البدائل العملية لمواجهة المشروع الطائفي
البدائل العملية لمواجهة المشروع الطائفي
د/ نابي بوعلي
جامعة معسكر.الجزائر
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف النبيين وسيد المرسلين وعلى آله وأصحابه الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
" هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين"(سورة الجمعة الاية2)
حضرات السادة الأفاضل...
أيها الحضور الكرام على اختلاف الألقاب والمناصب...
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته...
أما بعد:
فإنه يسرني كثيرا أن أحضر هذا المؤتمر العالمي الذي ينظمه المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب، في إطار سلسلة مؤتمرات الوحدة الإسلامية، وهي المؤتمرات التي تمثل اختبارا حقيقيا للضمائر التي تريد العيش المشترك في كنف الاستقرار، والعمل المشترك من أجل القيام بأعمال عظيمة تعكس عظمة الإسلامية التي كانت خير أمة أخرجت للناس، تجذيرا لرسالتها الخالدة. أحضر ضمن ضميمة من العلماء لأعبر عما في نفسي بخصوص موضوع خطير، ألا وهو " فتنة الطائفية" التي تسببت في شق وحدة المسلمين. فأقول مستعينا بالله تعالى راجيا منه التوفيق والسداد أن محنة الطائفية في وقتنا الحاضر صارت تمثل تحديا صعبا ومشكلا كبيرا ينبغي التفكير فيه ومعالجته بطريقة متأنية، فهو يرتبط بقضايا داخلية ذات جذور تاريخية،كما يرتبط بأجندات خارجية تسعى من خلال الضغط المتواصل إلى تنفيذ مخططات استعمارية مشبوهة على العالم الإسلامي. ويتجلى المشروع الطائفي على مستويين: مستوى التحدي، ومستوى التصدي. المد الطائفي وتحدياته الخطيرة من جهة، والصمود والتصدي له وكذا آليات المواجهة المتاحة من جهة أخرى. ولا يفوتني أن أنتهز هذه الفرصة لأقدم شكري الحار للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب وإلى أمينه العام سماحة الشيخ محسن الأراكي. كما أزف تحية حارة إلى الأستاذ علي رمضان الأوسي رئيس القسم العربي بالمركز الإسلامي بلندن.
1ـ الطائفية تحدي تاريخي خطير
لقد صار واضحا اليوم أن الأوطان العربية والإسلامية أصبحت مستهدفة ومستباحة أكثر من أي وقت مضى من قبل القوى الاستعمارية الكبرى، التي تعمل على تجييش سلاح الطائفية، والتي ستأتي على كل أمل في المصالحة والبناء المستقبلي للأمة العربية والإسلامية إذا لم يتم تدارك الأوضاع المأزومة" هناك خطر محدق بأمتنا العربية والإسلامية فلسنا بمأمن من مؤامرات الأعداء فالمخطط القديم الجديد في تفتيت المفتت وتمزيق الممزق لا يزال يهدد كياننا"(1). إن قوى الاستكبار الغربي تستغل سلاح الطائفية وتستعملها في خرائط الصراع كورقة لضرب استقرار هذه المجتمعات، وإثارة الفتنة والبلبلة في صفوف أبنائها وجرهم إلى مستنقع الأحقاد والموت. إن ما يريده الغرب بكل وضوح هو هلاك جميع الطوائف المسلمة، وتذويب معالم الشخصية الإسلامية في ثقافة الآخر في نظام عولمي مؤسس على نهب ثروات الشعوب الضعيفة. ونتيجة لذلك صارت الأوطان الإسلامية هي البيئة المفضلة لتحريك أي مشروع طائفي لتعطيل مسيرة التنمية الحقيقة لشعوبها، مما يجعل المسلم ينظر بحيرة واستغراب إلى حالة التراجع الحضاري التي أصابت المسلمين. لكننا نلاحظ في الوقت نفسه أن الغرب طوى صفحات من ماضيه مثقلة بالمآسي يأبى أن يتذكرها، ويتوحد في كيانات سياسية واقتصادية وثقافية تزيده قوة إلى قوته. وبالمقابل يسعى لإثارة الفتنة والبلبلة الطائفية داخل المجتمعات الإسلامية الآمنة والمستقرة، مستغلا الأوضاع الصعبة التي تمر بها بعض الدول الإسلامية لتنفيذ مخططاته.
