فلسطين والتحدي الحضاري
فلسطين والتحدي الحضاري
أد. محمد هشام سلطان
نائب رئيس اتحاد علماء بلاد الشام
أستاذ بجامعة البلقاء التطبيقية - الأردن
الحديث عن القضية الفلسطينية والتحدي الحضاري في حياة الأمة يعيدنا إلى الصراع القائم بين معسكر الاستعمار الغربي بأداته اليهودية واستخدامه لهذه الأداة الشيطانية في استعمار واحتلال العالم العربي والإسلامي، وفي تصويب سهام الغرب واليهود إلى قلب الأمة العربية والإسلامية في فلسطين .
وعلى اعتبار أن الموقع الجغرافي والتاريخي لفلسطين يهيء لمن استولى عليها الاستيلاء على الأمة العربية والإسلامية وأن يفرق بينها وأن يزيل قوتها وهذا ما هو واقع في عالمنا المعاصر، ولا أريد أن أدخل في تفصيلات القضية الفلسطينية ؛ لأنها ربما تكون أكثر و أكبر قضية قُتلت بحثاً في العالم، ولكن لا بد من تقرير حقائق مهمة من باب التذكير :
أولا: أصالة الوجود العربي الفلسطيني في فلسطين حيث كان قديما قبل دخول العبريين إليها يقال إن فلسطين لم تعرف العرب إلا مع دخول الإسلام إليها وهذه مقولة باطلة وذلك أن عمر بن الخطاب أدخل الإسلام إلى القبائل العربية الموجودة فيها والأمران مختلفان تمام الاختلاف دخول العرب ودخول الإسلام، و إن إجماع المؤرخين أن الكنعانيين قد سكنوا فلسطين قبل العبريين، وكانت أمةَ ساميةَ نازحة من الجزيرة العربية وبدأ نزوحهم منها في أوائل الألف الثالث قبل الميلاد وقد انتشروا في معظم بلاد الشام وهذا معروف لدى اليهود . وكما جاء على لسان النبي اليهودي " صفنيا " : تجمعي واحتشدي أيتها الأمة غير المرضية ... إلى أن يقول : الآن غزة ستكون مهجورة وعسقلان ستكون خرابا، وأشدود سيطردونها عند الظهيرة، وسوف نستأصل عقرون، ويلٌ لسكان البحر، أمة الكريتيين، كلمة الرب عليكم يا كنعان، أو الفلسطينيين، لأجعلنك خرابا بلا ساكن ويكون ساحل البحر مسرحا ذا آبار للرعاة وحظائر للغنم، ويكون الساحل لبقية آل يهوذا، وعليه يرعون في بيوت عسقلان يربضون عند الماء لأن الرب إلاههم يتعهدهم ويرد سبيهم "[1] .
كما أن من القبائل العربية الفلسطينية الأصلية ( اليبوسييون) التي كانت تسيطر على منطقة القدس وما حولها وهي التي بنت هذه المدينة المقدسة وكان اسمها سنة 1900 ق. م شاليم فقط وليس أورشليم، وكان ملكها من سكان فلسطين الأصليين يحكمها حكما دينيا [2].
وخلاصة القول في فلسطين أكثر من دليل على أن العرب كانوا جزءاً لا يتجزأ من العناصر المكونة للسكان الأصليين في تلك البلاد قبل تسرب العبريين إليها .
والفتح الإسلامي لم يدخل العرب إلى فلسطين وإنما طرد المستعمر منها وهم الرومان وكان شرط الفتح عدم دخول اليهود إليها، وإن الادعاء الصهيوني بالربط بين اليهود وفلسطين على أساس الوعد الإلهي لبني إسرائيل على أرض كنعان وإقامة الدولة الصهيونية أمر مرفوض تاريخيا وعقلانيا ودينياً وواقعياً .
وقد باركت أوروبا هذا للتخلص من اليهود من جهة ومن جهة أخرى لوضع خنجرها المسموم في قلب العالم العربي والإسلامي .
