فلسطين محطة في الجهاد المعاصر
فلسطين محطة في الجهاد المعاصر
الدكتور الشيخ عبداللّه حلاق
بسم الله الرحمن الرحيم
المنظمة الصهيونية
أنشئت منظمة الصهيونية العالمية في مؤتمر بال الذي عقد في سويسرا في آب سنة 1897م من قبل المؤتمر اليهودي العالمي([1])، حيث أقر في هذا المؤتمر إقامة الدولة اليهودية في فلسطين، وأخذت الصهيونية على عاتقها هذه المهمة. وتحركت من أجل تنفيذ هذا الهدف، مستندة إلى الادعاءات التوراتية والتاريخية والسياسية التالية:
أولاً: الإدعاءات التوراتية:
عمل أحبار اليهود وحاخاماتهم على تحريف التوراة وتبديل نصوصها بعد إخفائها فترة طويلة من الزمن، وخلال هذه الفترة دسوا فيها الكثير من النصوص المفتراة، وأخفوا وحذفوا الكثير منها، ولهذا قال تعالى بحقهم: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه) ([2]).
وتضمنت النصوص المفتراة وعوداً تتكلم عن إعطاء اليهود وتمليكهم فلسطين وما حولها.. وهذه النصوص هي التي استند إليها اليهود في احتلالهم لفلسطين أمام الرأي العام العالمي عامة، ونصارى العالم على وجه الخصوص، الذين يظنون بوعود التوراة (العهد القديم) التي بين أيديهم بأنها نبوءة دينية.
وبدراسة معمقة لهذه النصوص في مصادرها يظهر لنا، وبشكل جلي واضح، ضعفها وتناقضها وتهافتها أمام البحث العلمي:
1- تشير هذه النصوص، ابتداءً بأن (الرب) ([3])، قد وعد إبراهيم (عليه السلام) بإعطائه الأرض التي يشاهدها من مكانه شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، «وقال الرب لإبراهيم بعدما فارقه لوط ارفع طرفك وأنظر من الموضع الذي أنت فيه شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، إن جميع الأرض التي تراها لك أعطيها»([4]). والمدقق في هذا النص يعلم أن مساحة الأرض التي يمكن أن يراها إبراهيم(عليه السلام) لا يمكن أن تتجاوز حدود عشرة أو خمسة عشر كليومترات، وهي لإبراهيم(عليه السلام) ([5]).
فتحايلوا على النص وأضافوا جملة يحصلون بموجبها على تلك الأرض «فتجلى الرب لإبراهيم وقال: لنسلك أعطي هذه الأرض»([6]).
2- ولكن الخمسة عشر كيلومتراً من الأرض لا تكفي طمع وجشع اليهود، فلابد إذا من نصوص أخرى، تشمل فلسطين أرض كنعان، فغيروا بالوعد الذي أعطي لإبراهيم(عليه السلام) «وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك مدى أجيالهم عهد الدهر لأكون لك إلهاً ولنسلك من بعدك، وأعطيك أرض غربتك لك ولنسلك من بعدك جميع أرض كنعان ملكاً مؤبداً»([7]). وحتى ثبت هذا الأمر بأن فلسطين وأرض كنعان هي ملكهم بعد إبراهيم (عليه السلام)، أضافوا هذا القول «فمضى إسحاق إلى أبيملك ملك فلسطين في جرار، فتجلى له الرب وقال لا تنزل إلى مصر بل أقم بالأرض التي اعيّنها لك، انزل هذه الأرض وأنا أكون معك وأباركك لأني لك ولنسلك سأعطي جميع هذه البلاد»([8]).
3- ثم بدلوا وحرفوا ونقلوا الوعد من بعد إسحاق إلى يعقوب(عليهم السلام)«فقال الرب: إله إبراهيم أبيك وإله إسحاق. الأرض التي أنت نائم عليها لك أعطيها ولنسلك، ويكون نسلك كتراب الأرض وتنمو غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً»([9]).
4- وبعد ذلك يحولون الوعد إلى موسى(عليه السلام) «وقال الرب لموسى: هلم فاصعد من هاهنا أنت والشعب الذين أخرجتم من أرض مصر إلى الأرض التي أقسمت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب قائلاً لنسلك أعطيها، أسير أمامك ملاكاً وأطرد الكنعانيين والأموريين والحثيين والفرزيين والحوبيين واليبوسيين، إلى أرض تدر لبناً وعسلاً([10]).
ومن خلال هذا التحليل لنصوص التوراة التي بين أيدي اليهود، نرى التحريف والتبديل والتلاعب في الكلم، التي تكشف وتدحض ادعاءات اليهود المزيفة في أرض فلسطين.
ثانياً: الإدعاءات التاريخية:
لقد استند اليهود في دعوتهم لإقامة دولة إسرائيل، إضافة للنصوص المزيفة في التوراة، إلى ادعاءات الوجود التاريخي في هذه الأرض منذ ألفي سنة، وأنهم ليسوا أغراباً عنها. وقد طرح اليهود هذه الادعاءات من خلال المذكرة التي قدمتها الصهيونية إلى مؤتمر الصلح الذي عقد في باريس في 23 شباط سنة 1919م، وهي التالية:
أ - فلسطين هي الوطن التاريخي لليهود، حيث طردوا منه بالقوة ولم ينقطع توقعهم وأملهم عبر العصور في العودة.
ب - الأحوال المعيشية السيئة التي يتردى بها ملايين اليهود في أوروبا الشرقية تولد الحاجة الملحة إلى متنفس، وفلسطين هي البلد الذي يقع عليه خيار الجماهير اليهودية، إذ يمكن تحويلها وتطويرها إلى موطن للرخاء والازدهار يملك القدرة على استيعاب عدد من السكان يفوق عدد سكانها الحاليين أضعاف المرات.
ج - إن فلسطين لا تتسع لجميع يهود العالم البالغ عددهم 14 مليوناً. غير أن الجزء الذي يشترك في تأسيس الوطن القومي اليهودي بفلسطين سوف تكون له قيمة عالية في نظر يهود العالم، ويلهم الملايين البائسة بأمل جديد واضعاً نصب أعينهم مثالاً أعلى.