وإذا كانت المناورات والدوافع الحقيقية للغرب معروفة ومفهومة من وراء استغلال ورقة الطائفية بناء على شعاره القديم الذي لا يزال التاريخ يحفظه له" فرق تسد"، فإن المفارقة الغريبة بالنسبة لنا في عالمنا الإسلامي اليوم ونحن ندشن بداية الألفية الثالثة الموسومة بالتأزم الشديد، هي أننا لا نزال نعاني من مشكلة ثقل الإرث الطائفي السياسي والتاريخي المركب، العرقي، المذهبي، اللغوي، والجغرافي ... ، ونتعاطى معه بأساليب أثبتت عجزها في احتوائه وتقديم الحلول الصادقة في إنهاء تبعاته المدمرة على مستقبل الأمة الإسلامية الذي لا يزال يحرمها من فرصة البناء الذاتي. لقد تركنا المشاكل تنمو وتتكاثر وتتعدد وتتمدد دون النظر إلى عواقبها الكارثية، وصار المد الطائفي يتعمق ثقافيا واجتماعيا بشكل رهيب، تستغله القوى المعادية للمسلمين لضرب وحدتهم وتفكيك مجتمعاتهم وجعلها قابلة للتفكيك في كل حين وبمنتهى السهولة. لعل أبلغ وصف لمحنة الطائفية هو ذلك الوصف الذي قدمه سماحة الشيخ محمد مهدي الآصفي في مقاله" الموقف من الفتنة الطائفية" محددا الأخطار الكبيرة الناجمة من هذه الفتن وتحدياتها الخطيرة، حيث قال:"هذه الفتن سريعة الاشتعال. صعبة الإخماد. خسائرها واسعة وكبيرة. تتسع رقعتها بسرعة. لا تندمل جراحها إلاّ بعد زمن طويل وبجهد كبير. تكتسح حتى الطبقة الواعية المعتدلة. تسلب الاعتدال والتوازن والرؤية الموضوعية حتى من دعاة الاعتدال، إلاّ من عصم الله"(2). ونحن نضيف إلى ذلك: إن الطائفية سلوك صادم للقيم والأخلاق، لأنها علامة مسجلة في استمراق دماء الأفراد والجماعات، وهي ليست سوى جريمة في حق الوطن والمواطن. لقد صارت ظاهرة العنف سمة مميزة لعصرنا، فلا تكاد تمر نشرة إخبارية على مختلف القنوات دون تقديم أرقام مخيفة عن عدد ضحيا القتل والتفجيرات والتصفيات الجسدية الفردية والجماعية التي تقوم بها المجموعات المتطرفة التي استباحت دماء المسلمين دون تمييز بين الأطفال والشيوخ والنساء، نتيجة فهم ساذج للدين، حيث لا نزال ندفع ثمن ذلك الجهل بالدين دما وأحقادا بين أبناء الوطن الواحد، والأمة الواحدة لتتعمق مأساة المسلمين، مع العلم أن المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله. بل إن أيادي البطش التي لا تقو إلا على صناعة الشر، لم يتوقف حقدها وضررها على الأحياء فقط، بل ألحقت الأذى حتى بالموتى في قبورهم من وراء الثرى. إن تلك الأعمال الهمجية لا يبيحها أي دين، ولا تقرها أي شريعة. من هنا لا يمكن للطائفية والدين أن يجتمعا في مكان واحد، لأن الطائفية تتستر بلباس الدين فقط، وتوظفه من أجل أغراض لا أخلاقية، من أجل الاقتراب من دوائر السلطة والضغط عليها، للحصول على المزيد من المكاسب والنفوذ على حساب الطوائف الأخرى وإبعادها. وهكذا فإن الطائفية تبحث عما يفرق ولا يجمع، عما يمزق ولا يوحد، وهو ما يجعلها بالتالي بلا أفق حضاري مأمول لأنها تفتقر إلى العناصر والمقومات المؤسسة لإرهاصات الحضارة وأهمها: السلم، الاستقرار، والأمن الاقتصادي، ففي لمسات بيانية لهذه النعم العظيمة نجد قول الله سبحانه وتعالى في سورة قريش" فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ "(3). ولنا في مآسي الحاضر ما يغنينا عن مخازي الماضي وتجاربه المريرة، فلقد ضعفت قوة المسلمين وتراجعت هيبتهم بين الأمم عندما دبت الخلافات بينهم وتفرقوا، وابتعدوا عن كتاب الله تعالى الذي ارتضاه لهم مصداقا لقوله عز وجل" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا"(4). وفي وقتنا الحالي، وبعد ما حلّ بالمسلمين وبحضارتهم من آثار مدمرة بسبب الفكر الطائفي المتحجر قلصت حظوظهم في الريادة الحضارية، فمن الأفضل لهم أن يكفوا عن ترحيل مشاكل الماضي إلى أجيال المستقبل، لأننا لا نريد أن ندمر أنفسنا مرات ومرات، فالأمر لن ينتهي سوى بتعميق المخاوف في أوطان تعيش على هاجس الخوف وتتملكها الشكوك المتبادلة، سرعان ما تطفو إلى السطح في شكل خلافات مشتدّة تتفجر شلالات من الدماء بين لحظة وأخرى.
