الفكر الوحدوي ودوره في تفعيل الدعوة الإسلامية
الفكر الوحدوي ودوره في تفعيل الدعوة الإسلامية
السيد عباس علي الموسوي
بيروت ـ لبنان
بسم الله الرحمن الرحيم
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ( 39 ) الأحزاب.
تمهيد
وظيفة الدعوة إلى الله وبناء المجتمع النموذجي:
تتفق وتتوافق المذاهب الإسلامية بكافة تشعّباتها على أن الدعوة إلى الله عز وجل فريضة جعلها الله على عاتق المسلمين وأن الدعوة لا تتوقف برحيل رسول الإسلام محمد (ص) بل تستمر حتى تحقق الغايات التي جاء بها والمنزلة عليه من عند الله عز وجل.
فالرسالة الإسلاميّة عامّة لجميع العباد، وسوف لا تنقطع المهمّة التبليغيّة ولا تنتهي ما دام هناك أرض وشعب في العالَم لم يصله صوت الرسالة الإلهية. ومن هنا نُدرك سعة الدائرة الّتي يجب استيعابها في العمل التبليغيّ، وفي ضوئها يجب وضع الحساب فيما إذا كان الوجوب الكفائيّ قد أُنجز كاملاً حتّى يسقط عن الباقين أم لا.
وكما يرتبط تفعيل الدعوة ببذل الجهد في بيان حقائق هذا الدين للناس، لا بد من تنظيم هذا الجهد وتطويره بما يتناسب مع الأهداف والغايات وبما يكون موصلا لتحقيقها ومن هنا سوف نتعرض هنا لدور الفكر الوحدوي في نفعيل الدعوة كعامل أساس في الجذب لدين الله.
لقد حث القرآن الكريم في سورة العصر المؤمنين على أن يمارسوا بعد الإيمان فعل التوصية والتواصي بالحق هو أن يوصى بعضهم بعضا بالحق أي باتباعه والدوام عليه والتواصي بالحق أوسع من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لشموله الترغيب والحث على العمل الصالح .
ولأجل بيان هذه الوظيفة استعمل صيغة الجمع لأن إحقاق الحق في المجتمع لا يمكن من دون حركة عامة وعزم اجتماعي ، ومن دون الاستقامة والوقوف بوجه ألوان التحديات .
إن أول نداء قرع سمع النوع الانساني ودعى به هذا النوع إلى الاعتناء بأمر الاجتماع بجعله موضوعا مستقلا خارجا عن زاوية الاهمال وحكم التبعية هو الذي نادى إليه النبي (ص) ، فدعى الناس بما نزل عليه من آيات ربه إلى سعادة الحياة وطيب العيش مجتمعين قال تعالى : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم " الانعام : 153 " وقال : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا إلى أن قال : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ( يشير إلى حفظ المجتمع عن التفرق والانشعاب ) وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات " آل عمران : 105 " وقال : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ " الانعام : 159 " إلى غير ذلك من الآيات المطلقة الداعية إلى أصل الاجتماع والاتحاد .
وقال تعالى : إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم " الحجرات : 10 " وقال ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم " الأنفال : 46 " وقال : وتعاونوا على البر والتقوى " المائدة : 2 " وقال ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " آل عمران : 104 " إلى غير ذلك من الآيات الآمرة ببناء المجتمع الاسلامي على الاتفاق والاتحاد في حيازة منافعها ومزاياها المعنوية والمادية والدفاع عنه.
بل إن الفهم الصحيح لوظيفة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر يصب في سبيل الوحدة الإسلامية ففقدان " الأمر بالمعروف " و " النهي عن المنكر " يفسح المجال للعوامل المعادية للوحدة الاجتماعية بأن تنخرها من الداخل ، وتأتي على كل جذورها كما تفعل الأرضة ، وأن تمزق وحدة الأمة وتفرق جمعها ، ولهذا فلابد من مراقبة
مستمرة ورعاية دائمة لهذه الوحدة ، ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر .
