التقريب خارج مؤسسات التقريب
التقريب خارج مؤسسات التقريب
د. أمين الساحلي
مقدمة
خلصنا في دراسة قدمت في العام الماضي إلى ضرورة الإفادة من المؤسسات العلمية الأكاديمية – خصوصا الجامعية – في مشروع التقريب. ولقد بينا أن التقريب في إطار أنشطة هذه المؤسسات هو نتيجة عفوية طبيعية، ولكنها ثابتة وقوية، تنشأ عن هذه الأنشطة من دون أية إضافة. التقريب بين الباحثين الذين يلتقون في إطار علمي جامعي يحصل بسلاسة بلا تعمّد ولا تنظيم ولا تخطيط وهنا تكمن الأهمية.
اللقاء العلمي الأكاديمي لا يفرد مساحة خاصة لدراسة ومناقشة شؤون وعناوين التقريب الإسلامي كما درجت العادة في تناوله وتقديمه بصيغة وهيئة معينة باتت معروفة لمن يواكب مشروع أو مشاريع التقريب في الأمكنة والأزمنة المختلفة. ففي الدراسات والورش واللقاءات العلمية الدقيقة أو حتى الكثير من المجالات الإنسانية، لا يتّسع المحل لدراسة الأسانيد من الطرق المختلفة وما حملته من نصوص ومضامين ودلالات، ولا يمكن تجشم عناء اللغة والكلام والتاريخ والحديث والجرح والتعديل من أجل الخلوص إلى ما يمكن أن يؤسّس عليه كلمة سواء، أو إلى دحض ما يفرق ويباعد وتبيان زيفه وبطلانه.
وليس ممكنا أيضا، والباحثون منقطعون إلى أبحاثهم في الفيزياء أو الرياضة أو علم التربية، أن تفرد مساحة متعمدة لدراسة الأحوال السياسية والإستدلال على عقم ومتاهة وعبثية الإختلاف والتناحر والتقاتل على أسماء وأعلام وحوادث وقضايا لم يعد لها من أثر سوى ما أغلقت عليه الأوراق الصفراء ذات الغبار الغليظ في بعض الرفوف المنسية لمكتبة تنسى وتعود إلى الحضور بطريقة مبرمجة ومخطط لها.
هؤلاء يشتركون في مزايا عدة، برزت منذ حين لقائهم في تربيتهم وثقافتهم وعبادتهم وقيمهم وأخلاقهم وعلاقتهم بأوطانهم ومجتمعاتهم وقضاياهم الكبرى ومثلهم العليا وتعريفهم للحق والسماء والعدل والسوق والمال والأخلاق وغير ذلك من العناوين الكبيرة.
غير أن بروزها هذا يتم بطريقة عفوية كما أسلفنا على هامش تداولهم لأعمال لقائهم العلمية الأكاديمية البحتة. لا يتم هذا أبدا من خلال بحث متعمّد عن المشتركات ومحاولة تفادي الفوارق والتركيز على الكلام اللائق وإيجاد المخارج للإختلافات المحرجة لمشاربهم ومذاهبهم المتنوعة.
رغم عفوية ذلك، فهم يغادرون وهم يحملون من بعضهم ولبعضهم تقديراً وإحتراماً خاصاً، يمكن بسهولة ورسوخ أن يؤسس عليه تعارف وتبادل وتزاور وتراحم، وفي ذلك غاية ما نشتهي في مشروع التقريب، خصوصا أن هؤلاء أساتذة لأجيال في مجتمعهم ومعنى ذلك أن ثقافتهم ونظام انفعالاتهم في ما يتعلق بشؤون التقريب لها قابلية عالية للسريان في أوصال بلدانهم وشعوبهم.
ها نحن نعود في هذا العام بمقترح أكثر تفصيلا وعملانية مما كنا قد طرحناه في العام الفائت لعله يكون مشروعا رائدا في مجال التقريب خارج المؤسسات الرسمية الدينية أو السياسية لمشروع التقريب بين المذاهب الإسلامية، أو أن يكون نية صادقة أرادت أن تكون، فكان لها الأجر على الأقل.
