محورية التسامح في الإسلام
محورية التسامح في الإسلام
أبو القاسم العليوي
رئيس ديوان وزير الشؤون الدينية
وعضو المجلس الإسلامي الأعلى ـ تونس
بسم الله الرحمن الرحيم
ليس أنسب من انعقاد المؤتمر السادس عشر للوحدة الإسلامية للتبصير بأهمية التسامح في تيسير تخطّي الفوارق والحدود بين المذاهب التي لا تعدو، في أصح تعريفاتها، أن تكون مدارس فكرية غذّتها اجتهادات الفقهاء الاعلام، وأفهامهم المؤسسة على ما استقام لهم بلوغه من مراتب وعي المبادئ والحقائق الإسلامية كما هي مبيّنة في القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة.
ولقد آن للمستنيرين من علماء المسلمين أن يولوا موضوع التقريب والوصل بين هذه المذاهب كامل الأهمية التي تؤكدها حاجة المسلمين اليوم الى الانشغال بأمهات المسائل التي ترتهن بحلها صيرورة مجتمعاتهم، مثل التوفيق الرشيد اللازم بين مبادئ الإسلام الحنيف وقيمه من ناحية، ومقتضيات الإنخراط في الحداثة، والمشاركة في ضمان إنسانيتها من ناحية أخرى، وإصلاح نظم التربية والتكوين على النحو الذي ييسر توطين المعرفة العلمية، والمشاركة في انتاجها، ويضمن تعزيز الثقة بالذات، واخصاب الحوار بين الثقافات والحضارات.
وفي واقع هذه المجتمعات ما يبيّن أن منزلة الضعف والتبعية التي تجمعها تمثل خلاصة النتائج المترتبة عن الانشغال عن هذه المسائل الموضوعية بأخرى، وهمية، تراكمت، وتوالدت حتى طغت على الضمير الجماعي، وظن أنها اكبر القضايا، وأولاها بالإهتمام.
ومسألة الاختلاف بين السنة والشيعة، وبين المذاهب السنية، والمذاهب الشيعية بلغت من قوة الهيمنة على التفكير الإسلامي مبلغاً كبيراً لافتاً يتبدّى، بالخصوص،في عدد الدراسات والأبحاث الممحضة لطرقها، قديماً وحديثاً، وفي ما بين الآراء التي عرضها أصحابها من أوجه التباين الذي يصل احياناً حد الاختلاف البعيد، وهو تكفير أهل الآراء المغايرة تكفيراً صريحاً لا يجيزه الدين، ولا يستسيغه العقل.
وبذلك كله غدت هذه المسألة بمثابة الشجرة التي تحجب الغابة بأكملها، وشاع التوهم بأن الخوض فيها من أسباب شهرة العلماء الذين نسوا بها مشكلات التنمية والتقدم، وما أكثرها، وأوكدها، وبخاصة في بواكير هذا القرن الحادي والعشرين.
ووازى هذا التوهم نزوع ظاهر عند بعضهم الى الإيهام بأن المخالفة في الرأي موقف خلاف مطلق، وبأنه لاسبيل الى التوفيق بين وجهات نظر المتصدين لدرس فقه المذاهب، وتحليل الأسباب التي افضت الى ضمور روح التسامح في تعاملهم المباشر، أو في حكم بعضهم على أحكام بعضهم الآخر، من معاصريهم، او من السابقين.
وللتحرر من أسر الفكر الإطلاقي الذي باعد بين المذاهب، وفرّق أتباعها، وأرسى ثقافة التشيّع والانتصار للملل والنحل التي لا تقول بنسبية الحقيقة، وبوجوب التمييز بين الأصول والفروع، لابد من تربية الأجيال الناشئة من المسلمين على التسامح، ومن تعميق وعيها بأن الإسلام واحد، خالد، بتعاليمه السمحة، ومبادئه السامية، وقيمه الزكية التي لا اختلاف فيها، ولا وحدة إلا بها.
فبالتسامح، ووعي حقيقة الإسلام القاطعة التي تجمع بين المسلمين، في عقيدتهم، وشريعتهم، وتربيتهم، وثقافتهم يتّضح الفرق بين الدين والمذهب، والوحي والاجتهاد، والمبدأ الثابت والرأي الفردي او الجماعي، ويكون التكامل بين رؤى الفقهاء المجتهدين، والتقارب والتواصل بين المذاهب، وبين المدارس الفكرية الناشئة بدراستها.