النقطة الأولى: الغايات هي الأساس
انطلاقا من الحديث المروي عن النبي (ص): "ألا أُحدِّثكم عن أقوامٍ ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم يوم القيامة الأنبياء والشهداء بمنازلهم من الله على منابر من نور؟ فقيل: من هم يا رسول الله؟ قال: هم الّذين يُحبِّبون عباد الله إلى الله، ويُحبِّبون عباد الله إليّ، قال: يأمرونهم بما يُحبّ الله وينهونهم عمّا يكره الله فإذا أطاعوهم أحبّهم الله. بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج2، ص 37. يظهر أن الدعوة إلى الله والسعي للأخذ بيد الناس إلى العمل بأوامر الله ونواهيه يرتبط بالأسلوب الموصل إلى الغايات وإن التحبيب الوارد في الروايات هو وسيلة وأسلوب لتحقيق الغاية المنشودة وهي الالتزام بأوامر الله ونواهيه.
وعندما نتحدث عن الغايات فإننا نقصد بذلك الهدف الأسمى من أصل إنزال هذا الدين والكتاب الكريم وبعثة سيد المرسلين ألا وهي إخراج الناس من الظلمات إلى النور.
وفي نهج البلاغة يبين أمير المؤمنين الهدف من بعثة الأنبياء بقوله: (فَبَعَثَ اللهُ مُحَمَّداً بِالْحَقِّ لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ الاَْوْثَانِ إِلَى عِبَادَتِهِ، وَمِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ إِلَى طَاعَتِهِ، بِقُرْآن قَدْ بَيَّنَهُ وَأَحْكَمَهُ، لِيَعْلَمَ الْعِبَادُ رَبَّهُمْ إِذْ جَهِلُوهُ، وَلِيُقِرُّوا بِهِ بَعْدَ إِذْ جَحَدُوهُ، وَلِيُثْبِتُوهُ بَعْدَ إِذْ أَنْكَرُوهُ.).
وعمل العلماء استمرار لحركة نبي الإسلام، فلا بد وأن تكون هي الغايات المطلوبة.
وكما كان المشهود من سيرة النبي في حياته الحرص الشديد على هداية الناس وإرشادهم إلى الحق والأخذ بيدهم فإن ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان الذي يحمل هم الدعوة إلى الله أن يكون لديه حرص على أن يصل الناس إلى الهدى.
إن من أهم صور الدعوة هو تقديم الإسلام بجميع فرقه ومذاهبه على أنه كل واحد، وإلا فإن تقديم الصورة المشتتة المتفرقة تعيق الآخر غير المسلم عن قبول الدعوة، فأي وعاء ندعوه إليه إذا كنا ممزقين يقتل بعضنا بعضا.
فالمذاهب الإسلامية جميعا تتفق حول الكثير من المسائل، وما يجمعها أكثر مما يفرقها، ولو أرادت الإجتماع حول ما يجمع لوجدت نفسها أقوى الأمم على الإطلاق. إن إثارة نقاط الخلاف في ما بينها هي العمل الأكبر الذي تقوم بها القوى الكبرى المسيطرة، وتسخر له الكثير من الوسائل الدعائية والإعلامية، والأبواق والأقلام المأجورة، فلماذا نترك هذا الكم الهائل مما يجعلنا الأمة الأكثر تماسكا لنتلهى ببعض ما يشتتنا ويجعلنا أمماً متفرقة؟
كيف نقدم نموذجا خالصا يضمن سعادة الإنسان في ظل التشتت والتنازع والتخاصم.
وحيث كان كتاب الله هو الكتاب الذي يجمع المسلمون فالدعوة إلى كتاب الله دعوة إلى أمر جامع، ولا سيما أن في القرآن مبادئ يتفق عليها المسلمون جميعا.
النقطة الثانية الوحدة وأساليب الدعوة في القرآن
لقد حدد القرآن الكريم وبوضوح بعض الأساليب التي ينبغي أن تكون معتمدة في العمل التبليغي والمتمثل بالآية الكريمة: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾1. و"الحكمة" و"الموعظة" في هذه الآية الكريمة ليست محدّدة بصورة تبليغية دون أخرى، وإن كانت تنصرف إلى أسلوب الحديث المباشر والمشافهة الكلامية، إلّا أنّ هذا الانصراف لا يضيّق مفهوم الكلمة.