د - فلسطين اليهودية لها قيمتها بالنسبة للعالم كله، إذ يقوم غنى العالم الحقيقي على التنوع الثقافي للمدنيات والحضارات.
هـ - الأرض بالذات تحتاج إلى خلاص وافتداء، حيث ترك معظمها للإهمال والجدب. والافتداء يلزمه حكومة مستقرة ومستنيرة، بالإضافة إلى نشاط اليهود وذكائهم والطاقات المالية الضخمة التي لا غنى عنها في حقل التنمية والتطور([11]).
إن عودة إلى تاريخ المنطقة ترينا أن اليهود لم يستقروا في مكان لفترات طويلة، بل إنهم كانوا في ترحال مستمر.. وإن الوجود التاريخي الفعلي للعبريين القدماء في فلسطين، يبدأ من ذلك الوقت الذي توج فيه الملك شاؤول على كل إسرائيل. والفترة التي تلت ذلك حُكم داوود وسليمان(عليهم السلام)حيث بلغت هذه المدة إجمالاً مائة عام. وبعد سليمان تمزق الملك وأصبح الوجود العبري في فلسطين من الناحية السياسية وجوداً ضعيفاً مهدداً بالزوال. وعلى ذلك فإن الفترة التي قامت فيها لليهود في فلسطين القديمة قائمة تاريخية وسياسية واجتماعية يعترف بها التاريخ لا تتعدى كلها قرناً واحداً من الزمن.
والثابت من التاريخ أن دولة اليهود قد فقدت كيانها السياسي نهائياً منذ القرن الأول الميلادي، عندما احتل الرومان سوريا وفلسطين. ولم يسمع بعد ذلك بقيام دولة يهودية في فلسطين. كما إن اليهود لم يعودوا منذ ذلك التاريخ إلا مجرد أقلية ضئيلة بالنسبة لسكان فلسطين، وفي ذلك يقول المؤرخ رانياش: «لقد اجتمعت كلمة كثير من المؤرخين، وتؤيدهم في ذلك الحفريات والآثار، على أن اليهود كانوا منتشرين منذ القرن الأول للميلاد في جميع جهات حوض البحر المتوسط، ومنذ ذلك الزمن البعيد لم تبق لهم صلة بفلسطين، وتلك الحقيقة تدحض حجج اليهود وتشير إلى عدم وجود علاقة قانونية يمكن أن يزعمها اليهود بالنسبة لفلسطين لأن اليهود أتوا إلى فلسطين ولم تكن خالية، بل يسكنها العرب، وحينما خرجوا منها استمر الوجود العربي بها دون انقطاع لآلاف السنين»([12]).
ثالثاً: الإدعاءات السياسية:
توجه ثيودور هرتزل([13])، سنة 1902م ناحية الدولة العثمانية من أجل إقناع السلطان عبد الحميد الثاني بضرورة وأهمية إعطاء موطئ قدم لليهود في فلسطين، ولما رفض السلطان ذلك، أوصى هرتزل لجنة الأعمال الصهيونية بأن لافائدة من تركيا، وينبغي التوجه لكسب عطف الحكومة الإنكليزية على الصهيونية. وعملت الصهيونية بهذا الاتجاه فأثمرت اتصالاتها مع الحكومة الإنكليزية سنة 1917م، وحصلت على تصريح آرثر بلفور، وزير الخارجية الإنكليزي، الذي جاء فيه: «عزيزي اللورد روتشيلد... يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية. وقد عرض على الوزارة وأقرته.. إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهودها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في الدول الأخرى.. وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح»([14]).
إن هذا التصريح الذي أقرته الحكومة الإنكليزية يعتبر من الفضائح السياسية والقانونية على صعيد القانون الدولي، وذلك للأسباب التالية:
1- يعتبر هذا التصريح من قبل إنكلترا خروجاً، بل ونقضاً لنظام الانتداب الذي يحدد دور الانتداب بمساعدة الشعب المنتدب إدارياً وسياسياً، وتأهيله حتى يحكم نفسه بنفسه، لا أن تأتي دولة الانتداب بشتات شعوب تعتدي - بمساعدة دولة الانتداب - على الشعب والأرض الفلسطينية.
2- إن هذا التصريح يعتبر وعداً بـإقامة وطن قومي يهودي على أرض المسلمين، (وهي أرض الغير) وهو بمثابة إعطاء أرض ممن لا يملك إلى من لا حق له.
3- يعتبر هذا العمل اعتداءً صارخاً على أرضالمسلمين. وهذا الوعد ليس له قيمة من الناحية القانونية على الصعيدالدولي، وهو لا يلزم المسلمين بأية تبعة أو مسؤولية أو التزام قانوني أو سياسي في هذا المجال. وهناك العشرات من القرارات الدولية التي صدرت عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي التي لا تعترف باحتلال أراضي الغير.
محطات على طريق الجهاد
عملت إنكلترا على تسهيل ودعم الغزو اليهودي لفلسطين، الأمر الذي أدى إلى قيام مواجهات حادة وشاملة بين المسلمين واليهود، وعبر محطات عدة، من أهمها:
أولاً: ثورة البراق:
لقد قامت ثورة البراق سنة 1929م ضد اليهود من أجل وضع حد لاعتداءاتهم على حرمات المسجد الأقصى وعلى المصلين، حيث واجه المسلمون اليهود في قلة من السلاح، في حين كان اليهود مدججين بكل أنواع السلاح بدعم من إنكلترا «خاض المسلمون ثورة البراق وهم عزّل من السلاح. ودونما تنظيم، ولا قيادة واحدة، في حين كان البريطانيون قد قطعوا شوطاً في تنظيم اليهود وتسليحهم وقيادتهم. وعلى الرغم من ذلك، فقد كانت خسائر اليهود أكبر من خسائر العرب، إذ سقط من اليهود 133 قتيلاً، بالإضافة إلى 339 جريحاً كانت جراح 198 منهم بالغة، استوجبت إدخال أصحابها إلى المستشفيات. فيما كان عدد شهداء المسلمين 168 شهيداً، بالإضافة إلى 232 جريحاً. وكان من المفروض أن تنصرف الإدارة البريطانية بعد عودة الهدوء إلى البلاد، إلى البحث عن أسباب للحد من أسباب الانفجار، غير أن الإدارة البريطانية جعلت من ثورة البراق قاعدة للانطلاق نحو مرحلة جديدة في تكوين الدولة اليهودية»([15]).