ويمكن اجمال المعاني الامهات المتصلة بمفهوم التسامح في القول بأن المقصود بهذا اللفظ إنما هوم وعي حق الآخر في المغايرة والاختلاف في المعتقد والرأي والاختيار، والإقرار بمشروعية التنوع وبأهميته في إغناء تجارب الإنسان بما يجعل الحضارة الكونية صفوة اجتهادات تتراكم وتتكامل على نحو يضمن دفع حركة التاريخ نحو المزيد من التفاهم والتفاعل بين الشعوب، ويتيح إخصاب الحوار الدائب اللازم بين الثقافات.
وبهذا التعريف التأليفي يتنزل التسامح منزلة القيمة المحورية التي يجوز عدّها نشغ الحضارة، والقوام الأمتن للسلام الذي لا يبلي توق الإنسان اليه، ولا يفتر حرصه عليه، لارتهان الإطّراد في العطاء الحضاري، واكتمال التوازن في الحياة الفردية والجماعية، باستتبابه، وبسريان الرؤى المؤسسة على تمثّله والإعتصام به في كل مكونات الواقع الماثل، وكل مشاريع الاستعاضة عنه بواقع أمثل.
ذلك لأن التسامح روح تتبدّى في التفتح على الآخر، والإستعداد لتقبله كما هو، لا كما نريد له أن يكون. وهو، بهذا الاعتبار. موقف يجسد الثقة بالذات، ووعي حاجتها الى الغير في النهوض بأعباء التطوير والإصلاح باكتناه طبائع الظواهر الموضوعية، وردّ ذلك الى واقع جديد يتعزز فيه اقتدار فيه اقتدار الإنسان على حسن التصرف في الكون، وبلوغ مستويات أعلى من الوعي الذي به العمران، وسيادة القيم التي بدونها لا يكون إلا كالشهدة الهلف، لا عسل فيها.
والحرص على التوفيق بين المعرفة البانية التي هي الحكمة، في أشمل معانيها، وبين القيم الهادية الى الاستقامة والصلاح، من أوكد ما علينا تجسيده، نحن معشر المسلمين، بالإخلاص في طلب العلم ـ محضاً ومطبّقاً ـ وفي التمسك بالقيم الزكية الخالدة التي ندب اليها ديننا الحنيف، وحض عليها، وجعلها جماع مكملات الإنسان في عاجلته وآجلته. فالإفادة من المعرفة في أدراك أسرار المنظومة الكونية، وتسخير الحقائق العلمية المكتشفة، والمبتكرات التكنولوجية المتولدة عنها لدعم سلطان الإنسان على الكون الذي استخلفه الله فيه، إنما يقومان على حب الحق، والشوق الى الفضائل التي تكسب الاجتماع الانساني واحداً من معانيه الأساسية، وهو المتمثل في تكامل التجارب وشبكات العلاقات والمصالح، ومنظومات التفكير، وأنماط الآراء والمواقف، وأساليب الحياة بما يؤكد نسبية الحقيقة، وضرورة الاجتهاد، وشرعية التميز، وواجب الانخراط في حركية التعاون على البر والتقوى.
ومن مستلزمات النهوض بهذا الواجب، بل من أهمها، اتحاد التفكير السليم والخُلُق القويم اللذين بنى عليهما الإسلام، ديناً وحضارة، نظام الحياة الاجتماعية بما هي إطار يمارس فيه التعاون على تحقيق الخير لكافة المتعايشين داخله، وللإنسانية جمعاء، على أساس من التفتح على الآخر، والرفض الجماعي للإطلاق، وادّعاء احتكار الحقيقة. فلولا روح التسامح الجامعة بين أعضاء الجماعة، والمنتمين الى نفس المجتمع، بل بين الناس كافة، لظن كل منهم أن اختلاف الآخرين عنه مهدّد لكيانه، وأن مصلحته لا تكمن في غير إخضاعهم لرأيه واختياره، وتسخيرهم لطاعة هواه، ولدفع مالا يحب، وتحقيق ما يرضى ويطلب، بحيث يكون بعضهم لبعض عدواً، وتكون الحياة جمع أضداد، لا سبيل فيها الى تفاهم او معاشرة او امتزاج بين الناس، ولا مكان البتّة لأي طموح مشترك، او لأي وجه من وجوه الانتظام، والاستقرار، والاستمرار.