أما الحجة اليهودية الثانية بأن اليهود كانت لهم دولة في فلسطين في فترة زمنية معينة ؛ ففلسطين قبل اليهود عربية وغدت نصرانية في عهد الرومان ثم أصبحت إسلامية . ومملكة داود وسليمان لم تستمر إلا ما يقرب من ثمانين عاما من 1000 ق.م إلى سنة 920 ق.م. وكذلك مملكة يهودا والسامرة.
قد انصهرت إسرائيل في قلب الإمبراطورية الأشورية سنة 722 ق. م و سقطت يهودا في يد الكلدانيين سنة 586 ق.م فاليهودية ليست الصهيونية وليست هي إسرائيل وهي أولا وقبل كل شيء كالمسيحية والإسلام دين وليست قومية واليهودي إنسان يؤمن باليهودية ولكن هذا الإيمان لا يمنحه جنسية معينة ودعوى إسرائيل في الولاء المزدوج دعوى باطلة .
وقد " قرر الحاخام هرمان إدلر الحاخام الأكبر لإنجلترا 1878 ما يلي: منذ غزو فلسطين بواسطة الرومان أصبح اليهود ليكونون مجتمعاً سياسياً إننا كيهود ننتمي سياسيا إلى البلاد التي نعيش فيها . إننا بكل بساطة انجليز أو فرنسيون أو ألمان، إننا نمارس بالضرورة بعض العقائد الدينية الخاصة بنا ولكننا لا نختلف في هذا الشأن مع المواطنين الذين يعتنقون أي دين آخر إننا نشاركهم في المساهمة في رفاهية الوطن ونطالب بحقوق وواجبات المواطنين ".
وقد أكدّ هذا المعنى الحاخام الأمريكي ويس سنة 1883 كما أقره رجال الدين اليهودي في كل مكان ونشير هنا بصفة خاصة إلى القرار الذي صدر عن مؤتمر يهودي عقد في مدينة بنسبورج الأمريكية في سنة 1885 ونصه كالآتي : إننا اليهود لا نعتبر أنفسنا أمة بل مجرد جماعة دينية، وعلى هذا لا نفكر في العودة إلى فلسطين ولا نرغب في إحياء أي قوانين متعلقة بالدولة اليهودية "[3].
أهداف الدول الاستعمارية من خلق إسرائيل
قبل هذا نسوق كلام جون كندي عام 1960 في كتابه إستراتيجية السلام : حقائق سبع تعطي لمنطقة الشرق الأوسط وضعاً متميزا وأهمية خاصة وهذه الحقائق هي على التوالي :
الأهمية الإستراتيجية للمنطقة التي تسكنها ملايين غير منحازة، البترول، التسلل الشيوعي، أحوال المنطقة الاقتصادية والاجتماعية، بروز القومية العربية، وثورة المنطقة ضد الاستعمار الغربي، بروز مصر كزعيمة للعالم العربي، والوحدة العربية وتزعمها لحركة الوقوف في وجه الغرب، وقرر أن الحقيقة الأخيرة هي أن طبيعة الشرق الأوسط سيحددها في الأجيال القادمة عامل لم يكن موجودا من قبل هو دولة إسرائيل "
أهداف الدولة الاستعمارية من إيجاد دولة إسرائيل :
1. خلق فاصل جغرافي أبدي بين شبه الجزيرة العربية والعراق وسوريا ولبنان والأردن وبين مصر وشمال أفريقيا العربية غرباً. وخلق مشكلة دائمة للعالم العربي تمنعه من الاستمرار والتطور الاقتصادي والاجتماعي الذي يسمح له بالوحدة والتكامل سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
2. استخدام إسرائيل في المؤامرات المستمرة التي تحاك ضد الوحدة والقومية العربية[4] .
3. إقامة الوطن القومي لليهود في قلب الوطن العربي .
4. جعل إسرائيل الجسر الذي تعبر عليه الصناعات الاستعمارية إلى أفريقيا وآسيا والاستيلاء على الاقتصاد العربي والإسلامي .