ثانياً: مؤتمر القدس الإسلامي:
لقد عقد هذا المؤتمر سنة 1931م من أجل دراسة سبل مواجهة التآمر الإنكليزي والغزو الاستيطاني اليهودي لفلسطين. وضم المؤتمر كبار رجالات الإسلام وعلمائه، وحضروا من أكثر من 22 بلداً عربياً إسلامياً، وكان سماحة مفتي فلسطين الشيخ محمد أمين الحسيني على رأس العاملين في هذا المجال، وبعد مداولات عديدة اتخذ المؤتمر القرارات التالية:
1- أكد المؤتمر على قدسية المسجد الأقصى والأماكن المجاورة له، بما في ذلك البراق.
2- كما أعلن عن اهمية فلسطين بالنسبة إلى العالم الإسلامي.
3- وشجب المؤتمر السياسة البريطانية الصهيونية في فلسطين.
4- ودعا العالم الإسلامي إلى مقاطعة البضائع الصهيونية.
5- ونادى المؤتمر بوجوب وقف الهجرة اليهودية.
6- وقرر إنشاء جامعة إسلامية تسمى جامعة المسجد الأقصى.
7- وقرر إنشاء شركة أراض إسلامية لإنقاذ الأراضي العربية والحيلولة دون سقوطها في أيدي الصهيونيين([16]).
ثالثاً: فتوى تحريم بيع الأرض لليهود:
وفي 26 كانون الثاني 1935م، اجتمع المفتون والقضاة والمدرسون والخطباء والأئمة والوعاظ وسائر علماء المسلمين في فلسطين، وكان عددهم 135، فتدارسوا وتباحثوا في مسألة بيع الأراضي لليهود من الناحية الشرعية، وأفتوا بحرمة بيع أراضي فلسطين لليهود، جاء فيها: «أما بعد، فإننا نحن المفتين والقضاة والمدرسين والخطباء والأئمة والوعاظ وسائر علماء المسلمين ورجال الدين([17])، في فلسطين، المجتمعين اليوم في الإجماع الديني المنعقد في بيت المقدس بالمسجد الأقصى المبارك حوله. بعد البحث والنظر فيما ينشأ عن بيع الأراضي في فلسطين لليهود من تحقيق مقاصد الصهيونية في تهويد هذه البلاد الإسلامية المقدسة، وإخراجها من أيدي أهلها، وإجلائهم عنها وتعفية أثر الإسلام منها بخراب المساجد والمعابد والمقدسات الإسلامية.. وبعد النظر في الفتاوى التي أصدرها المفتون وعلماء المسلمين في العراق ومصر والهند والمغرب وسوريا وفلسطين والأقطار الإسلامية الأخرى، والتي أجمعت على تحريم بيع الأرض في فلسطين لليهود.. «إن بائع الأرض لليهود في فلسطين، سواء أكان ذلك مباشرة أو بواسطة، وإن السمسار والمتوسط في هذا البيع والمسهل له والمساعد عليه بأي شكل مع علمهم بالنتائج المذكورة، كل أولئك ينبغي أن لا يصلى عليهم ولا يدفنون في مقابر المسلمين، ويجب نبذهم ومقاطعتهم واحتقار شأنهم وعدم التودد إليهم والتقرب منهم»([18]).
رابعاً: ثورة الشيخ عز الدين القسّام:
بعد سنوات من الدعوة إلى توحيد الكلمة وجمع الشمل ونبذ الفرقة، اتفق الشيخ عز الدين القسام، خطيب الجمعة في مسجد الاستقلال في حيفا، مع نفر من إخوانه على رفع راية الثورة الإسلامية في مواجهة الإنكليز واليهود، وكان القسام يختار إخوانه من أهل الدين والإيمان والصدق، ويعمل على تعبئتهم التعبئة الإسلامية في أبعادها الروحية والسياسية، ويدربهم على السلاح في سرية تامة، وكان يقوم معهم بعمليات عسكرية محدودة في بعض الأماكن ضد اليهود، دون الإعلان عن الجهة التي تقوم بذلك. وفي ليل 12 تشرين الثاني 1935م تقرر إعلان الثورة.. وباع إخوان القسام بعض أثاثهموحلي نسائهم، واشتروا بثمنها بنادق ورصاصاً، توجهوا إلى جبال يعبد، القريبة من مدينة حيفا والمشرفة على مرسى الأسطول البريطاني، غير عابئين بقوة بريطانيا المسلحة. وكان ذلك برهاناً على أنالرجال قد اختاروا مصيرهم، وأنهم ماخرجوا إلا بحثاً عن الشهادة في سبيل الله وابتغاء رضوانه. وقد عرف عن رجال القسام أن كل واحد منهم كان يحمل معه القرآن الكريم، يتخذ من آياته هادياً ومرشداً، ويرى السعادة كل السعادة في بلوغ مرتبة الشهادة ولقاء ربه الذي لا يخلف وعده للشهداء المجاهدين في سبيله، وحتى تبقى كلمة الله على الأرض هي الكلمة العليا.
وخرج الشيخ مع إخوانه.. وكانت المواجهة مع الجيش الإنكليزي في 20 تشرين الثاني، ورفض القسام طلب القوات المعادية (التي تفوق على القسام وإخوانه في العدد والعدة) بالاستسلام وقال: «إننا لن نستسلم. إن هذا جهاد في سبيل الله والوطن».. ودارت معركة استمرت ساعات، وانتهت باستشهاد القسام وعدد من إخوانه»([19]).