وبافتراض هذه الحال الجماعية غير الاجتماعية التي لا تكون فيها الحياة إلا ابتلاء بالتطاحن ومجرد عيش بيولوجي بين متنافسين، والتي تفنى سريعاً لافتقارها الى مقومات التعايش وأسبابه، ولتفاني كل طرف فيها، بالتالي، في السعي الى التعجيل بإفناء الآخر لكونه الضد المضاد، تتأكد ضرورة التسامح للوجود، بمستوييه الفردي والجماعي، وبأبعاده التاريخية والأخلاقية، ويتّضح مدى انغراس المعاني المتصلة بهذه الضرورة في الفطرة بما هي القوة المودعة من الله تعالى في نفس الإنسان، ليعرف بها هذا الكائن الفاني عظمة القوة الإلهية السرمدية، ويصبح تسليمه بها توحيداً وإسلاماً.
فالفطرة هي الهيأة الاصلية المتأصّلة في نفس الإنسان الذي يكون بها كائناً متميزاً بتمييز ما هو إلهي، وبالإستعداد الطبيعي لتأكيد كيانه كما أراد له الله أن يكون، في سلوكه الحيوي والوجداني أولاً، ثم في سلوكه الاجتماعي والأخلاقي الذي يزكو، ويصلح بغلبة الأسباب الضامنة لسلامة النفس على الانفعالات الباعثة التكلف، والغلط، والمانعة عن إصابة الحق.
ذلك لأن غائية الديانة إنما تكمن في صلاح الإنسان. ولئن كانت لها غاية إلهية، فإن موضوعها إنساني، وهو يشمل حال الإنسان ومآله، وما به سلامته، وسلامه، وفوزه بما يبتغي من سعادة في الدنيا، ونجاة في الآخرة.
بهذا يتّضح أن الفطرة أساس العقل الذي به الوعي والتدبر والفهم والإعتبار، وتوخي سبيل الهدى والاستقامة، والتحرر من الأهواء المفضية الى الباطل، والفساد، وسوء المنقلب (فما عرف بالعقل أنه من صالح الحياة الإنسانية كان مطلوباً شرعاً، وما عرف أنه من المفاسد كان منهياً عنه، لا يقرر الشرع ذلك بلسان الأمر والنهي، ولكنه يعتمد فيه على إدراك العقول الصحيحة والفطر السليمة للمصالح والمفاسد) ([1]).
وقد وصف الإسلام بأنه دين الفطرة لمواءمة تعاليمه ومبادئه وقيمه للفطرة التي تطمئن اليها، بحكم ذلك، وتتعلق بها لما فيها من سماحة ووسطية ويسر تترسخ في النفس أدباً منزهاً عن الظلال الذي يكره الناس أن يعاملوا به، ومرغبا في كل فعل (يحب العقلاء أن يتلبس به الناس وأن يتعاملوا به) ([2]).
قال تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك هو الدين القيم) ([3]).
والدين المقصود في هذه الآية الكريمة إنما هو الإسلام الحنيف الذي جاء ديناً عاماً للبشر كافة مصداقاً لقوله عز من قائل: (إن الدين عند الله الإسلام) ([4]).
وليس أبلغ لوصف الإسلام من قوله تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم، خطاب الأمـر: (قـل إنني هـداني ربي الى صــراط مستقيم ديناً قيماً ملّة إبراهيم حنيفاً)([5]).
والصراط المستقيم هو سبيل نجاة الإنسان مما يضله، وينآى به عن الهداية والحق. والمقصود به هو الإسلام الذي وصفه الله بكونه القيم لأنه (قيم بالأمة وحاجتها)([6]).
و(لأنه جاء بالأصول التي هي شريعة إبراهيم وهي: التوحيد، ومسايرة الفطرة، والشكر، والسماحة، وإعلان الحق)([7]).
ولقد تكاملت أنظار المفسرين المجتهدين في بيان مدى الملائمة بين الفطرة والإسلام في عقيدته وتشريعه ومنظومته القيمية وبنائه الحضاري، فأكدوا أن المراد بالحنيفية السمحة إنما هو الإسلام للانبائه على السماحة والتيسير (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)، ولما يفتحه، بذلك، أمام المسلم من آفاق السعي الى التقوى لاستحقاق رضوان الله، ومن سبل التوفيق بين ثوابت الدين وحقائقه القاطعة، والمتغيرات التاريخية المتوالدة باستمرار.