5. المؤامرة الاستعمارية الصهيونية على الفكر الإسلامي
6. تفريغ الذات العربية والإسلامية من مقوماتها النفسية والروحية والاجتماعية المنبثقة عن الإسلام .
7. تفريغ الذات العربية والإسلامية من محتواها العقدي .
8. قبول الظاهرة الإسرائيلية في المنطقة العربية والإسلامية والتعامل معها كأمر واقع .
9. إفساد العالم العربي والإسلامي تربويا وإعلاميا وثقافيا وبجميع الوسائل .
10. خلق جيل من الجواسيس والخونة العاملين لحساب إسرائيل والغرب .
أما ما آلت إليه القضية الفلسطينية فأختصره من تقديم محمد حسين هيكل لكتاب عبد الوهاب المسيري "الصهيوني و النازية" حيث يقول : أظن أننا في حالة الحرب وفي حالة السلام معا نحتاج إلى معرفة أكثر بإسرائيل فليس هناك من يستطيع أن يحارب طرفا لا يعرفه، وليس هناك من يستطيع أن يسالم طرفا لا يعرفه أيضا .
ولعل المعرفة بالآخر تكتسب لنفسها أهمية أكثر في حالة من نوع ما هو قائم الآن بين العرب وإسرائيل.
فلا هي الحرب لأن الطرف العربي لا يملك الضرورات الأساسية للحرب، تحديد الهدف بوضوح، وامتلاك الوسائل بثقة، وتهيئة الظروف داخل مجال الصراع وخارجه بكفائة، والتحصن بالإرادة والتفرقة بينهما وبين أحلام اليقظة بحزم . وفي نفس الوقت فإن السلام لم يجيء لأن السلام له اشتراطات : الرضا الاختياري بصلاحية الفرصة المناسبة لصنعه، وليس الجري تحت فرقعة السياط إلى موائده . والإحساس بأن المطروح على المائدة يوفر توازناً في الأمن والمصالح . والتأكد من أن أحدا لا يملك ميزة احتكارية يفرض بها إرادته إلى حد طلب الإذعان والرضى عن اتساق نتائجه مع الطبيعة والتاريخ دون شذوذ.
الحرب إذا بعيدة والسلام أبعد منها، لكن هنالك ثالثة، لا هي السلام ولاهي الحرب، لا هي إذعان لأحكام الواقع ولا هي القدرة على تحدي هذه الأحكام وفي وقت من الأوقات كان يطلق على شيء من هذا النوع وصف حالت " ألا سلم وألا حرب" لكن هذا الوصف في الأحوال المستجدة يحتاج إلى مراجعة لان الواقع أكثر تعقيداً منه وأشد إلتباساً.
كان التعبير ألا سلم وألا حرب يعبر عن ظرف معين بدا فيه السلام بعيداً، لكن الاستعداد للحرب كان حاضرا يواصل تجهيز نفسه لإختبار السلاح أما الآن فإن السلام لم يدخل بعد إلى الميادين، لكن السلاح غادرها حاملا الذخائر والخرائط أيضا. أي أن هناك ما يمكن أن نسميه حالة غياب – تكاد تكون غياباً عن التاريخ ذاته، ماضيه وحاضره والمستقبل.
إن حالات الغياب التاريخي التي تعتري الأمم في بعض اللحظات من تجاربها ليست فراغاً لأن هناك فارقاً بين الغياب والفراغ . وفي حالة الغياب فإن هناك دائماً إحساساً بأن كل غياب تعقبه عودة بصرف النظر عن المواقيت .
وهكذا فإن حالة الغياب كثيراً ما تكون فرصةً ملائمةً لتهيئة ظروف العودة وشروطها بما فيها :إلى أين بعد العودة ...
وفي الوضعية العربية الراهنة – والحرب مع إسرائيل بعيدة وكذالك السلام فهناك بالفعل توجهات متعددة:-
1. توجه يرى أن الحضور في التاريخ شرطه الاعتراف بالأمر الواقع كما هو، والأمر الواقع كما هو لصالح إسرائيل. وإذا فلنقبل بالحقبة الإسرائيلية وإلا فنحن غير عمليين وغير واقعيين –وهذا توجه يتكفل بحقائق الأشياء وبتحويل الغياب إلى غيبوبة تخرج بأصحابها من التاريخ أكثر مما تعود بهم إلى مجاريه !