لكن المشكلة هي: لماذا هناك من يعارض التقارب بين المسلمين أنفسهم؟ ولماذا يسعى البعض لتمزيق كل ما يرمز إلى وحدتنا ويحقق التقارب بيننا؟ إلى متى تظل الأمة الإسلامية رهينة الثقل الطائفي؟ متى يفهم البعض أن منزلة الأوطان هي فوق الحسابات والمصالح الشخصية الضيقة؟، وأن مصلحة الأمة الإسلامية هي فوق منطق القبيلة والعشيرة والمذهب؟ متى يفهم البعض أن الشعوب مقدمة حضاريا على القبائل بشهادة القرآن الكريم" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"(5). لقد كان للإسلام دور بارز في صنع حضارة المسلمين، التي قامت على مبادئ التعايش السلمي، والاستقرار الاجتماعي، وهيأ المناخ والظروف الملائمة للمسلمين في بناء حضارة الإسلام من خلال نشر رسالته الصحيحة القائمة على مبدأ الوسطية والاعتدال، ونبذ العنف والتطرف في جميع مظاهره وترسيخ ثقافة التسامح. فقد شكلت روح العقيدة الإسلامية في مطلع الدعوة الإسلامية الوعاء، الذي استوعب المحيط الثقافي المتشعب، وحضارات الشعوب السابقة على الإسلام، حيث انصهرت هذه الأخيرة في النمط الثقافي الإسلامي الجديد الذي وجدته يحمل كل الأبعاد الحضارية ومشبعا بالقيم الإنسانية، فعاشت وتعايشت معه في ظل تفاعل منسجم مبني على الإرادة المشتركة في العيش معا، والقبول بالمختلف والمغاير وحتى الغريب والأجنبي، فازدهرت العلوم والفنون والصنائع في فضاء الحرية والاحترام المتبادل، والدليل على ذلك هو أن الكثير من أهل الديانات والملل الأخرى تقلدوا مناصب عليا في مؤسسات الدولة الإسلامية، ووصلوا إلى أعلى الدرجات والمراتب، ونالوا حظوة كبيرة عند الحكام المسلمين، عرفانا بالمسؤوليات التي تقلدوها، وتكريما للعلم، وتشريفا للعلماء.
والطائفية من حيث هي وعي مشوه بالماهية، لا يتجه أبدا نحو أفق الخلاص والتعايش السلمي بين أطياف المجتمع، وإنما يكرس الآفاق المسدودة التي تطوقها ثقافة الكراهية ومنطق الاحتراب. فالوعي الطائفي المشوه لا يملك سوى إنكار حق الغير في الاختلاف، وممارسة الإقصاء عليه بشتى الطرق والوسائل، وتضييق مفهوم الحقيقة واختزالها في الطائفة وفي المذهب، ويسارع إلى ابتلاع الطوائف الأخرى ومحاولة دمجها قسرا. وهذا التفكير السلبي في جوهره، المرفوض في شكله ومضمونه ليس بمقدوره أن يؤصل لثقافة الديمقراطية والسلوك الحضاري ومجتمع المواطنة والتواطن وفلسفة التضامن. ليس في مقدور الفكر الطائفي حامل الوعي المشوه إذن أن يضيف شيئا ذي بال، وإنما يغلف الحاضر بغلاف الماضي بإحياء الصراع الإيديولوجي وتجديد المعارك القديمة، والانخراط فيها دون وعي تاريخي، مما يمنعه من التكيف مع مستجدات الواقع ومخاطبة هموم العصر والتعاطي مع مشكلات الحاضر، أو يسهم في أي تقدم مأمول بالنظر إلى ما يحمله من فكر متعصب لا يقر للآخر حق الاختلاف وحرية التعبير، وبالتالي فهو بعيد عن تعزيز خطاب الوحدة وثقافة التقريب، وهو ما سيزيدنا تراجعا إلى الوراء، إذا لم نحسم خياراتنا وننظر إلى المستقبل بمنظار مغاير يتجاوز حالة الشتات نحو منطق الوحدة والتوحد التي دعا إليها الإسلام وجعلها واجبا شرعيا على المسلمين" إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" (6).