وبعد هذه الشهادة، بدأت تعلو أمواج الثورة الجهادية الإسلامية في ربى وقرى ومدن فلسطين ضد المستعمر الإنكليزي والمستوطن اليهودي، ويتابع الشيخ فرحان السعدي عمل القسام في قيادة الثورة([20]).
وتطورت وتصاعدت المواجهات ضد الجيش الإنكليزي واليهود، حتى وصلت إلى مشاركة معظم الشعب المسلم في فلسطين فيها ابتداءً من سنة 1936م، حيث قامت معارك هامة «ففي المدينة كان العمال والطلاب والموظفون والتجار، وحتى رجال الشرطة العربيساهمون بشكل أو بآخر في الإضراب والعصيان المدني وفي العمليات العسكرية، وفي القرية كانت حرب العصابات، بكل ما تقتضيه هذه الحرب من مشاركة جماهيرية وبكل ما تتطلبه من أعباء، كان معظم الثوار من أهالي القرى، وكان سكان القرى يوفرون لهم الإيواء والطعام والماء والاستطلاع والحراسة.. وكانت القرويات يساندن الثورة والعمليات العسكرية بكل بسالة، فيحملن على رؤوسهن الماء والطعام ويتبعن المقاتلين من مكان إلى مكان، ويسعفن الجرحى.. وكان جميع سكان القرى يهرعون إلى الطرق التي تدور فيها المعارك فيغلقونها في وجه الجيش البريطاني بالحجارة ولمسافة عدة كليومترات»([21]).
سجل الإرهاب اليهودي
من أجل الإسراع بـإقامة دولة إسرائيل، ارتكب اليهود مجازر وحشية بحق المسلمين في فلسطين بهدف ترحيل العدد الأكبر من السكان إلى البلاد العربية المجاورة «انقضت قوات مكونة من جنود (الأراغون والشترن) ([22])، صبيحة يوم الجمعة 9 إبريل - نيسان - 1948م على قرية دير ياسين، والدليل على ذلك أن الروايات والتفسيرات المتناقضة التي أفضى بها الإرهابيون بعد وقوعها، لم تقنع أحداً ولا تفسر وجوب اغتيال 250 عربياً من بينهم أكثر من 100 امرأة وطفل.. سوف تبقى مجزرة دير ياسين ذات أهمية من الوجهة التاريخة، حيث أنها تشكل بداية المرحلة التي أراد الإرهابيون أن يخدموا بها قضيتهم ويبرروا بها عملياتهم. فكما أنهم يرجعون سبب إجلاء القوات البريطانية عن فلسطين إلى هجماتهم الإرهابية، فإنهم يعتبرون أن مجزرة دير ياسين كانت العامل الحاسم الذي نشر الفزع والذعر والإرهاب بين السكان العرب وعجّل في تشريد من بقي منهم. وهكذا فقد كان من نتائج هذه المجزرة حدوث حركة التشريد الإرادي بين السكان العرب للسهول الساحلية»([23]).
ومن أهم هذه المجازر التي ارتكبها اليهود في فلسطين بحق المسلمين بعد دير ياسين على مرأى ومسمع من العالم المتمدن هي التالية:
1- مجزرة الدوايمة.. في 28/10/1948: قام أفراد الكتيبة 89 التابعة لمنظمة «ليحي» الإرهابية، بقيادة موشي ديان، بارتكاب مجزرة جماعية ضد سكان قرية الدوايمة التي تقع غربي مدينة الخليل أسفرت عن مقتل مئات الأشخاص من أبناء القرية، وظلت هذه المجزرة طي الكتمان إلى أن كشفت عنها مراسلة صحيفة حدا شوت في سبتمبر - أيلول - 1984([24]).
2- وفي صباح اليوم التالي للمجزرة، 29/10/1948 مرت المصفحات الصهيونية بالقرب من مسجد الدراويش في القرية، وكان بداخله حوالي 75 مسناً يستعدون لأداء الصلاة، فقاموا بقتلهم جميعاً بالمدافع الرشاشة، وفي ساعات بعد الظهر اكتشفت القوات المهاجمة المغارة الكبيرة التي اختبأ بداخلها ما يزيد عن 35 عائلة، فأطلقت النيران عليهم وقتلتهم جميعاً داخل المغارة([25]).
3- مجزرة قبية.. في 14 - 15/10/1953: قامت قوة إسرائيلية تعادل نصف كتيبة تقريباً، مؤلفة من جنود الفرقة 101، تحت إمرة أرييل شارون بالهجوم على قرية قبية، فنسفت 41 بيتاً ومدرسة، وقتلت 69 رجلاً وامرأة وطفلاً بصورة وحشية، وإن الذي أعطى الأوامر لتنفيذ هذه المذبحة هو دافيد بن غوريون([26]).
4- مجزرة كفر قاسم.. في 29/10/1956: والتي وقعت عشية العدوان الثلاثي على مصر 1956، ارتكبت العصابات الصهيونية مجزرة دموية في كفر قاسم راح ضحيتها 49 قتيلاً و13 جريحاً، وبين القتلى 12 امرأة و 10 شبان بين (8 - 13) عاماً، ويعتبر شيمون بيريز مسؤولاً عن هذه المجزرة، إذ كان يشغل في ذلك الوقت منصب نائب وزير الحرب الصهيوني([27]).
5- مجزرة حي الشجاعية بغزة.. في 26/12/1987: سقط خلالها 4 عمال فلسطينيين، بعد أن دهستهم سيارة إسرائيلية، وأدت إلى تفجير شرارة الانتفاضة([28]).
6- مجزرة المسجد الأقصى.. في 13/4/1990: نفذها جنود إسرائيليون وسقط خلالها 22 قتيلاً([29]).
7- مجزرة الحرم الإبراهيمي.. في 25/2/1994: نفذتها مجموعة من المستوطنين يتزعمهم المستوطن «جولشتاين» وأدت الى استشهاد ما يربو على 60 فلسطينياً، وجرح نحو 300 آخرين([30]).