ومن أهم معاني هذا التوفيق الذي هو من عمل العقل أنه وسط بين شبكات العلاقات والأطراف والأقطاب التي لا يمكن للإنسان، بما هو كائن موصول الصبوة الى طبيعته الروحية الثقافية التي بها توازنه وتأثيره الإيجابي في الكون، أن يذهلها أو يتحرر من سطوتها في انشغاله، في كل الظروف والصروف، بقضايا الدنيا، ومستلزمات الفوز فيها، ثم في الآخرة، بالمصير الأفضل المنشود.
إنه وسط واعتدال بدونهما لا يتسنى تنكب الإفراط والتفريط في معالجة المسائل الحادثة بالكدح من أجل تحقيق الذات، وجلب المصلحة ودفع المضرة. ومن هذه المسائل ما يطرح بالتفكير في علاقة المسلم بربه، وبمسؤوليات الإستخلاف، ومنها ما يستثار بنسج علاقاته بأخيه المسلم، وبغير المسلم، بل بكافة مكونات ما يسميه علماء النفس (العالم الخارجي)، بما يجعل هذا التفكير متداخل الأبعاد، متصل الحلقات والأطوار، متسعاً لجميع ضروب الأحوال التي يبحث فيها الإنسان عن ذاته، ويجتهد من أجل تأكيدها، ورسم توجهاتها، ونحت منزلتها في مجتمعه، وفي العالم، ويسأل عن دوره في خدمة البشرية، وعن مصيره في الحياة الدنيا، وبعد الموت؛ بحيث يكون الكائن البشري، في كل ذلك طالباً ذاته، ساعياً اليها في ما يراه منها مما يفهم من المقدس، ومما يعي من الزمني، وبإدراكه لأوجه الصلة بين الفرد والجمع، وموقفه من القريب والبعيد، والمعلوم والمجهول، والمماثل والمختلف، والمحبوب والمكروه، وغير ذلك من الثنائيات والمعادلات التي يزخر بها الوجود، والتي تند حقاً عن الحصر.
ومن أبلغ الدروس والعبر التي يمكن استخلاصها من تاريخ الإنسان، ما يتمثل في تأكد حاجته لمعرفة ذاته والإستجابة لمطالبها المشروعة، وللظفر بسلام النفس وسلامتها، وتوازن السلوك، الى الفطرة التي بينا أنها استعداد جبلي لتحقيق القوام بين الروح والمادة، والمطلق والنسبي، والنقل والعقل، والثابت والمتحول، والأنا والآخر، والذاتي والموضوعي، والفردي والجماعي … وكلما زاغ عما يستساغ بالفطرة ومال الى ما تهجن وتنبذ، أفسد فطرته التي فطرها الله عليها، وابتعد عن ذاته، بل عن إنسانيته، وأخل بواجب الوفاء لكرامته، وسقط، حتماً، في المفاسد والشرور.
لمّا كان الإسلام دين الفطرة المهيأة للتمييز بين ما ينفع وما يضر، وبين ما يصلح وما لا يصلح، وكان العقل أداة ذلك التمييز الذي توحي به السليقة، ثم يغدو ملكة تزكو بالمران والتربية، وكانت الوسطية والسماحة واليسر من أخص خصوصيات الحنيفية السمحة التي بعث بها خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه يجوز القول بأن القيم السمحة التي يدعونا الإسلام الى التمسك بها، والإسهام في صونها، وتثبيتها، وتجسيدها في الزمان والمكان نابعة من الفطرة، ومكرسة بهذا الدين القيم الهادي الى سواء السبيل: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ان لهم أجراً كبيراً) ([8]).
وبتحليل طبائع ما بين هذه القيم من متين الروابط الدالة على أن أصلها واحد، وعلى أن الغاية من العمل على الالتزام بها واحدة، هي صلاح الإنسان وإعمار الكون، يتضح مدى الإحكام الذي يتسم به سبك المنظومة القيمية الإسلامية التي تتداخل فيها المفاهيم، وتتكامل المعاني بما يجعل محاولة تعريف كل قيمة باعثة على التفكير في غيرها، مؤكدة أن ضبط حدها ومداها لا يستقيم إلا بوصلها بصنوها، وتنزيلها في النظام القيمي الشامل.