مقترح المركز العلمي الجامعي:
من المعروف أن جامعة المصطفى هي مؤسسة عالمية لها حضور ونشاط في أكثر من 80 دولة، وهي ذات رسالة تهدف لتقديم العلوم الإسلامية الأصيلة بصيغتها النقية، ولكنها تهدف أيضاً إلى استقاء ما يمكن أن يمثّل عناصر وعناوين علمية ثابتة من المصادر الإسلامية وذلك في كثير من العلوم الإنسانية التي تتداخل مع الدين في أحكامه ونظمه وتعاليمه ومفاهيمه، كعلوم التربية والإجتماع والنفس وما إلى ذلك، وقد سمي هذا بمشروع أسلمة العلوم وقدّم على أنه جهد يهدف إلى تقديم العلم بمطالبه وهيأته النهائية التي هي محل الإعتماد ولكن بإضافة الرأي المستقى من المصادر والمعارف الإسلامية تحت كل عنوان من عناوين فصول هذا العلم، أو أنه إعادة كتابة فصول وعناوين هذا العلم مع الإقتصار على الرأي المستنبط من المصادر الإسلامية بقطع النظر عن سائر ما هو متداول من الآراء. من الأمثلة على ذلك كتاب فقه التربية للشيخ أعرافي وهو يمكنه أن يكون نموذجا لهذا النشاط.
هذا على صعيد أسلمة العلم، هناك صعيد آخر قد لا يكون حالياً متبنى من قبل الجامعة في مقرراتها التتدريسية وهو دراسة العلوم والإنجازات التي نشأت في إطار المنظومة الإسلامية في الطب والهندسة والتعدين والري والصناعة والإدارة والصيدلة والرياضيات والكيمياء وغير ذلك.
وقد اجتهد جماعة في العناية بذلك بدافع دراسة تاريخ العلم المنفصل عن أي هدف آخر.
إن الهدف الآخر الذي يمكن أن يركّب على عربة البحث في مجال تاريخ العلم هو ما يمكن إثباته بسهولة من أن العلم نشأ ونما وترعرع في إطار المنظومة الإسلامية وفي ذلك تعزيز لمسألة الإيمان بالذات ودفع الكثير من الشبهات في هذا المجال. إن دارسا لتاريخ نشوء ونمو العلم في إطار المنظومة الإسلامية لن يكتفي بالعملية السردية كما يحصل غالبا بل سوف يعيد إنتاج الكثير من المعارف القديمة باللغة الحديثة، وذلك لتمكن الطالب في مراحل أولى من دراسته أن يسمع بأسماء كإبن سيناء والخازن وإبن الهيثم عند تناوله المادة الدراسية في الرياضيات والطب والفيزياء وغير ذلك تماما كما يسمع بأسماء ديكرت ولافوازيه وداروين وغيرهم.
إن العلم داعية لمن يتتجه ويقوم على تطويره، ولذلك فهو غير منفصل عن حركة الأمم الشعوب الإجتماعية والسياسية. الإقتدار كان في كل مرة رحلة طويلة لها مبتدأ واحد وثابت هو الإيمان بالذات وقدرتها على التوليد والإبداع، وهذا يحصل حينما يؤمن الإنسان أنه ينتمي إلى تاريخ حضاري له حقيقة وتأثير حاضر لا يموت وهو ما يمكن أن يكون هدفاً نهضوياً سامياً في المجال العلمي الجامعي.
ليس هذا وحسب، بل إن دراسة ذات هدف كهذا، لن تقتصر على الماضي فحسب، بل سوف تعمد إلى إبراز ما يتم إنتاجه في بيئة الدول الإسلامية الجامعية والعلمية حاليا وذلك بطريقة ممنهجة تفضي إلى إبراز الأسماء والموضوعات والمبتكرات والمنتجات التي ولدت في إطار محلي، وإقامة الأنشطة العلمية التي تفضي إلى هذا الإبراز كالمؤتمرات والمجلات المتخصصة.
من جهة أخرى فإن من المعروف أيضا أن الجامعة اللبنانية غنية بعلاقاتها مع جامعات كثيرة في دول متعددة، ويعود هذا الغنى لما يتميز به لبنان من تنوع جعل أبوابه تفتح على بيئات حضارية تاريخية وحالية متنوعة.
يضاف إلى ذلك تراث من العمل الفكري والنشر الذي بات يعرف به لبنان، كل ذلك جعل منه ومن مؤسساته الأكاديمية مقصدا لكل من أراد أن يصل برأيه إلى دائرة المتداول في الأوساط العلمية.
نقترح بناء على ما ذكر مركزاً جامعيا مشتركا ينشأ ما بين جامعة المصطفى والجامعة اللبنانية يكون مقره ومكان عمله في الجامعة اللبنانية في بيروت، على أن يتفق على نظام داخلي ينظمه من إدارته إلى سائر العاملين به.