يجب أن نعتبر ونستخلص الدروس من التاريخ، لأن في التاريخ عبرة لمن يعتبر. لقد دفعت الأمم التي تسلطت عليها آفة الطائفية الثمن باهظا، وسالت دماء ودموع كثيرة بسبب الفتن والصراعات والتطرفات الدينية وأشكال التعصبات المذهبية المقيتة، التي لا تقود إلا إلى الانغلاق والتحجر الفكري، والتقهقر الحضاري، والبؤس الاجتماعي من خلال تآكل بنية المجتمع من الداخل، وإغراقه في أوحال التخلف وتحويله إلى مركب جينات من الأزمات والفوضى، وكأن الحق لا يوجد إلا عند طائفة دون سواها من الطوائف الأخرى تبعا لمنطق الفرقة الناجية ، فيغيب الحق وتضيع معالمه في خضم الصراع بين الهويات المتنافرة. إن مثل هذه الحالة الدائمة التوترـ لا سمح الله ـ هي التي توفر الفرص والمناخ لأعداء الأمة الإسلامية لاستباحة أراضيها، وتفريق وحدة الكلمة، وتشتيت الصفوف ونشر العنف ومنع التعايش وتشجيع التباعد بين أفراد المجتمع الواحد. إن من يختار الطائفية فقد اختار طريق الدم، وحيث ما تحضر الطائفية يحضر الخنجر والبندقية والموت العبثي. تدفع الطائفية المجتمعات المفككة إلى حالة حرب الجميع ضد الجميع، مجتمعات الصحارى والقفار، مجتمعات ما قبل الحضارة. الطائفية تتركنا بلا أفق حضاري مستقبلي في برودة قاسية نفتقر فيها إلى دفئ الوطن. لا يمكن أن يكون الفكر الطائفي والتطرف منهجا للبناء، وطريقا للتقدم، لأن الصدام الطائفي لا ينتصر فيه طرف على طرف آخر، لأنه من الناحية المبدئية مطروح طرحا سيئا، ولكن حين تطرح المسائل على طاولة البحث طرحا جيدا تصبح قابلة للحل. ولا أعتقد أن هناك ملفا سيبقى عالقا إذا توفرت إرادة الرجال لحله، وهذه هي مهمة علماء الأمة الإسلامية مفاتيح الخير وورثة الأنبياء، تسندها إرادة سياسية حقيقية تثمن منهج الحوار والوفاق بين كل الأطياف تأكيدا لقيمة التسامح وثقافة السلام.
