) أعظم الجغرافيين، و(الطبري) أعظم المؤرخين" [42].
هذا، وقد أبدى الباحث اليهودي فرانز روزانتال إعجابه الشديد ودهشته البالغة لسموّ الحضارة الإسلامية وسرعة تشكلها، فيقول: "إن ترعرع هذه الحضارة هو موضوع مثير ومن أكثر الموضوعات استحقاقًا للتأمل والدراسة في التاريخ؛ ذلك أن السرعة المذهلة التي تم بها تشكل وتكوُّن هذه الحضارة أمر يستحق التأمل العميق، وهي ظاهرة عجيبة جدًّا في تاريخ نشوء وتطور الحضارة، وهي تثير دومًا وأبدًا أعظم أنواع الإعجاب في نفوس الدارسين، ويمكن تسميتها بالحضارة المعجزة؛ لأنها تأسست وتشكلت وأخذت شكلها النهائي بشكل سريع جدًّا ووقت قصير جدًّا، بحيث يمكن القول إنها اكتملت وبلغت ذروتها حتى قبل أن تبدأ".
ويقول مسيو ليبري: "لو لم يظهر المسلمون على مسرح التاريخ لتأخرت نَهضة أوربا الحديثة عدة قرون[43]" . ولقد أشار أيضًا إلى هذا المعنى المؤرخُ الفرنسيُّ الشهير (سديو) في تاريخه الكبير، الذي ألفه في عشرين سنة؛ بحثًا عن تاريخ المسلمين، وعظيم حضارتهم، ونتاجهم العلمي الهائل، فقال: "لقد استطاع المسلمون أن ينشروا العلوم والمعارف والرقيَّ والتمدُّن في المشرق والمغرب، حين كان الأوربيون إذ ذاك في ظلمات جهل القرون الوسطى..."، إلى أن يقول: "ولقد كان العرب والمسلمون- بما قاموا به من ابتكارات علمية- ممن أرْسَوا أركان الحضارة والمعارف، ناهيك عما لهم من إنتاج، وجهود علمية، في ميادين علوم الطب، والفلك، والتاريخ الطبيعي والكيمياء والصيدَلَة وعلوم النبات والاقتصاد الزراعي وغير ذلك من أنواع العلوم التي ورِثناها نحن الأوربيين عنهم. وبحقٍّ كانوا هم معلمينا والأساتذة لنا" [44]. [44]
هذا، ولم ينسَ فضلاء علماء الغرب أن يعترفوا بهذه الحقيقة، ونستقي من كتاب (حضارة العرب) لـ (جوستاف لوبون) حيث يقول: "وكلما أمعنا في دراسة حضارة العرب والمسلمين وكتبهم العلمية واختراعاتهم وفنونهم، ظهرت لنا حقائق جديدة وآفاق واسعة، ولسرعان ما رأيتَهم أصحاب الفضل في معرفة القرون الوسطى لعلوم الأقدمين، وإن جامعات الغرب لم تعرف لها مدة خمسة قرون موردًا علميًّا سوى مؤلفاتهم، وإنهم هم الذين مدّنُوا أوربا مادة وعقلاً وأخلاقًا، وإن التاريخ لم يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه في وقت قصير، وأنه لم يَفُقْهم قوم في الإبداع الفني. [45].
و جاء في كتاب (شمس العرب تسطع على الغرب) للمستشرقة الألمانية زيغريد هونكه: "إن جربرت الذي ارتقى كرسي البابوية سنة (999م) قد تعلم الرياضيات والفلك على أيدي أساتذة من العرب في إسبانية، وأنه استمع إلى الأساتذة العرب، وتعلم أشياء لم يكن أحد في أوروبة ليحلم بأن يسمع بها، وكان من أهم ما تعلمه (جربرت) نظام الأرقام والأعداد العربية. وأنه حير بعلمه معاصريه، وأن قومه نظروا إليه كساحر، وكفنان غريب، ونسجوا حوله الإشاعات، حتى قيل: إنه كان يهرب ليلًا من الدير إلى إسبانية ليتعلم على أيدي العرب علم الفلك والفنون الأخرى. [46].
هذا غيض من فيض الدور المتعاظم لرواد الحضارة الإسلامية التي نهل منها كثير ممن أتى بعد ذلك وإلا فإن المداد لا يكفي لحصر هذه المساهمات الغفيرة التي خلفها هؤلاء الرواد في مجالات الحضارة بكل أنواعها.
الخاتمة:
1- وفي خاتمة هذا البحث يمكن التوصل إلى النتائج الآتية:
2- تعريف مصطلح الحضارة بأنها مجموع الأفكار والمشاعر والأنظمة لدى المجتمع.
3- الحضارة منظومة ثقافيّة واسعة، تتناول مختلف نواحي الحياة والمجتمع، من حكم واقتصاد واجتماع وقانون وسياسة وفنّ وغير ذلك.
4- حتميّة تأثّر الحضارات بعضها ببعض، سواء تأثّراً إيجابيّاً أو تأثّراً سلبيّاً.