بل إن القرآن الكريم وفي دعوته لأتباع سائر الديانات اعتمد أسلوب الجمع على المتفق عليه وهي كلمة التوحيد فخاطبهم بكلمة سواء (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( 64 ) آل عمران.
ومن هنا فإن أسلوب الدعوة القرآني لو احتذينا به كنموذج فإن من أهم ما ينبغي الاهتمام به في الدعوة هو الدعوة إلى الوحدة والاتحاد.
وتتلخص فكرة الأسلوب بجعل التوحيد أساسا، والمراد التوحيد في العبادة أولا أي الطاعة، واللافت أن الآية عندما كانت تتجه بالدعوة لأهل الكتاب جعلت العامل الأول في تحقيق هذه الكلمة السواء هي (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ) والقرآن الكريم عندما تحدث عن وحدة الأمة الإسلامية أعقبها بالتوحيد في العبادة فقال: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ( 92 ) الأنبياء.
النقطة الثالثة: الوحدة والتكاليف الإلهية العامة
عندما نتحدث عن التشريع الإسلامي فإننا نجد العديد من الفرائض والتكاليف الإلهية التي تتصف بالبعد الاجتماعي حتى مع كونها من العبادات والمرتبطة بأداء التكليف بين العبد وربه، فالصلاة التي هي واجب فردي على كل مسلم دعا الإسلام إلى إقامتها جماعة سعيا للحفاظ على مظهر الاجتماع الإسلامي، وكذلك صلاة الجمعة أو الحج أو غيرها من الفرائض.
ولو استحضرنا فريضة الحج بما تمثله من لقاء إسلامي سنوي فإننا نجد أنه أحد تجليات الوحدة الإسلامية العملية، فمع الاهتمام فيه بالمعاني السياسة والاجتماعية إلى جانب المعاني التعبدية نصل إلى التعرف إلى المشاكل الأساسية، والقضايا السياسية للإسلام والمسلمين، ولا يمكن ذلك فاجتماع الناس على اختلاف تصنيفهم واهتمامهم ومستوياتهم والعمل على عرض وتبادل الآراء لإيجاد الحلول فرصة بالغة.
ومن أهم الثمار المقصودة من هذه الفرائض المشتركة الوصول إلى السكينة والتي تعني الاستقرار والطأنينة النفسية والفكرية التي تقف مقابل حالة التوتر والاضطراب في الأفكار والمشاعر التي تجلب على الإنسان المصائب والكوارث الفردية والاجتماعية.
وهذه لا تتم في ظل التشتت والاختلاف، بل يقف هذا على الطرف النقيض من تشريعها، فكيف يمكن أن تكون مطلوبة دون أن تحقق غاياتها.
النقطة الرابعة: الوحدة كعامل جذب
في فطرة الإنسان انجذاب نحو الاجتماع، فلا يخفي الإنسان إعجابه وتقديره لأي جماعة من الناس مهما كانت ديانتها أو معتقداتها إذا كانت تقدم نفسها أمام الآخرين بصورة مؤتلفة ومجتمعة. وعامل الجذب هذا هو الذي أولته التعاليم الإسلامية الاهتمام الواسع وذلك من خلال الحث على ان تكون الأمة الإسلامية أمة واحدة.
ويشكل هذا عامل جذب لأتباع الديانات الأخرى، خلافا لصورة التشتت والاختلاف الذي يكون سببا للنفور وموجبا للتردد أو الإحجام عن الإقدام على اتباع هذا الدين.
ولذا نحن مدعوون للقيام بخطوات جدية في تظهير هذه الصورة فالوحدة وكما ذكره بعض الباحثين في هذا الزمان ليست صياغة لها نموذج، هي يجب أن تخلق نموذجها الخاص، ليس لها نموذج تاريخي ونحن نطبقه، وإنما يجب أن نبتدع ونخترع النموذج الوحدوي الذي ينسجم مع حاجات المسلمين وتحديات المسلمين، والدور المرتقب للأمة الإسلامية في العالم، الدور ثابت، الأمة الشاهدة، والأمة الوسط.