الشهادة الطوعية من منظور إسلامي
على إثر العمليات الاستشهادية التي قام بها المجاهدون في فلسطين من حماس والجهاد الإسلامي وما نتج عنها من مقتل عدد كبير من اليهود، وما أدت إليه من انعكاسات معنوية وسياسية إيجابية امتدت لتشمل ساحة العالم الإسلامي،في هذا الوقت تواترت الأسئلة حول جواز هذه العمليات من الناحية الشرعية.
ومن خلال دراسة المسألة وأدلتها الشرعية من مظانها، يظهر لنا جواز هذه العمليات الاستشهادية إن كانت نية صاحبها خالصة لوجه الله، وكان يهدف منها نكاية العدو، وفي ذلك يقول الدكتور عجيل النشمي([31])، «وقد نص الفقهاء على جواز هذا الفعل اهتداءً وفهما لنصوص الآيات والأحاديث والآثار.. فقد نص الحنفية على جواز ذلك، وقال الجصاص: «لو أن رجلاً حمل على ألف رجل وهو وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية، فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية فإني أكره له ذلك، لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين، وإنما ينبغي للرجل أن يفعل هذا إذا كان يطمع في نجاة أو منفعة للمسلمين، فإن كان لا يطمع في نجاة أو نكاية ولكنه يجرئ المسلمين بذلك حتى يفعلوا مثل ما فعل فيقتلون وينكلون في العدو فلا بأس، وأرجو أن يكون فيه مأجوراً» (أحكام القرآن للجصاص - 1 / 309).
وقال المالكية في نص خليل والدردير: «وجاز إقدام المسلم على كثير من الكفار إن لم يكن قصده ليظهر شجاعته، بل لإعلاء كلمة الله، وأن يظهر تأثيره فيهم، والظاهر أن الشرط الأول للكمال، لأنه يجوز الافتخار في الحرب، فمفهومه الكراهة فقط» - (الدسوقي - 2/183).
واعتبر ابن تيمية جواز ذلك من باب ترجيح مصلحة الدين، فقال: روى مسلم في صحيحة عن النبي(صلى الله عليه وآله) قصة أصحاب الأخدود وفيها: «أن الغلام أمر بقتل نفسه لأجل مصلحة ظهور الدين، ولهذا جوز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه، إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين» - (الفتاوي - 28/540) ([32]).
وفي هذه المسألة يقول الدكتور عبد الرزاق خليفة الشايجي([33])، «لقد بحث فقهاؤنا هذه المسألة تحت حكم «حمل الفرد الواحد على الجماعات من العدو» حيث ذهب كثير من السلف إلى القول بجواز مثل تلك العمليات الاستشهادية بضوابط، سواء غلب على ظن المقاتل أنه سينجو بنفسه أم لا، وإنما اشترطوا فقط أن تكون بنية خالصة وأن يكون في عمليته تلك إيصال نفع للمسلمين أو إلحاق نكاية بالعدو واستدلوا على ذلك بالآتي:
أولاً: ماجاء في صحيح مسلم: (عن أنس ابن مالك أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أفرد يوم (أحد) في سبعة من الأنصار، ورجلين من قريش، فلما رهقوه - قربوا منه - قال: من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضاً، فقال من يردهم عنا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة: فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله)لصاحبيه: ما أنصفنا أصحابنا).
ثانياً: وكذلك يوم اليمامة. لما تحصنت بنو حنيفة بالحديقة قال رجل من المسلمين وهو البراء بن مالك: ضعوني في الجحفة - ترس يتخذ من الجلود - وألقوني إليهم، ففعلوا، فقاتلهم وحده وفتح الباب([34]). ويرى الدكتور يوسف القرضاوي بأن هذه العمليات جائزة بقوله في هذا الشأن «أن يصبح المجاهد قنبلة بشرية تنفجر في مكان معين وزمان معين في أعداء الله والوطن، الذين يقفون عاجزين أمام هذا البطل الشهيد، الذي باع نفسه للّه، ووضع رأسه على كفه، مبتغياً الشهادة في سبيل الله.. فهؤلاء الشباب يدافعون عن أرضهم - وهي أرض الإسلام - وعن دينهم وعرضهم وأمتهم.. إنما هم شهداء حقاً بذلوا أرواحهم وهم راضون في سبيل الله. مادامت نياتهم خالصة للّه، وما داموا مضطرين لهذا الطريق لإرعاب أعداء الله، المصرين على عدوانهم، المغرورين بقوتهم وبمساندة القوى الكبرى لهم.. فهم يقاومون - مقاومة - من احتلأرضهم وشردهم وشرد أهلهم واغتصب حقهم، وصادر مستقبلهم، ولازال يمارس عدوانه عليهم، ودينهم يفرض عليهم الدفاع عن أنفسهم، ولا يجيز لهم التنازل باختيارهم عن ديارهم، التي هي جزء من دار الإسلام الكبرى»([35]).
وفي جواز هذه العمليات أصدر 27 عالماً من علماء الأردن وعلى رأسهم الدكتور أحمد نوفل، فتوى شرعية، جاء فيها:
1- إن اليهود الجاثمين على أرض فلسطين اليوم في حكم الشرع الإسلامي كفار وأعداء ومحاربون ومغتصبون، اغتصبوا كل أرض فلسطين بما فيها القدس، وأقاموا عليها كيانهم المغتصب ودولتهم، واعتقدوا ولا يزالون بأن القدس عاصمة دولتهم اليهودية إلى الأبد.
2- المدنيون اليهود على أرض فلسطين هم كفار وأعداء ومحاربون ومغتصبون، وهم جنود مقاتلون يلبون نداء الاعتداء والإرهاب من الحكومة اليهودية ويعرفون مواقعهم القتالية والعسكرية التي أعدت، وهم جنود احتياطيون في أي حرب أو قتال.
3- المدنيون اليهود على أرض فلسطين حاربوا أهل فلسطين وسفكوا دماء الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال أو ساعدوا في ذلك بالمال أو الرأي.