2. توجه يرى أن حضوره في التاريخ شرطه مسايرة التيار الغالب. والتيار الغالب كما يقول أصحاب هذا التوجه نظام عالمي جديد تسيطر عليه وتحركه الولايات المتحدة. ولما كانت إسرائيل هي الصديق الأهم لسياسات الولايات المتحدة في المنطقة فإن المستقبل مضمون بأن نتنافس أو نتعاون مع إسرائيل في صداقة الولايات المتحدة وسياساتها . وهذا توجه ينسى ان التاريخ يصنعه الشجعان ولا تصنعه القطعان !
3. ثم توجه آخر لعله أصعب التوجهات جميعا لأنه يجعل من العودة إلى النفس مقدمة ضرورية للعودة من الغياب إلى الحضور التاريخي الحي والفاعل .
وظني أن أصحاب هذا التوجه أقرب من غيرهم إلى الحقيقة إذا اتفقنا أن الحق أقرب الطرق إلى الحقيقة، حتى وان كان – وهو كذلك بالفعل - أصعبها وأشدها مشقة .
أصحاب هذا التوجه يقدرون : أن الاعتراف بالأمر الواقع ترسيخ للغياب من حيث هو اعتراف بالآخر وحده.
ثم الالتحاق بالغالبين في موقف حيرة وضعف إنكار لدوافع ومحركات التطور والتقدم ثم هو في أحسن الأحوال استبدال الغياب بالاغتراب .
والذي أتصوره أن الحضور التاريخي والحي الفاعل لا يصنعه إلا الشجعان وإن هذا الحضور يتمثل بالمقاومة الحقيقية ضدّ كل أشكال الاحتلال والاستعمار وهذا يقسم البلاد الإسلامية إلى قسمين :
1. المتبني للحق ورفض الوجود الإسرائيلي في المنطقة، ورفض أتباع وأنصار هذا الوجود والمقاومة والجهاد إلى آخر نفس.
2. التيار التابع لإسرائيل وأميركا في العالم وعلى كل عاقل أن يحدد موقعه في هذا الوجود .
ثانيا: الحقيقة الثانية إن القضية الفلسطينية تعتبر قضيةً محوريةً للأمة الإسلامية لعدة أسباب سنبينها إن شاء الله.
وقد عرف العرب " فلسطين " "وبيت المقدس" و" المسجد الأقصى" واتخذ الرومان اسم فلسطين للقسم الجنوبي من سوريا، وتذكر إيلياء عن الكلام عن الروم، أو بيت المقدس عند الكلام عن المسلمين .
ومنزلة بيت المقدس التي تمثل جنوب سوريا إلى حدود الحجاز منزلة خاصة عند الأمة الإسلامية وعندما نطلق على فلسطين المسجد الأقصى يراد المسجد وما حوله، ويشمل من العريش إلى الفرات إلى الحجاز كما في الحديث : إن الله تعالى بارك ما بين العريش والفرات وخص فلسطين بالتقديس "[5].
ومن أسباب أهميتها :
1. لقد دام حكم المسلمين فيها أربعة عشر قرناً، خلا قرنٍ واحدٍ وهو الاستيلاء الصليبي على جزء من فلسطين، وهذه أطول مدة زمنية تقع فيها فلسطين تحت الحكم الإسلامي، وتذوق فيها حلاوة الاستقرار وحرية العبادة لجميع الطوائف الدينية إلى أن جاء الاحتلال الإسرائيلي.
2. تعتبر فلسطين مهد الرسالات ومهبط الأنبياء من إبراهيم عليه السلام المدفون في مدينة الخليل التي سميت باسمه ومهداً لمجموعة كبيرة من الأنبياء أمثال سيدنا يحيى و زكريا ويونس ويعقوب ويوسف وسيدنا عيسى وكما جاء في الحديث عن ابن عباس " البيت المقدس بنته الأنبياء وسكنته الأنبياء، ما فيه موضع شبر إلا وقد صلى فيه نبي أو قام فيه ملك"[6].