5- الناظر إلى بداية نشوء الحضارة الإسلامية لا يجد فيها أيّ تأثّر أو أي ارتباط بالحضارات السابقة أو المعاصرة لها، لا تأثّراً إيجابيّاً ولا تأثّراً سلبيّاً.
6- ذلك لأنّ الإسلام أوجد نمطاً من العيش مختلفاً كلّ الاختلاف عن كلّ أنماط العيش السابقة له والمعاصرة، وأحدث انقلاباً جذريّاً في المجتمع بحيث لم يترك ناحية من نواحيه إلاّ وطالها وأحدث فيها التغيير من أساسها.
7- إنّ الحضارة الإسلاميّة الّتي أحدثت ذلك الانقلاب في الجزيرة العربيّة وسائر البلاد الّتي دخلت حظيرتها بدأ انتشارها منذ إعلان محمّد صلى الله عليه وسل لها في مكّة قلب الجزيرة العربيّة، وآتت ثمارها بعد ثلاثة عشر عاماً من ولادتها، حين ارتكزت في المدينة المنوّرة، ثمّ انتشرت بعد ذلك بعشر سنوات في كلّ الجزيرة العربيّة.
8- لم يمض قرن واحد إلاّ وقد أصبحت تظلّل مساحة شاسعة تمتدّ من الصين شرقاً إلى الأطلسيّ غرباً، حيث طوت صفحة كلّ الحضارات السابقة في تلك البلاد من فارسيّة وبيزنطيّة وهنديّة وغيرها إلى غير رجعة.
9- لئن قامت كلّ الحضارات الأخرى ونشأت رويداً رويداً من تراث الماضي بما حوى من ضروب الرأي وتيّارات الفكر، واستغرقت في تبلورها إلى شكلها الخاصّ وكيانها المحدّد آماداً طويلة من الزمن، فلقد انفردت حضارة الإسلام وحدها بانبجاسها إلى الحياة دون سابق عهد أو انتظار.
10- جمعت هذه الحضارة من فجر نشأتها، كلّ المقوّمات الأساسيّة لحضارة مكتملة شاملة. فقامت في مجتمع واضح المعالم، له نظرته الخاصّة إلى الحياة، وله نظامه التشريعيّ الكامل وله نهجه المحدّد للعلاقات بين الأفراد بعضهم ببعض داخل هذا المجتمع.
11- لم يكن قيامها ثمرة تقاليد زخر بها الماضي، ولا وليد تيّارات فكريّة متوارثة، ولكنّ هذه الحضارة، كانت وليدة حدث تاريخيّ فريد وهو تنزيل القرآن الكريم.
فهرس المصادر والمراجع:
1- القرآن الكريم.
2- أبحاث المؤتمر العالمي الثالث للاقتصاد الإسلامي بجامعة أم القرى بمكة المكرمة.
3- الإسلام والحضارة العربية لمحمد كرد علي
4- الجامع الصحيح (سنن الترمذي) محمد بن عيسى أبو عيسى الترمذي السلمي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرون.
5- الجامع الصحيح (صحيح البخاري): محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أبو عبد الله، دار الشعب، القاهرة، الطبعة: الأولى، 1407هـ، 1987م.
6- الجامع لأحكام القرآن: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي، المحقق: هشام سمير البخاري، دار عالم الكتب، الرياض، المملكة العربية السعودية، 1423 هـ/ 2003م.
7- الحضارة الإسلامية- أحمد عبد الرحيم السايح- الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة - الطبعة العاشرة - العدد الثالث- ذو الحجة 1397هـ - نوفمبر تشرين ثاني 1977م.
8- الحضارة الإسلامية أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم - عبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني الدمشقي -دار القلم- دمشق- الطبعة الأولى: 1418هـ-1998م.
9- الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل، جمع وإعداد الباحث علي بن نايف الشحود
10- العلاقات الدولية في الإسلام - محمد أبو زهرة - - الدار القومية - القاهرة - 1964هـ
11- المدخل إلى تاريخ الحضارة: جورج حدّاد، مطبعة الجامعة السوريّة، 1958م
12- المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام، علي بن نايف الشحود.
13- المقدمّة، العلاّمة عبد الرحمن بن محمّد بن خلدون، دار الجيل، بيروت، دون تاريخ
14- الموسوعة العربية العالمية.
15- تاريخ الحضارات العامّ: إشراف موريس كروزيه، نقله إلى العربيّة فريد داغر وفؤاد أبو ريحان، منشورات عويدات، بيروت، ط1، 1964م.
16- تاريخ الحضارة الكتاب: ويل دورانت، الرابع (عصر الايمان، الفصل الثاني: الحضارة الاسلامية، طهران، انتشارات اقبال، 1343هـ.
17- جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب أبو جعفر الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى: 1420 هـ، 2000م.
18- حضارة العرب-غوستاف لوبون- تحقيق:عادل زعيتر- الهيئة المصرية العامة للكتاب- 1969
19- شجرة الحضارة: رالف لنتون، ترجمة أحمد فخري، مكتبة الإنجلومصريّة.