يعمل هذا المركز في اتجاهين بحثيين أساسيين:
1- أسلمة العلوم
2- العلوم في إطار الإسلام
السؤال المركزي هنا هو كيف يمكن لمركز كهذا أن يسهم في موضوع التقريب من دون أن يكون التقريب واحدا من مواضيع إهتمامه العلمية. الإجابة تتضح من خلال معالجة:
أ- إن عنوان أسلمة العلوم شغل إهتماما واسعا في الأوساط الإسلامية عموما منذ أن بدأت المعاصرة تتخذ شكلا علميا ناجزا خصوصا في المجال الإنساني وذلك في إطار تسميات متعددة تعبّر جميعها عن الرغبة الصادقة في إبراز ما لدى الإسلام من التعاليم التي تعنى بهذا الشق أو ذاك من فروع العلوم الإنسانية.
ولقد كان هذا العمل بقطع النظر عن الإقتناع أو عدمه بالنتائج التفصيليّة، عملاً مبروراً يصدر عن اعتقاد صائب أن لدى الإسلام ما قاله في هذا المجال أو ذاك وأن إبرازه ووضعه في موضع التطبيق والإستفادة أمر يحتاج إلى عناية خاصة.
إذاً نحن نضع أيدينا على عنوان جامع شغل طائفة من الباحثين المسلمين من أقطار متعددة ومن مذاهب ومشارب ومدارس إسلامية متنوعة لم يجمع فيما بينهم إلا جامع الإيمان العميق بسعة هذا الدين وعمقه وشموليته. سوف يكون هذا المركز هو المكان الذي سيضم فيه فئة متقاربين في توجهاتهم وأفكارهم قبل أن يتعارفوا أو يتقاربوا. سوف يعملون فيه بتكامل وتناغم يدل عليه ذاك التناغم والتكامل ما بين مؤلفاتهم وهم بعد متفرقون يعمل كل في مكانه وفي ظروفه ومن منظوره الخاص ويتناول إسلامه من طرقه الخاصة، ورغم ذلك فإن الكتب التي أنتجها هذا المنحى في التفكير في التربية وعلم الإجتماع والسياسة وغير ذلك جاءت جميعها لتؤكد الطابع الموحّد الذي طبع هذا الجهد في كل مكان وزمان.
عندما ستتحد جهود هؤلاء وكثير من نتائج إستنباطهم سوف يمتد هذا الإتحاد ليشمل بلا جهد ولا تعمّد الكثير من المواضيع التقريبية الساخنة والتي غالبا ما يتم تبريدها إما عن طريق التلفيق والمجاملة وإما عن طريق التغييب والتجاهل. وهذا هو المبتغى في ما نريد وهو سوف يأتي مصحوبا بمحاصيل فكرية جمّة في غير مجال في أسلمة العلوم ولا شك في أن ذلك سوف يكون نجاحا مهما وغنيا بالآثار الإيجابية الحميدة.
ب- من المأمول أن لا يبقى هذا المركز مقتصراً على الشراكة في ما بين الجامعة اللبنانية وجامعة المصطفى، بل يمكن القول أن مركزاً كهذا يمكن أن يكون محطة التقاء لكثير من الجامعات في العالم الإسلامي تريد أن تسجل حضورها من خلال إطار جامع يعمل على إبراز المنتجات والمبتكرات العلمية الحاصلة في البلدان الإسلامية.
وهنا أيضا يحصل تقارب من شقّين الأول رسمي يحصل من خلال اتساع نطاق الشراكة في عدد من الجامعات والمؤسسات البحثية الإسلامية لإدارة هذا المركز ودعمه وتنشيطه والثاني عملي يتمثّل في الشراكة بين الباحثين في إنجاز عمل علمي يتحلّق حوله (حول هذا الإنجاز) إنجاز آخر عفوي طبيعي وهو التقارب والتعارف والتواصل ونشر هذه الثقافة في الأوساط المتصلة بعمل هذا المركز.
ج- إن تبني ودعم مجمع التقريب لهذا النوع من المراكز يخرج عمل المجمع عن إطاره المعهود ليطال مساحات هي في صميم المجال التقريبي وإن كانت دائما مستبعدة عندما كانت صيغة العمل التقريبي هي صيغة إستدلالية كلامية فحسب.
أما كيفية هذا التبني وهذا الدعم فهو متروك لنقاش تفصيلي يدور بين مندوبين من جامعة المصطفى والجامعة اللبنانية والمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية.
الله من وراء القصد وهو ولي التوفيق