3. لأن الله قد خص فلسطين بالإسراء والمعراج قال تعالى: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا انه هو السميع البصير" الإسراء 1 .
4. لأن فيها أولا القبلتين وثالث الحرمين الشريفين روى الطبري في تاريخه عن قتادة قال :" كانوا يصلون نحو بيت المقدس ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة وبعد ما هاجر رسول الله صلوا نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً"[7].
5. التمسك بقول النبي صلي الله عليه وسلم "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى"[8].
6. اعتبر المسلمون فلسطين أول وأعظم ثغر من ثغور الإسلام كونها الملاصقة للحجاز والتي يمكن أن ينفذ منها إلى القبر النبوي وإلى الكعبة المشرفة فأولوها أهمية خاصة باعتباره الثغر الذي يدرأ الخطر عن مقدسات الإسلام.
7. ونظراً لهذه الأهمية تميزت بما يلي:
1- بنوا في عهد عبد الملك بن مروان مسجد الصخرة، وأنفقوا عليه خراج مصر لسبع سنوات.
2- ثم بنوا في عهد ابنه المسجد الأقصى ومسجد عمر، فكانا من أجمل وأروع ما بناه المسلمون في حواضرهم بل من أجمل ما خلده الفن المعماري من آثار في العالم.
3- وأوقفوا عليها معظم الأراضي المحيطة ببيت المقدس.
4- وتقرب الخلفاء والأمراء والصالحون إلى الله تعالى بتعمير هذين المسجدين وخدمتهما.
5- وإضافة العديد من المساجد والقبب والمحاريب والأروقة والمآذن والمدارس حتى أصبحت بيت المقدس متحفاً لا مثيل له، يعلو اسم الله في كل جنباتها.
6- واتخذ المسلمون من ساحة الحرم الشريف والمسجدين الكبيرين والأروقة مدارس يدرسون فيها علوم الدين.
7- وقصد معظم الحجيج بيت المقدس في ذهابهم إلى بيت الله الحرام وفي عودتهم منه حتى أصبحت المدينة المقدسة مزاراً يتبرك به المسلمون تبركهم بالكعبة المشرفة.
8- واستحبوا الإحرام بالحج والعمرة منه ففي سنن أبي داود من حديث أم سلمه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى غفر الله له ما تقدم من ذنبه"[9].
9- وأحرم منه جماعة من السلف كإبن عمر ومعاذ وكعب والأحبار وغيرهم
10- وتعلقت قلوب المسلمين بالمدينة وحنوا إليها وافتدوها بالمهج وأحاطوها بالرعاية وعبروا عن شعورهم هذا فيما كتبوا من كتب ورسائل في فضائل بيت المقدس "فذكر منها فضائل بيت المقدس لابن المرجف المقدس، والأنس في فضائل القدس لابن هبة الله الشافعي، ومنير الغرام بفضائل القدس والشام لابن سرور ...".
وروى ابن ماجة في سننه عن ميمونة مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: قلت يا رسول الله افتنا في بيت المقدس قال :" أرض المحشر والمنشر، إئتوه فصلوا فيه فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره".
وروى عن رسول الله صلى عليه وسلم قوله : "من مات في بيت المقدس فكأنما مات في السماء"
وعن ابن عباس قال: من حج وصلى في مسجد المدينة ومسجد الأقصى في عام واحد خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه"[10].
وعن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أراد أن ينظر إلى بقعة من بقع الجنة فلينظر إلى بيت المقدس"[11].
وعن أنس بن مالك قال: "إن الجنة تحن شوقاً إلى بيت المقدس، وصخرة بيت المقدس من جنة الفردوس وهي صرة الأرض"[12].