20- شمس العرب تسطع على الغرب - زيغريد هونكه- دار الجيل بيروت- الطبعة الاولى 1964
21- صدام الحضارات: صامويل هانتنغتون، إصدار مجلة شؤون الأوسط، مركز الدراسات الإستراتيجيّة والبحوث والتوثيق، بيروت، 1995م.
22- صحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم النيسابوري، دار الجيل بيروت.
23- عمدة القاري، بدر الدين العيني الحنفي، ملفات وورد من ملتقى أهل الحدي 1427هـ.
24- عناية المسلمين بإبراز وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، أ. د. محمد السيد راضي جبريل، موقع الإسلام، http://www.al-islam.com/
25- لسان العرب: محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى.
26- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين: محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1393، 1973م، تحقيق: محمد حامد الفقي.
27- نظرات استشرافية في فقه العلاقات الإنسانية بين المسلمين وغير المسلمين.
28- خلاصة تاريخ العرب:سيديو، ترجمة علي باشا مبارك، ط 1 مطبعة محمد أفندي، مصر، 1309هـ
29- مفهوم الحرية في الإسلام-فرانز روزانتال-تحقيق رضوان السيد- معن زيادة-دار المدار الإسلامي- 2007.
30- مفهوم العدل في الإسلام: مجيد خدوري، دراسات في الفكر الديني، دمشق، 1998م.
31- مقدمة في تاريخ العلم– جورج سارتون– ترجمة مجموعة من المترجمين- 1991- دار المعارف بيروت.
32- (sabatino moscati: the semites in ancient history)
[1]أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب نصر المظلوم، (3/ 129) برقم: (2446).
[2] لسان العرب -ابن منظور - محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري –دار صادر – بيروت- الطبعة الأولى-ج 14، ص65، وانظر أيضاً: المصباح المنير – أحمد بن محمد بن علي الفيومي ثم الحموي، أبو العباس- ج 1، ص227.
[4] رالف لنتون: (1893 - 1953) كان مواطن أمريكي قدير وعالم في مجال الأنطروبولوجيا في منتصف القرن العشرين، من المساهمات الكبيرة التي ساهم بها رالف في علم الأنطروبلوجيا كان تعريف التميز بين الحالة والدور.
[6] صامويل فلبس هانتنجتون: ( 1927 - 2008) أستاذ علوم سياسية اشتهر بتحليله للعلاقة بين العسكر والحكومة المدنية، وبحوثه في انقلابات الدول.
[7] صدام الحضارات- صامويل هانتنغتون- إصدار مجلة شؤون الأوسط - مركز الدراسات الإستراتيجيّة والبحوث والتوثيق، بيروت- 1995 - ص18-19.
[8] الحضارة الإسلامية - أحمد عبد الرحيم السايح- الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة - الطبعة العاشرة - العدد الثالث- ذو الحجة 1397هـ - نوفمبر تشرين ثاني 1977م.
[9] الحضارة الإسلامية أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم - عبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني الدمشقي -دار القلم- دمشق- الطبعة الأولى: 1418هـ-1998م- (1/19).
[10] تاريخ الحضارات العامّ - إشراف موريس كروزيه - نقله إلى العربيّة فريد داغر وفؤاد أبو ريحان - منشورات عويدات، بيروت - الطبعة الأولى 1964- مجلد 1 - ص 17.
[11] جورج حداد (1934- 27 يونيو 2009)، كاتب وشاعر وصحفي أردني، وكان أول من تجرأ من الصحفيين وامتدح حركة حماس ومؤسسها أحمد ياسين بعدة مقالات في بداية انطلاقتها، المصدر: الموسوعة الحرة.
[12] المدخل إلى تاريخ الحضارة -جورج حدّاد - مطبعة الجامعة السوريّة: 1958م - ص 17-18.
[13] الحضارة الإسلامية أسسها ووسائلها – الميداني - (1/19-20).
[14] الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل- جمع وإعداد: علي بن نايف الشحود - (1 / 62).
[15] الحضارة الإسلامية أسسها ووسائلها – الميداني- (1/21). الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل- جمع وإعداد: علي بن نايف الشحود - (1 / 62).
[24] موسوعة الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (١١/٣١٨).
[29] المصدر نفسه.
[31] مسلم وابن ماجه.
[33] مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة – الحضارة الإسلامية - أحمد عبد الرحيم السايح (14 / 465).
[34] الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل - (5 / 261).
[35] انظر: مفهوم العدل في الإسلام: مجيد خدوري، ص131، دراسات في الفكر الديني، دمشق، 1998م. الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل - (5 / 261).
[37] الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل - (5 / 255).
[40] الإسلام والحضارة العربية لمحمد كرد علي.
[41] حضارة العرب – غوستاف لوبون - تحقيق: عادل زعيتر- الهيئة المصرية العامة للكتاب- 1969.
[42] مقدمة في تاريخ العلم– جورج سارتون– ترجمة مجموعة من المترجمين- 1991- دار المعارف بيروت–ص 45.
[46] شمس العرب تسطع على الغرب - زيغريد هونكه- دار الجيل بيروت- الطبعة الاولى 1964 -ص 80-81.