2ـ تعزيز خطاب الوحدة وثقافة التقريب
الوحدة الإسلامية هي عنوان المسلمين في التاريخ وحلمهم الأكبر، وهي عقيدة متأصلة في عمق الأمة الإسلامية وليست مستوحاة من خارج حدود الإسلام، إنها أكثر من كونها استجابة للتحديات التي يفرضها الراهن، لأن ما يجمع المسلمين أكثر مما يفرقهم بناء على القواسم المشتركة ووحدة الآلام والآمال والأهداف التي تسعى الأمة الإسلامية لتحقيقها. إن مشاعر المحبة والأخوة والإخلاص التي توحد المسلمين هي أقوى من مشاعر الكراهية التي غرسها أعداء الأمة في غير مكانها. من هذه المرجعية الدينية والتاريخية التي تجعل من الوحدة أمضي سلاح في يد المسلمين إذا أرادوا الانتصار على أعدائهم في معركة الصراع، فإنه ينبغي عليهم تركيز المساعي على تجديد خطاب يتماشى مع حالة التطور التي يشهدها العالم المعاصر حولنا، بإشاعة ثقافة التقريب وتفعيلها والانخراط الواعي في موائد الحوار دون إهدار للوقت والجهد باستخدام منهج الحوار بين أهل المذاهب الإسلامية، الذي يشجع على حرية الفكر والتسامح، ويدعم قيم الحوار، وينهي تجربة الإقصاء، ويخلص الأمة من الإرث الطائفي. لا شك أن تفعيل دور المؤسسات التعليمية والمساجد والعلماء والدعاة ووسائل الإعلام وإشراكهم في هذا المسعى سيسمح برفع مستوى الوعي الاجتماعي والثقافي والإسلامي إزاء خطر سلاح الطائفية الفتاك، وسيزيد من محاصرة الفكر التكفيري، وسيكون سدّا في وجه فتاوى دعاة التكفير والتطرف الذين استباحوا دماء الأبرياء ظلما وعدوانا، وباعوا دينهم بدنياهم، ودفعوا بملايين البشر إلى الحروب والمذابح الجماعية. من هذا المنطلق نؤكد أن الطائفية وأشكال العصبيات يجب محاربتها ثقافيا وفكريا، لأنها تتعارض مع الدين الإسلامي ورسالة الأمة، التي تدعو إلى الإخاء، ومكارم الأخلاق، وبناء المجتمع المتماسك بمختلف طوائفه وأطيافه، القائم على التراحم والتكافل، ووحدة الصف والتواصل والتعاون من أجل خدمة المصالح العليا للأمة، فالمسلمون كالبنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضا" إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ "(7)، كما دعا الإسلام إلى ضرورة التمسك بحبل الله، ونبذ الفرقة لقوله تعالى:" وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" (8). إن التفاهم والتعايش هو الطريقة المثلى إلى العدالة ودولة الحق والقانون، وهي الشروط الأساسية لكل نهضة مأمولة، والمقومات لتفعيل مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لمجتمعات لا تزال تتحسس طريقها نحو سكة الحداثة. إن ثقافة التقريب هي مرجعية العيش المشترك لأننا نؤمن بحتمية التقدم الحضاري لأمة موعودة عقائديا بالانتصار على أعدائها.
إن التقريب بين أهل المذاهب الإسلامية معركة ورهان: معركة ضد الذات وضد الآخر في الوقت نفسه، يجب كسبها بالرغم من الشرور التي تتحالف ضدها داخليا وخارجيا لإفشالها. ورهان قادر على توفير مناخ التواصل المسؤول، ومد الجسور عبر قناعات يتقاسمها الجميع انطلاقا من ضرورة كون الوحدة أمرا ربانيا وواجبا شرعيا لتعزيز الهوية الإسلامية أمام ما يحاك ضد الأمة من مؤامرات تتجلى في الهزات الاقتصادية العنيفة والتغيرات السياسية التي تعصف بالعالم مع رياح العولمة الزاحفة. إن هذه المسؤولية يحاسب عليها كل من يتهاون في تجسيد خيارات الأمة، ويتلاعب بمصالحها. لقد حان الوقت لاستبدال التكفير بالحوار من أجل تقريب المسافات وطي الخلافات وتلطيف الأجواء بين أهل الإسلام من أجل خدمة المصالح العليا للأمة الإسلامية بدلا من الانشغال بالقضايا التي لا يستفيد منها إلا أعداء الأمة الإسلامية ، كالصراع الفكري والصراع السياسي الذي يحول دون تقدم المسلمين نحو آفاق الحضارة الواسعة، ويخلق لديهم وضعا ملتبسا وضبابية في تصور وحسم خيارات المستقبل بناء على معطيات الماضي والحاضر من أجل الوصول إلى رؤى مستقبلية لتحقيق النهضة المأمولة.