11- ودفن في مدينة القدس عدد كبير من الصحابة والتابعين والمجاهدين منهم الصحابي عبادة بن صامت الأنصاري، والصحابي شداد بن أوس، والزاهدة أم خير رابعة العدوية، والمتكلم محمد ابن كرام صاحب الفرقة الكلامية والمحدث بكر بن سهيل الدمياطي....".
ولا يفوتنا أن نشير إلى أن المسلمين على مر الأجيال كانوا يتنافسون في إنشاء المساجد والزوايا و التكايا والربط ودور العلم والمستشفيات في جميع أنحاء فلسطين وأن الوفيات المسجلة في المحاكم الشرعية في فلسطين أكثر من أن تذكر منها:
1- وقفيات أبي مدين الغوث.
2- وقفيات المغاربة.
3- ووقفية صلاح الدين الأيوبي.
4- ووقفية خاسكي سلطان "زوجة السلطان سليم العثماني" وهناك مئات الوقفيات في القدس والخليل ونابلس وحيفا وعكا ويافا وغزة...
2- تتضح مكانة فلسطين وموقعها المحوري في حياة الأمة وفي ونفوس المسلمين من خلال القرآن الكريم وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وحياة المسلمين فيها أربعة عشر قرناً وما قاموا فيها من إعمار وبناء في كل المجالات من المساجد والمدارس والزوايا والربط. والزراعة والصناعة والتجارة.
أما في القرآن الكريم فقد تجلى ذلك في سورة الإسراء حيث ذكر الله بيت المقدس وما حوله حيث قال:-
"سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير". ويذهب الإمام الرازي في تفسيره إلى أن هذه المباركة بالنمار والإزهار وبسبب أنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة وفي هذه الآية تصريح واضح بقدسية المسجد الأقصى وما حوله أي بقدسية فلسطين وما حولها.
والإسراء بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم تعظيم وتكريم له وكما أورد الإمام الرازي في تفسيره لهذه الآية قال سمعت الشيخ الإمام أبا القاسم سليمان الأنصاري قال: لما وصل محمد صلوات الله عليه إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة في المعارج أوحى الله تعالى إليه يا محمد بما أشرفك؟ قال يا ربي أن تنسبي إلى نفسك بالعبودية فأنزل الله تعالى فيه سبحان الذي أسرى بعبده وفي هذا إشارة إلى مقام العبودية وارتباط هذا المقام بالإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
وجميع المفسرين للقرآن الكريم يذهبون إلى أن المسجد الأقصى وما حوله مبارك من الله تعالى ومن العجيب أن الله ربط المسجد الأقصى بالبيت الحرام وأن البيت الحرام مبارك، والمسجد الأقصى مبارك وما حوله وأن لكل منهما حرمته ووجوب تطهيره على جميع المسلمين.
إن هذه الآيات في سورة الإسراء توجه الأمة الإسلامية في سائر عصورها إلى أهمية فلسطين والمسجد الأقصى وأنه لا يجوز أن تكون هذه الأرض المباركة تحت يد محتل أو مستعمر بل من الواجب تحريرها وتطهيرها وتقديسها، وهي تعبير عن مظهر الانتصار الحقيقي للأمة الإسلامية.
كما أنها تمثل الأمن الحقيقي للأمة الإسلامية والأمة العربية على سبيل الخصوص فهي تمثل العمود الفقري لقبلة الأمة الإسلامية. والناظر في آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية والواقع التاريخي المتعلق بعلاقة الأمة الإسلامية والعربية بهذه الأرض المباركة والناظر فيما صدر عن المؤتمرات الإسلامية في وجوب تحرير هذه الأرض المقدسة . وبإمكان اي قارئ يعود الى قرارات مجمع البحوث الإسلامية ليرى القرارات التي توجب تحرير فلسطين والجهاد ضدّ العدو الصهيوني، وقد وضح المجمع ذلك في الكتاب الخامس من سلسلة البحوث الإسلامية.
والناظر أيضا في العهدة العمرية والتي أوردها ابن جرير الطبري في تاريخه وغيره من المؤرخين والتي يتبين منها بداية دخول الإسلام إلى فلسطين وعدم وجود اليهود فيها. كل هذا يوضح عروبة فلسطين وكونها إسلامية .