4- المدنيون اليهود والعسكريون وهم جميعاً في حكم العسكريين أخرجوا أهل فلسطين المسلمين وغير المسلمين من ديارهم، واستولوا عليها وتملكوها غصباً وسكنوها واستثمروها.
5- اليهود سواء كانوا مدنيين أو عسكريين الآن في حقيقتهم غرباء على فلسطين جاؤوا من أصقاع الدنيا إلى فلسطين على أساس فكرة دينية يهودية خلاصتها أن فلسطين أرض الميعاد، وأنه لابد من هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل مكانه. ولابد من احتلال بلاد المسلمين من النيل إلى الفرات لإقامة دولتهم عليها.
وبناء على هذه المعطياتالواقعية فإن الحكم الشرعي في هؤلاء اليهود المحاربين الغاصبين المحتلين هو وجوب قتالهم وإخراجهم من فلسطين وحرمة موالاتهم، قال تعالى: (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) ([36]).
وقال تعالى: (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم)([37]).
أما العمل الاستشهادي فهو مشروع وجهاد يؤجر عليه صاحبه أجر المجاهدين، وإن استشهد فإن له عند الله منزلة الشهداء.. إن هؤلاء المجاهدين الاستشهاديين الذين يطلبون الشهادة ويرجون ثواب الشهداء ومنزلتهم عند الله لم ييأسوا من رحمة الله ولم يجزعوا من الموت، بل صبروا على لأواء الطريق بنفوس مفعمة بالإيمان وقلوب مملوءة بخشيته سبحانه، والشرع الإسلامي يشجع مثل هذه العمليات الاستشهادية على أرض فلسطين([38]).
وننتهي إلى تلخيص أقوال وآراء الفقهاء والعلماء وفتاواهم في الشهادة الطوعية إلى التالي:
أولاً: إن هذه العمليات مشروعة لأنها نوع من أنواع الجهاد الذي يستهدف تخليص أرض الإسلام والمسلمين من أيدي المحتلين.
ثانياً: إن اليهود في فلسطين أعداء ومحاربون ومشاركون في قتل المسلمين سواء بالمال أو الرأي أو اليد، ولهذا وجب قتالهم وإخراجهم من أرض الإسلام دون استثناء.
ثالثاً: إن الإسلام يقرر مواجهة الغزاة والمعتدين على أرض الإسلام والمسلمين وإن أدى إلى قتل المعتدين عسكريين كانوا أم مدنيين، ويقرر قتل كل مدني أسهم في الحرب برأي أو مال أو جهد.
رابعاً: إن هذه العمليات جائزة إن كان أصحابها يريدون بها إعلاء كلمة الله عز وجل، ويستهدفون منها نكاية العدو وكسر شوكته، ويتحصل منها فائدة للمسلمين.
خامساً: ينبغي للقيام بهذه العمليات أن تقيد برأي العلماء وفتاواهم الشرعية، ولا يترك للفرد تقدير المصالح والمفاسد التي يمكن أن تنتج عن هذه العمليات.
سادساً: إن أصحاب العمليات الاستشهادية، إن التزموا بهذه المعطيات، فإنني أرجوا الله عز وجل أن يتقبل أعمالهم وشهادتهم.
الانتفاضة عتبة الحل الإسلامي
أوقفت منظمة التحرير الفلسطينية القتال مع اليهود في 9/9/1992، واعترفت بـإسرائيل وألغت مواد أساسية من الميثاق الوطني الفلسطيني من خلال رسالة بعثها رئيس المنظمة([39])، إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي([40])، جاء فيها: «السيد رئيس الوزراء.. إن توقيع إعلان المبادئ مؤشر على مرحلة جديدة في تاريخ الشرق الأوسط ومن هذه القناعة فإنني أود أن أؤكد على الالتزامات التالية:
تعترف منظمة التحرير الفلسطينية بحق إسرائيل في أن توجد بسلام وأمان.. تقبل منظمة التحرير الفلسطينية قراري مجلس الأمن (242/338).. تلتزم منظمة التحرير الفلسطينية أن توقيع إعلان المبادئ يشكل حدثاً تاريخياً، كما يدشّن حقبة جديدة للتعايش السلمي الخالي من العنف وجميع الأعمال الأخرى، التي تهدد السلام والاستقرار، وبناء عليه فإن المنظمة تنبذ اللجوء إلى الإرهاب وأعمال العنف الأخرى، وسوف تتحمل مسؤوليتها إزاء جميع عناصر وأفراد منظمة التحرير الفلسطينية من أجل ضمان امتثالهم، ولمنع المخالفات والمخالفين للنظام.
وبالنظر إلى آفاق هذه المرحلة الجديدة وتوقيع إعلان المبادئ، واستناداً إلى الموافقة الفلسطينية على قراري مجلس الأمن (242/339)، فإن المنظمة تؤكد أن تلك المواد الواردة في الميثاق، والتي ترفض حق إسرائيل في أن توجد، وكذلك بنود الميثاق التي لا تنسجم مع الالتزامات الواردة في هذه الرسالة تصبح الآن غير عاملة وليست سارية المفعول»([41]).
ويرفض المسلمون في فلسطين وخارجها هذا التوجه السياسي «الرسمي» العربي والفلسطيني، ويتمسكون بفتوى علماء المسلمين في الأزهر التي صدرت سنة 1956، والتي تحرم الصلح والاعتراف بـإسرائيل، وقد جاء فيها: «إن الصلح مع إسرائيل لا يجوز شرعاً لما فيه من إقرار للغاصب على الاستمرار في غصب ما اغتصبه وتمكينه والاعتراف بحقية يده على المعتدي من البقاء على عدوانه.. فلا يجوز للمسلمين أن يصالحوا هؤلاء اليهود الذين اغتصبوا أرض فلسطين واعتدوا فيها على أهلها وعلى أموالهم، بل يجب على المسلمين أن يتعاونوا جميعاً على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأجناسهم، لرد هذه البلاد إلى أهلها.. ومن قصّر في ذلك أو فرط فيه أو خذل المسلمين عن الجهاد أو دعا إلى ما من شأنه تفريق الكلمة وتشتيت الشمل والتمكين لدول الاستعمار من تنفيذ مخططهم ضد العرب والإسلام وضد فلسطين فهو في حكم الإسلام، مفارق المسلمين ومقترف أعظم الآثام»([42]).