فبالتصدي لصياغة تعريف (التسامح) بما يتيح التأليف بين كل المعاني المقصودة به لغة، واصطلاحاً، وهي التي استهللنا بها الحديث فيه، تثار في الذهن، بلا شك، معاني السماحة التي على المسلم أن يلقى بها غيره، مسلماً كان أو غير مسلم، ومعاني اليسر واللين والتفتح التي ينبغي أن تؤسس عليها كيفيات معاشرته، والتعامل معه.
كما يُثار مفهوم الحرية، وما يتصل به من معاني الحرص على احترام ذات الآخر، ورأيه، ومعتقده، وضمان حقوقه، ومنها حقه في الإختلاف في كل ذلك، من دون أن يرى في اختلافه هذا خلافاً، يبدو في غياب السماحة، والتفتح، ورحابة الصدر، نقيضاً، وخطراً تتعين مقاومتهما، ويتأكد القضاء عليهما.
قال تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) ([9])، وقال: (لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر، وادع الى ربك إنك لعلى هدى مستقيم) ([10]).
ولولا العقل لتقاذفت الناس نوازع الشطط والسرف، وضاعوا في متاهات التعصب والتطرف الخطرين المقيتين. ولولاه لتوهموا أن كل مخالف عدو، ولغاب التراحـم الذي به السلام والتضامن اللازمين للاجتماع، ولاستشرى بينهم التباغض والتناحر، وانقلب عيشهم فتنة نكراء تذهب بهم جميعاً (والفتنة أشد من القتل) ([11]).
إن روح التسامح سارية كالكهرباء في سلوك الإنسان العاقل. والإنسان العاقل هو السمح، المفتح، المعتدل، المحب لغيره، والمتعاون معه لتحقيق الخير للجميع، ولصون مبادئ الحرية، ونشر السلام. وبهذا تتجلى محورية قيمة التسامح في الإسلام، ويجوز اعتبارها أم القيم، ومن أجل ما أنعم به الله تبارك وتعالى على عباده، رحمة بهم، وتكريماً لهم، ويحق لنا أن نقول إن الإنسان متسامح بالطبع، بحيث يكون سلوك التعصب غير سوي يستوجب الردع والتقويم، وبعيداً البعد كله عن جوهر الإسلام الذي (أسس للتسامح أسساً راسخة وعقد له مواثق متينة، وفصل فصلاً مبيناً بين واجب المسلمين بعضهم مع بعض في تضامنهم وتوادّهم (…) وبين حسن معاملتهم مع من تقتضي الأحوال مخالطتهم من أهل الملل الأخرى) ([12])، وبتسامحه كفل الإسلام لغير المسلمين حرية المعتقد، وممارسة الشعائر المشروطة في دياناتهم، بعيداً عن كل إكراه او عسف (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) ([13]).
وقد جاء في سورة يونس قوله تعالى: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) ([14]).
وبهذه الروح، تأصّل في المجتمعات الإسلامية ضرب من التعايش السلمي بين المسلمين واليهود والنصارى تسنى به صون حرمة كل دين، وحفظ حقوق كافة الناس بغض النظر عن تباين مللهم، وقناعاتهم، وتصوراتهم.
وبها كانت الحضارة العربية الإسلامية حضارة تراكمية غير تعويضية، انفتحت على ما شهدت البشرية قبل ظهور الإسلام من تجارب الأمم المختلفة، واستوعبت ما كان فيها من صنوف السداد، وآيات الصلاح، ولم تنبذ منها إلا ما كان مناقضاً لتعاليم الإسلام، او مخلاً بمبدأ من مبادئه. والى هذه الخصيصة التراكمية يُعزى ثراء هذه الحضارة، التي قوي إشعاعها (وكانت دولتها شباب الزمان) ([15])، أي كانت قوتها محل إعجاب العالم كله، في عصور ازدهارها الذي تحقق بالاجتهاد الصحيح الخصيب الشاهد على أن (حرية العقل ثمرة اقتطفت من دوحة الإسلام (…) ثم انتقلت الى أقوام) ([16])، وعلى أن الإسلام قد فتح بتسامحه وتفتحه آفاقاً رحيبة حقاً للتعايش بين الأديان، والتحاور، والتلاقح بين الثقافات والحضارات، وبنى للسلام أسساً متينة راسخة، كان بها، عن جدارة، عند المستنيرين المخلصين من أتباعه، وفي نظر المنصفين من الدارسين غير المسلمين، القدامى والمحدثين، دين التسامح، والحوار، والسلام.