إن لأمة الإسلام رصيدا عظيما يساعد بوضوح على هذا الاجتماع وتوفير عامل الجذب هذا، ويتمثل بالثقافة المشتركة، وهذه الثقافة لا تشكل عنصرا هامشيا في المجتمعات الإسلامية، بل هي عنصر دخيل في كل جوانب حياة مجتمعاتنا، وتدخل الثقافة الإسلامية في كل عناصر الحياة عند الإنسان الفرد، وتبعا لذلك عند المجتمعات، فالسؤال عن الموقف الشرعي من الحوادث والوقائع مهما تنوّعت والالتزام بالعمل به، هو الطبيعة الدائمة والمستمرة التي تسير عليها مجتمعاتنا، وهذا يؤكد على أهمية ودور الحد من الاختلافات في تثمير الصورة الواحدة للأمة الإسلامية.
النقطة الخامسة: الوحدة والجهد المشترك
عندما نتحدث عن الوحدة فنحن نتحدث عن التشارك وهذا التشارك يتمثل بأمرين مترتبين:
الأول: التشارك على مستوى الهموم والتحديات والآمال والتطلعات والأهداف.
الثاني: التشارك على مستوى العمل وبذل الجهود وتوحيد الطاقات.
لا شك في تفرع الثاني على الأول، والتأسيس للمرحلة الأولى سوف يثمر بشكل واضح تشاركا على المستوى الثاني.
في اجتماع الأمة الواحدة على تحديد الهموم والتحديات وغيرها يتحقق التمهيد للوحدة على المستوى العملي، ومن هنا نتحدث بوضوح عن ضرورة تحديد الهموم والتحديات أولا، لأن الإحساس بالخطر المشترك وتحديد هويته سوف يؤكد على الاتجاه من خلال توزيع الأدوار إلى مواجهته.
ولكي لا نبقى أمة تعيش ردة الفعل فقط وإنما أمة تملك زمام المبادرة فإن لتحديد الآمال والأهداف دورها الأساسي في القيام بعمل مشترك في سبيل تحقيق الأهداف متى تم الاتفاق أولا على الأهداف.
ولذا لا ينبغي أن نتعامل بنوع من التهاون مع الجانب النظري في اللقاءات التي تحمل أهدافا وحدوية لأنها سوف تشكل بداية العمل المشترك.
وعندما نرجع إلى حلف كتبه الامام علي (ع) بين قبائل العرب في اليمن، نجد التأسيس النظري واضحا في تمتين قواعد التآلف والعمل حيث يقول: (هَذَا مَا اجْتَمَعَ عَلَيْه أَهْلُ الْيَمَنِ - حَاضِرُهَا وبَادِيهَا - ورَبِيعَةُ حَاضِرُهَا وبَادِيهَا - أَنَّهُمْ عَلَى كِتَابِ اللَّه يَدْعُونَ إِلَيْه - ويَأْمُرُونَ بِه ويُجِيبُونَ مَنْ دَعَا إِلَيْه وأَمَرَ بِه - لَا يَشْتَرُونَ بِه ثَمَناً - ولَا يَرْضَوْنَ
بِه بَدَلًا - وأَنَّهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ عَلَى مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ وتَرَكَه - أَنْصَارٌ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ - دَعْوَتُهُمْ وَاحِدَةٌ) الكتاب 74، نهج البلاغة.
ولأجل التأكيد العملي على نفي أسباب الاختلاف يكون هذا الميثاق محفوظا من المخاطر التي قد تحتف به والمتمثلة في نفس هذه المعاهدة وهذا الحلف بالتالي: (لَا يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ لِمَعْتَبَةِ عَاتِبٍ - ولَا لِغَضَبِ غَاضِبٍ - ولَا لِاسْتِذْلَالِ قَوْمٍ قَوْماً - ولَا لِمَسَبَّةِ قَوْمٍ قَوْماً).