إضافة إلى طرد الشعب الفلسطيني المالك الحقيقي للأرض، كل هذا يقتضي على الأمة الإسلامية أن تتوحد حول قضية فلسطين المركزية.
وأن يكون توجه الأمة إلى تحرير فلسطين ونزع الغدة السرطانية في جسم الأمة الإسلامية والكرات التي ذكرتها سورة الإسراء تدعونا جميعا أن نكون من عباد الله الذين لهم شرف الإضافة إلى الذات الإلهية في قوله تعالى "عباداً لنا ". وفي قوله أولى بأسِ شديد يحتاج إلى أمة متوحدة تملك حضارة العصر بكل معانيها.
وإن مجموع الآيات الواردة في سورة الإسراء هي محل إجماع كبار المفسرين من علماء السنة والشيعة.
وأسوق مختصر ما يقوله العلامة محمد حسين الطباطبائي في تفسير قوله تعالى :"وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيرا" بعد تحقيقيه في الألفاظ الواردة ومعنى الآية وأخبرنا وأعلمنا بني إسرائيل إخباراً قاطعا وهو في التوراة : أقسم وأحق هذا القول أنكم شعب إسرائيل ستفسدون في الأرض وهي أرض فلسطين وما يتبعها مرتين مرة بعد مرة ولتعلن علوا كبيرا وتطغون طغيانا عظيما.
قوله تعالى : فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا ... تفريع على قوله "لتفسدن" وضمير التثنية راجع إلى المرتين وهما الإفسادتان فالمراد بها الإفسادة الأولى، والمراد بوعد أولاهما ما وعدهم الله من النكال والنقمة على إفسادهم فالوعد بمعنى الموعود، ومجئ الوعد كناية عن وقت إنجازه، ويدل ذلك على أن وعدهم على إفسادهم مرتين وعدين ولم يذكر انجازا فكأنه قيل: لتفسدن في الأرض مرتين ونحن نعدكم الانتقام على كل منهما فإذا جاء وعد المرة الأولى ... كل ذلك معونة السياق.وقوله "بعثنا عليكم عباداً لنا أولى بأس شديد " أي أنهضناهم وأرسلناهم إليكم ليذلوكم وينتقموا منكم، والدليل على كون البعث للانتقام والإذلال قوله: "أولي بأس شديد"
ولا ضير في عد مجيئهم إلى بني إسرائيل مع ما كان فيه من القتل الذريع والأسر والسبي والنهب والتخريب بعثاً إلهيا لأنه كان على سبيل المجازاة على إفسادهم في الأرض وعلوهم وبغيهم بغير الحق، فما ظلمهم الله ببعث أعدائهم وتأيدهم عليهم ولكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم. ويجوز أن يكون هؤلاء من عباد الله المؤمنين أو غيرهم .
وقوله "وكان وعداً مفعولا" تأكيدا لكون القضاء حتماً لازماً والمعنى فإذا جاء وقت الوعد الذي وعدناه على المرة الأولى من إفسادكم مرتين بعثنا وأنهضنا عليكم من الناس عباداً لنا أولي بأس وشدة شديدة فدخلوا بالقهر والغلبة أرضكم وتوسطوا في دياركم فأذلوكم واذهبوا استقلالكم وعلوكم وسؤددكم وكان وعداً مفعولاً لا محيص عنه.
وفي قوله تعالى: فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علو تتبيراً التتبير الإهلاك من التبار بمعنى الهلاك والدمار. وقوله "ليسوؤا وجوهكم" ... والتقدير بعثناهم ليسوؤا وجوهكم بظهور الحزن والكآبة فيها وبدو آثار الذلة والمسكنة وصغار الاستعباد عليها بما يرتكبونه فيكم من القتل الذريع والسبي والنهب.
وقوله "ليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة" المراد بالمسجد هو المسجد الأقصى – ببيت المقدس-
وقوله : "وليتبروا ما علوا تتبيراً" أي ليهلكوا الذي غلبوا عليه إهلاكا فيقتلوا النفوس ويحرقوا الأموال، ويهدموا الأبنية ويخربوا البلاد.