تحمل فكرة المجتمع في دلالاتها معنى الاختلاف، فهي تعني في الأصل ذلك التجمع الذي يختلف في تركيبته المتفرقة بسبب التنوع الثقافي والفكري والديني، فالبشر ليسوا آلات يخرجون من مصنع واحد متشابهين في كل شيء إلى حد التطابق والتماثل. غير أن المجتمع بوصفه الإطار العام للعيش المشترك، والوعاء الذي تنصهر فيه تلك المكونات دون إقصاء يعمل على تحقيق التوافق بينها في ظل تفاعل عضوي يسمح بالتعرف على كل المكونات والخلفيات الثقافية المشكلة للمجتمع تاريخيا، والطبقات التي شكلت البناء العقلي والمحتوى النفسي لأفراده لتحقيق الانسجام المبني على فكرة التعاقد والإرادة المشتركة في العيش معا والقبول بالمختلف تحت حماية القانون الذي يضمن حقوق المواطنة لجميع أفراده. إن الحضارة لا تبنى ولا تزدهر إلا عندما تستطيع أن تستوعب الكل وتحافظ على الجميع، لأن فقدان أي شخص هو خسارة للأسرة والمجتمع، فما بالكم بالعشرات الذين يموتون ليس حتى كما يموت البشر، أشلاء ممزقة في كل مكان، جثث مفحمة، ودم مسفوح في الأرصفة والطرقات، وثكالى وأيتام وأرامل وحزن وأسى أبدي، حتى أنسانا تفخيخ السيارات لقتل الأبرياء من النساء والشيوخ والأطفال الذين لا ذنب لهم، ولا يعرفون حتى معنى الحياة، أنسانا جماليات الموت.
إن إشاعة ثقافة التقريب بإمكانها رفع درجة الوعي باتجاه رفع مستوى الوعي الاجتماعي والثقافي والإسلامي إزاء خطر سلاح الطائفية الفتاك للوقوف في وجه فتاوى دعاة التكفير الذين استباحوا دماء الأبرياء ظلما وعدوانا، فلا يمكن لعلماء الأمة أن يقفوا مكتوفي الأيدي وصامتين مقابل انتهاك أقدس حق في الوجود وهو حق الحياة" مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا "(9)، لا يمكن أن يبقوا صامتين متفرجين أمام تجار الموت، ودعاة الضلال والإرهاب الفكري ،الفكر التكفيري وآلة القتل التي تحصد يوميا أرواح الأبرياء، وما تخلفه النزاعات الطائفية من مآسي وخراب ومشردين ومفقودين نتيجة انتشار الأمية الدينية. لا يمكن أن يكون التكفير حلا للمشكلة بل سيزيدها تعقيدا، مما يعني استمرار النزيف الذي يستفيد منه أعداء الأمة، فخلافاتنا تقوي أعدائنا بقدر ما تضعفنا.
ومن هنا ضرورة إنهاء الصراع الطائفي والعصبيات وأشكال التطرفات الدينية والمذهبية، والتطلع بثقة وأمل نحو تحقيق رسالة الأمة الحضارية، وأهدافها الشريفة التي تجعلها تتسامى إلى أعالي الحياة وتترفع عن الصغائر، فلا يمكن للدين الإسلامي الحنيف حامل القيم الحضارية الحقة، الذي يأمر بالعدل والإحسان والعفو والتسامح والتراحم، والتعاون، والذي يجنح للسلم قبل الحرب، وإلى إصلاح ذات البين بالحكمة، والمجادلة بالتي هي أحسن، والتآخي ونبذ العنف والتسامح أن يكون مصدر قلق وتشويش، أو يدعو إلى الفرقة. بل على النقيض من ذلك تماما، فالدين الإسلامي اتخذ من مسألة الطائفية موقفا ايجابيا منذ فجر الدعوة الإسلامية، ودعا إلى الوحدة والتوحد والإخاء والتكافل والتراحم والتعاطف، فصارت كلمة المسلمين واحدة، لا فرق بين الملل والنحل والجنس والجهة، حتى شبه الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمنين في إسعاف وإغاثة بعضهم بعضا بالجسد الواحد، حيث قال:" "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى "(10)، وأصبحت رابطة الدين أقوى من رابطة الدم، فسادوا العالم وبارك الله لهم في أعمالهم، وعاشت الطوائف متجانسة جنبا إلى جنب تحت مظلة الإسلام الطاهرة وفوق أرض المسلمين الطيبة في مجتمع يحتضن الجميع ويحتضنه الجميع، وكان التنوع والتعدد مصدر قوته المجتمع وثرائه وغناه. وخلاصة القول يستحيل أي مشروع لبناء حضارة قوية دون تحقيق الوحدة بين المسلمين، بل إن تفرقهم سوف يؤخرهم قرونا أخرى على سلم التصنيف الحضاري.