ولابد من تأكيد التنبيه ـ هنا ـ الى أن الصور المشوهة التي ينشرها عن الإسلام من انسلخت نفوسهم عن روح التسامح والسلام السارية في القرآن الكريم والسنة الشريفة، واستبدلوا الهدى بالضلالة، والخير بالشر، من التائهين في أفلاك الظلامية، وأهواء التعصب المتستر بالدين، والخاضعين لنزعات العنف والإرهاب، تشكل عين نقيضه. وقد وجد فيها الجاهلون، ودعاة الصدام بين الحضارات، ما يبررون به إصرارهم على بث خطاب الكراهية والعدوانية والتجنّي، والترويج لما يقترن به من أفكار مسبقة وأحكام مجانية في بعض وسائل الاتصال والدعاية الرهيبة في الغرب.
ولئن وجدت وراء الحملة التي تستهدف طمس ثوابت الإسلام، وعرض حقائقه على عكس ماهي، في المجتمعات غير الإسلامية، حاجات في نفوس الضالعين بها، دينية وثقافية، وسياسية، فإنه من الصدع بالحق القول بأن مضرمي نارها، والدافعين، غيّاً وبغياً، الى استمرار اشتعالها هم المتعصبون المتطرفون الذين لم يعوا ما في الإسلام من أريحية التسامح، وخالص الدعوة الى السلام، وعمدوا الى الخلط بين الدين والسياسة، أي بين منطق الحلال والحرام، ومنطق الصواب والخطأ، لنيل أغراض ليست من الإسلام في شيء، أضحت اليوم غير خافية عن كل ذي حجّى، في البلاد الإسلامية، وخارجها.
وإن ظاهرة الغلو في الدين، وتعمد استغلاله لنيل المآرب السياسية لمن أخطر الظواهر المرضية التي شهدها تاريخ المسلمين الذين يتعيّن عليهم اليوم اعتبار التصدي لها بما يضمن اكتمال اجتثاثها من أوكد الأعمال التي يستوجبها الإخلاص في خدمة دينهم القيّم، وصون قيمه من كل نزعات الإفك، والغي، والتعصب.
* * *
وفي صميم العمل الزكي السخي الذي يهدف الى إعلاء شأن الإسلام وتعزيز عزّ المسلمين تندرج المنجزات الكمّية والنوعية المتتالية التي تشهدها تونس منذ بواكير عهد السابع من نوفمبر 1987.
فقد أراد سيادة الرئيس زين العابدين بن علي، حامي حمى الدين والوطن، لهذا العهد أن يكون عهد الإلتحام بين الدين والدولة، ونزّل التمسك بقيمة التسامح وسائر القيم الخالدة التي يحضّ عليها الإسلام الحنيف منزلة الخيار المركزي الثابت في فلسفة الإصلاح والتحديث التي يجري تطبيقها، بقيادته المتبصّرة، بحماس شعبي رائع، ونجاح مبين، تتجلى آياته في التكامل البعدين الروحي والمادي في عملية التنمية الشاملة، وتكريس مبادئ التسامح والوسطية والتضامن في واقع المجتمع بمختلف مستوياته، وفي السلوك الفردي والجماعي على حد سواء.
الهوامش:
([1]). محمد الفاضل ابن عاشور ـ ومضات فكر، الجزء الأول، تونس، الدار العربية للكتاب، 1981، ص 133.
([2]).محمد الطاهر ابن عاشور ـ أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، تونس، الشركة القومية للنشر والتوزيع، 1964، ص 27.
([3]).الروم / 29.
([4]).آل عمران / 19.
([5]).الأنعام / 161.
([6]).محمد الطاهر ابن عاشور ـ تفسير التحرير والتنوير، تونس، الدار التونسية للنشر، ج8، ص 199.
([7]).نفس المصدر، ص 200.
([8]).الإسراء، / 9.
([9]).هود / 118.
([10]).الحج / 65.
([11]).البقرة / 190.
([12]).محمد الطاهر ابن عاشور ـ اصول النظام الاجتماعي في الإسلام، ص 230.
([13]).البقرة / 256.
([14]).يونس / 99.
([15]).الشيخ محمد النخلي ـ آثار الشيخ محمد النخلي، جمع وتحقيق عبدالمنعم النخلي وحمّادي الساحلي، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1995، ص 110.
([16]).نفس المصدر، ص 110.