ومن أقوال المفسرين شيعة وسنة يتضح لنا أن على الأمة الإسلامية بكل قومياتها أن تتوحد للقيام بالمهمة الإلهية وهي تخليص العالم بأكمله لا منطقة الشرق الأوسط وحدها من أعظم ظاهرة فساد على الأرض في زماننا المعاصر وهي الظاهرة الإسرائيلية.
وإن وجود هدف مشترك يستطيع أن يجعل المسلمين جميعاً يلتفون حوله مثل قضية فلسطين، لهو عامل مهم من عدة أوجه، تاريخية وسياسية وعقائدية وثقافية ويمكن أن يصبح محوراً لكافة التحركات والاتصالات باتجاه الاتحاد والتقارب بين المسلمين إضافة إلى طرح الحل الإسلامي والمشروع السياسي الإسلامي".
ويمكن الإشارة إلى خلاصة ما مشروع الإمام الخميني لحل القضية الفلسطينية بالآتي:
1- أن إسرائيل غدة سرطانية ليس لها علاج إلا الاستئصال.
2- رفض ونبذ كل الحلول والمشاريع التي تتضمن الاعتراف بإسرائيل
3- الاتحاد والالتفاف حول محور تحرير فلسطين.
4- نبذ الخلافات والتفرقة والتجمع حول محور القضية الفلسطينية.
5- دعوة الحكام جميعاً إلى السير في هذا الإطار.
6- دعوة الشعوب الإسلامية إلى الأخذ بدورها في الجهاد بجميع أشكاله، فهي القادرة على حل مشاكلها.
7- نصرة الشعب الفلسطيني وعودته إلى أرضه.
وهذه الحقائق التي وضحها الإمام الخميني هي محل إجماع كبار علماء السنة وخاصة من مشايخ الأزهر، وعلماء الشيعة وجميع الأحرار في العالم الإسلامي.
وقد صدرت الفتوى سمة 1956م عن اللجنة الفتوى بالجامع الأزهر وكانت برئاسة الشيخ حسين مخلوف عضو جماعة كبار العلماء ومفتي الديار المصرية.
وعضوية السادة أصحاب الفضيلة الشيخ عيسى منون عضو جماعة كبار العلماء وشيخ كلية الشريعة الشافعي المذهب والشيخ محمود شلتوت عضو جماعة كبار العلماء الحنفي المذهب، والشيخ محمد الطنيخي عضو جماعة كبار العلماء ومديرا الوعظ والإرشاد المالكي المذهب والشيخ محمد عبد اللطيف السبكي عضو جماعة كبار العلماء ومدير التفتيش بالأزهر بحضور الشيخ زكريا البري أمين الفتوى.
وقد نشرت هذه الفتوى وعلقت عليها ستة 1979م وقمت بالرد على العلماء الذين جوزوا كامب ديفيد.
وأخيراً نتوجه بالدعاء إلى الله العلي القدير أن يوحد الأمة الإسلامية وان يهزم أعدائها وان يعيد شعب فلسطين إلى أرضه سالماً غانماً منتصراً وان ينصر الله جميع الشعوب المظلومة على وجه هذه الأرض.
والله ولي التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
[1]صفنيا، الأصحاح ،2 آية 1 .
[2]التوارة أصفار التكوين الأصحاح 14 آية 18.
[3]انظر الصهيونية العلمية وإسرائيل صفحة 147 تأليف الدكتور حسن ظاظا.
[4]انظر ملف وثائق فلسطين صفحة 1232.
[5]الجامع الصغير جـ1، ص 227.
[6]معجم البلدان 1 إلى 112 والانس الجليل 1 إلى 311 واعلام المستجد 283
[7]تاريخ الطبري 265 والانس الجليل1-172.
[8]رواه بخاري.
[9]اعلام العرب ص 289.
[10]إعلام المساجد ص 286-296.
[11]الأنس الجليل 1-211.
[12]اعلان المساجد 286.