وتقوم الانتفاضة الإسلامية في فلسطين، من عمق ديننا، وتنطلق من المساجد، وترفع راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتنادي بشعار الله أكبر، وتسعى لقلب الطاولة السياسية للمفاوضات. ويستجيب لها الشعب بكل فئاته، «كانت صرخات وهتافات «الله أكبر» تدوي في الشوارع - حي القصبة - طوال الوقت، وكان الشبان فوق الأسطح يحذرون بعضهم بعضاً بواسطة الصفير، في حين كانت عيون الجنود تنظر باستمرار إلى أعلى الأسطح حيث ينتظرون الشر أو السوء. وفوق الأسطح كانت تحتشد أعداد من النساء الفلسطينيات، وكن يصرخن ويهتفن بشعار «الله أكبر»، وكان الجنود يردون عليهم بالشتائم.. واصطدام الجنود بحاجز حجري وإطارات مشتعلة وبوابل من الحجارة»([43]).
وحاولت إسرائيل إضعاف حركة الانتفاضة من خلال الوسائل التالية:
1- اعتقال أكبر عدد ممكن من الشبان والفتيان وبروز ظاهرة اعتقال الأحداث من الأطفال.
2- تعمد قتل وجرح المسلمين الفلسطينيين خلال عمليات المواجهة، حيث كان للرصاص المطاطي والبلاستيكي تأثيره الخطير، لأنه يفتك بعظام الإنسان ويخرب جسده، كما كان للمواد السامة والغاز المسيّل للدموع تأثيرات جسيمة في الأطفال والنساء.
3- تجنيد كتائب من المستوطنين اليهود في الضفة الغربية وقطاع غزة لتكون بمثابة قوات الاحتياط التي تمارس الإرهاب والتصفيات ضد الفلسطينيين.
4- الاعتداء على المقدسات الإسلامية، حيث صادقت الحكومة الإسرائيلية في أيار 1990 على تعيين لجنة جديدة لأمناء الوقف الإسلامي في مدينة حيفا تكون غالبية أعضائها من اليهود!. ومصادرة الشرطة الإسرائيلية لوثائق المحكمة الشرعية في القدس الشرقية، وهي المتعلقة بملكية الأوقاف الإسلامية في فلسطين.
5- إقفال المؤسسات التعليمية الفلسطينية خلال ثلاثة أعوام. وكان الرد على ذلك هو تنظيم التعليم الشعبي في محاولة لتعويض الخسارة العلمية([44]).
إلا أن هذه الأساليب لم تجد نفعاً، وعلت أمواج الانتفاضة لتشمل كل المدن والقرى الفلسطينية، وفرضت الانتفاضة نفسها على العالم. فتقول صحيفة فايننشال تايمز «إن هذه الانتفاضة ثورة حقيقية بفضل النشاط الإسلامي.. وهناك مصاعب تواجه إسرائيل في التعامل مع هذا التيار الذي يقود العمل الفدائي والانتفاضة في الأرض المحتلة»([45]).
وتقول صحيفة الجارديان الإنكليزية «الأصوليون المسلمون هم قادة هذه الانتفاضة.. المسلمون الأصوليون أكدوا جدارتهم في قيادة الجماهير»([46]).
وأشارت وكالة الأنباء الفرنسية إلى جرأة الأطفال في مواجهة جنود الاحتلال «لم يعد الأطفال الذين تزيد أعمارهم على 10 سنوات، والشباب والصغار الذين تزداد جرأتهم يوماً بعد يوم يعرفون مشاعر الخوف، ولذلك فإنهم يهاجمون الجنود بالحجارة دون أن يخشوا ردهم بالأسلحة الأتوماتيكية»([47]).
ويضرب الإسلام ضرباته الجهادية في العمق النفسي والسياسي والأمني الإسرائيلي، وتربك الدوائر الفكرية العالمية أمام هذا النوع من الضربات، ويصاب العقل السياسي الغربي بالعقم والتبلد، ويقف عاجزاً أمام تحليل ظاهرة (الشهادة الطوعية)، ويظهر الضعف الإسرائيلي جليا واضحا تجاه هذا النوع المتميز من المجاهدين.
ومن خلال هذه العمليات تمسك الحركة الإسلامية بزمام المبادرة السياسية والجهادية في فلسطين، وهذه محطة من محطات تحول الواقع السياسي والجهادي تجاه الحل الإسلامي للقضية الفلسطينية، وإن هي إلا إرهاص من إرهاصات اقتلاع إسرائيل من الجذور، وهي بداية إشارات النصر الموعود على يهود «إن صفحة جديدة بدأت في تاريخ الإنسانية، بدأت تكتب على أيدي هذا الشباب المتعلم المسلم الذي بدأ يرتاد المساجد ويرفض أماكن اللهو، ويتدارس القرآن، ويرفض قصص الجنس، ويصوم في اليوم القائظ، تقرباً إلى ربه، ويعمل جاهداً ليكون جندياً من جنود الإسلام.. وما علم يهود أنهم جاؤوا إلى هذه الأرض بقدرهم، وإن الله ساقهم إلينا لمصيرهم، حتى نذبحهم بأيدينا ونقتلهم بقضاء الله فيهم وفينا([48]).
(فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً)([49]).
وتأكيداً على هذا الأمر قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود) ([50]).
وهذا الحديث من نبوءات النبي(صلى الله عليه وآله) ويشير إلى الدلالات التالية:
أولاً: تقع أحداث هذه النبوءة قبل الساعة، وإن ما وقع من أحداث ومواجهات عبر العقود الماضية بين المسلمين واليهود إنما هي بدايات وإرهاصات لتطور الصراع، الذي سينتهي بانتصار المسلمين.