3 الغرب يجيش سلاح الطائفية لتفتيت المسلمين:
بعدما انهارت الجدران التي فصلت بين الشعوب ذات الانتماء المشترك مثل جدار برلين، وعادت تلك الشعوب إلى وحدتها الطبيعية وانتمائها الأصلي، نلاحظ مساعي الغرب لبناء جدار وهمي ولكنه خطير ليفصل جسد الأمة الإسلامية، ألا وهو جدار الفصل الطائفي لتنفيذ مخططاته الجهنمية ضد المجتمعات الإسلامية وتقسيمها على أسس إثنية ومذهبية وجهوية، حيث يرى الأستاذ على رمضان الأوسي، وهو على صوا ب في ما ذهب إليه " أن من أبرز الأوراق التي يحركها الغرب في المنطقة العربية والإسلامية هما ورقتا التقسيم والطائفية إلى جانب شعارات ما يسمى بالديمقراطية وحقوق الإنسان لضرب وحدة المسلمين وتقطيع أوصال الوطن العربي والإسلامي"(11). وتمثل هذه السياسة التي يمارسها الغرب امتدادا طبيعيا لأساليبه الرخيصة وأطماعه التوسعية في المنطقة، حيث يدرك كل من أجال البصر وأمعن النظر، بما فيه الكفاية، أن الطائفية البغيضة هي السرطان القاتل الذي يفتت النسيج الاجتماعي المتماسك، ويكرس عوامل الفصل والانفصال بين أبناء المجتمع الواحد، وهي مقبرة الأوطان على حد توصيف أحد المفكرين، فهي التي تمتص دماء المسلمين وتدفع بهم للعودة إلى مجتمع القبيلة والعشيرة. ونحن على وعي بالمخططات الجهنمية التي يريد الغرب أن يزج فيها المجتمعات الإسلامية، وأن يفككها من الداخل، وينفث فيها السموم القاتلة. إن الحقد الصليبي الأعمى الذي تغذيه العقلية الاستعمارية الهرمة والمريضة التي لم تصدق حتى اليوم أنها فقدت مستعمراتها، هو الذي يدفع الغرب لتجييش سلاح الطائفية، وإثارة النعرات المزيفة وتهييج أحقاد الماضي في كل مناسبة، وبغير مناسبة محاولا بذلك ضرب المجتمع الإسلامي في الصميم، مستغلا الأوضاع الصعبة التي تمر بها بعض البلدان العربية والإسلامية ليحقق مكاسب على أشلاء الأطفال والنساء والشيوخ، دون حياء، ودون مراعاة لآدمية الإنسان، وهو انتهاك صارخ لحقوق الإنسان ولكل المواثيق والعهود الدولية التي يتشدق بحمايتها والذود عنها، وهو في الحقيقة لا يحترمها حتى داخل حدوده، هذا هو ما يفعله في الواقع صناع الخراب الكبير ودعاة التفرقة العنصرية المضادة للطبيعة البشرية. لقد تناسى الغرب جرائمه التي ارتكبها بالأمس في حق الشعوب المستعمرة الذي قتّل شعوبها ونهب خيراتها وأورثها البؤس والشقاء، وهو يتباكى اليوم عن تخلفها ويتحسر على مآسيها، ويدعي مساعدتها على تبني الإصلاحات والديمقراطية والتنمية، في خطاب مزدوج مفضوح تناقضه الممارسات والأفعال على أرض الواقع. الأولى بالغرب أن يلجم لسانه، ويبحث عن حلول لواقعه الغارق في أزماته الاقتصادية والمالية والاجتماعية والأخلاقية. هل هناك بلد ممن اجتاحته جيوش الغرب ينعم بالأمن والاستقرار؟. ومن المفارقات الغريبة أننا نرى اليوم شعوبا في إفريقيا وفي آسيا وأمريكا اللاتينية مهددة بالزوال، بسبب الحروب والأمراض والمجاعات وكل صنوف الفقر، مثقلة بديون صندوق النقد الدولي التي راكمها عليها بشروط قاسية دون وجه حق، تستغيث يوميا وتطلب المساعدة جهارا نهارا كالصومال مثلا، لكن لا يسمعها أحد، لسبب بسيط وهو أن الصومال لا ينبت فيه حتى الحشيش للمواشي، ولا توجد فيه الثروات النفطية الكثيرة، التي تسيل لعاب الغرب المتعطش إلى الطاقة لتحريك آلته الصناعية تحت ستار متعولم يفجر المجتمعات من الداخل بذرائع مختلفة، كحقوق الأقليات، وحقوق الإنسان ونشر الديمقراطية وترقية المرأة وتوسيع حظوظها في المشاركة السياسية...، وكأن البشرية لم تكن تعرف من قبل حقوق الإنسان حتى جاء الغرب ليعرفها بها، وياليته قد تعلمها لنفسه واحترمها، حتى ليصدق عليه قول الشاعر:
يا أيها المعلم غيره هل لنفسك كان ذا التعليم
ومن هنا نؤكد أن الطائفية هي سر النفوس التي لا تهوى إلا الظلام، وقوى الشر المدعومة من الخارج التي، لا تقو سوى على إنتاج وإعادة إنتاج الأفكار الميتة والقاتلة، بدل النظر إلى فجر يوم جديد، إلى المستقبل الذي يفتح الآفاق واسعة أمام التنمية الحقيقة بثقة وأمان، والانفتاح على الأفكار الأكثر جاذبية للإصلاح. إن طريق الطائفية هو طريق الأفق المسدود، طريق الأنانية المفرطة وحب الذات، لكن أهل الإرادة الطيبة، والقلوب العامرة بالمحبة والأمل والإخلاص في العالم الإسلامي قادرين على رفع التحدي في إصلاح أحوال المجتمع بتحويل بذور الفتنة ونيران الخلافات التي لم تحصد من ورائها الأمة إلا الثمار المرة إلى ثالوث النهضة: الاستقرار، الامن، والسلم الاجتماعي، من أجل طي صفحات الماضي القاتمة وفتح صفحة جديدة، تنمو فيها عناصر الخير وتنقرض فيها عناصر الشر، ويسجل عليها تاريخ المجد الحقيقي لخير أمة أخرجت للناس، أمة قادرة على البقاء والنماء والبذل والعطاء بتعزيز القيم المشتركة، شعارها إشاعة روح التسامح وفلسفة الغفران، وغايتها إقامة مجتمع خال من الفتن والصدامات، من خلال تحقيق تصالح حقيقي مع الذات، ومع التاريخ والتطلع للمستقبل، فإذا كانت عباءة الحاضر تضيق بمشاكلنا فان المستقبل يتسع لفضها. لا يمكن بناء المستقبل على أحقاد الماضي، لأن الماضي قد مضى وانتهى، وإنما يهم هو التفكير في المستقبل.إن الشرفاء والأحرار لا يوجهون بنادقهم إلى صدور بعضهم البعض من أجل فتات الدنيا وحطامها على حساب وحدة الأمة ومستقبلها، فالأمة الإسلامية التي قدمت أروع الدروس ومن أرقى المستويات في الحوار وكلمة السواء، مصممة على دخول نادي الأمم المتقدمة ومعترك الأقوياء، لأن مكانها الطبيعي يجب أن يبقى دائما بين الأقوياء. إن الدرس الذي علمنا التاريخ إياه هو أن الأمة الإسلامية لا ينبغي لها أن تترك مكانها شاغرا في أي موعد يصنع فيه تاريخ العالم، ويقرر فيه مستقبل الشعوب ومصير الأمم" إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ"(12).
وفي الختام نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا هداة مهتدين، وصالحين مصلحين، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الهوامش:
1الدكتور نصيف الجبوري، الطائفية تلقي بظلالها، أوراق حول الطائفية، المركز الإسلامي، لندن،2012.
2 الشيخ محمد مهدي الآصفي في مقاله" الموقف من الفتنة الطائفية.
3 سورة قريش الآية 3-4.
4 سورة المائدة الاية3.
5 سورة الحجرات، الآية 13.
6 سورة الأنبياء الآية 92.
7 سورة الصف الاية4
8 سورة آل عمران الآية 103.
9 المائدة الآية 32.
10 رواه مسلم.
11 علي رمضان الأوسي، الطائفية والصراع القائم، أوراق حول الطائفية، المركز الإسلامي، لندن،2012.
12 سورة الرعد، الآية11.