ثانياً: عبر المواجهة السابقة بين المسلمين واليهود، رفع المسلمون رايات متعددة للمعركة، ولم يرفعوا الراية الإسلامية لتحقيق أهداف الإسلام، ولذلك هزموا بما يحملونه من فكر قومي، ولم ينتصروا بما يحملونه من فكر ماركسي، بل ازدادوا فرقة وتشتتاً وضعفاً، واحتلت لهم أراض جديدة لأنهم لم يرفعوا رايتهم الحقيقة المتمثلة بعقيدتهم الإسلامية.
ثالثاً: ستقع المعركة الحاسمة حيث يوجد شجر الغرقد، أي في بيت المقدس، وهذا يعني أن السلام المزعوم الذي تعمل له أميركا وأوروبا ودول العالم، لتثبيت أمن إسرائيل والاعتراف بوجودها لن يثبت ولن يطول، خاصة بعد أن بدأ المسلمون في مسك ناصية أمورهم بيدهم.
رابعاً: إن المسلمين سيرفعون رايتهم الإسلامية وسيقاتلون على أساسها، حتى تكون كلمة الله هي العليا، وستستمر المعارك مع اليهود حتى يصل المسلمون في عقيدتهم وعبادتهم وجهادهم وإخلاصهم إلى مرحلة خلوص العبودية للّه، عند ذلك سيأتي الأمر من الله تعالى للكون حتى يشارك بشجره وحجره في هذه المعركة الحاسمة، التي ستنتهي بنصر المسلمين على اليهود.
وهذا يعني أن الإسلام - بعونه تعالى - سيأخذ دوره السياسي والجهادي، في تعبئة وتجنيد وحشد طاقات وإمكانيات الأمة الإسلامية، ويعمل على تحرير إرادة القتال فيها، لتكون المواجهة الكبرى مع يهود، حتى يأتي نصر الله الموعود، في تحرير فلسطين وبيت المقدس، وما ذلك على الله بعزيز.
الهوامش:
([1]).الذي يجمع المنظمات والجمعيات والمؤسسات اليهودية في العالم.
([2]).المائدة / 13 .
([3]).حسب النص .
([4]).العهد القديم - 1 / 22 .
([5]).حسب النص.
([6]).العهد القديم - 1 / 20 .
([7]).المرجع نفسه - ص 26 .
([8]).المرجع نفسه - ص 42 .
([9]).المرجع نفسه - ص 47 .
([10]).العهد القديم - / 147 .
([11]).د. أسعد رزوق - إسرائيل الكبرى دراسة في الفكر التوسعي الصهيوني - ص 402 - 403 .
([12]).عادل رياض - الفكر الإسرائيلي وحدود الدولة - ص 42 .
([13]).رئيس المنظمة الصهيونية آنئذ.
([14]).عادل رياض - الفكر الإسرائيلي وحدود الدولة - ص 68 - 69 .
([15]).بسام العسلي - ثورة البراق - ص 128 .
([16]).بسام العسلي - ثورة الشيخ عز الدين القسام - ص 42 .
([17]).حسب النص، وهذا مصطلح غربي لا أصل له في الفكر الإسلامي.
([18]).أكرم زعيتر - وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية - ص 288 - 291 .
([19]).بسام العسلي - ثورة عز الدين القسام - ص 95 - 96 .
([20]).سميح حمودة - الوعي والثورة - ص 97 - 98 .
([21]).حسيني جرار - شعب فلسطين أمام التآمر البريطاني والكيد الصهيوني - ص 200 .
([22]).منظمات إرهابية يهودية تشكلت في فلسطين حتى قيام إسرائيل ثم انصهرت قواتها في الجيش الإسرائيلي.
([23]).جون كيمش - صحفي إنكليزي - حسين التركي - هذه فلسطين - ص 204 - 205 .
([24]).مجلة المجتمع - العدد 1192 - 19/3/1996 - ص 25 .
([25]).المرجع نفسه - ص 25 .
([26]).المرجع نفسه - ص 25 .
([27]).المرجع نفسه - ص 25 .
([28]).المرجع نفسه - ص 25 .
([29]).المرجع نفسه - ص 25 .
([30]).المرجع نفسه - ص 25 .
([31]).عميد كلية الشريعة في الكويت.
([32]).د. عجيل النشمي - هل يعتبر من يفجر نفسه دفاعاً عن أرضه ودينه منتحراً أم شهيداً - المجتمع - العدد 1193.
([33]).أستاذ في كلية الشريعة في الكويت.
([34]).د. عبد الرزاق خليفة الشايجي - الرؤية الشرعية للعمليات الاستشهادية - مجلة المجتمع - العدد 1192 - 19/3/1996 - ص 44 .
([35]).د. يوسف القرضاوي - شرعية العمليات الاستشهادية في فلسطين - مجلة المجتمع - العدد 1204 - 8/6/1996 - ص 34 .
([36]).الممتحنة / 9 .
([37]).البقرة / 191 .
([38]).وردت هذه الفتوى الشرعية في مجلة الأمان - العدد 199 - 29/3/1996 - ص 25 .
([39]).ياسر عرفات.
([40]).إسحاق رابين.
([41]).محمود عباس - طريق أوسلو - ص 340 - 341 .
([42]).د. عبد اللّه عزام - حماس الجذور التاريخية والميثاق - ص 105 .
([43]).د. عدنان السيد حسين - الانتفاضة وتقرير المصير - ص 114 .
([44]).د. عدنان السيد حسين - الانتفاضة وتقرير المصير - ص 112 - 116 .
([45]).مجلة قضايا دولية - العدد 154 - 14/2/1992 - ص 26 .
([46]).مجلة قضايا دولية - العدد 154 - 14/2/1992 - ص 26 .
([47]).مجلة قضايا دولية - العدد 154 - 14/2/1992 - ص 26 .
([48]).أسعد التميمي - زوال إسرائيل حتمية قرآنية - ص 98 - 99 .
([49]).الإسراء / 7 .
([50]).يحيى بن شرف النووي - صحيح مسلم بشرح النووي - م / 0 - ج / 18 - ص 45 .