الفكر الصهيوني فكر عدواني
الفكر الصهيوني فكر عدواني
حيات رماني
مقدمة:
منذ أن ظهر المشروع الصهيوني كبرنامج سياسي ينشد إقامة «وطن قومي لليهود في فلسطين يضمنه القانون العام»، أواخر القرن التاسع عشر، وهو يحرص على الاعتماد على قوى دولية كبرى تمتلك القوتين العسكرية والاقتصادية القادرتين على تنفيذ آمال المشروع الصهيوني وأطماعه وتنفيذاً لهذا الحرص الصهيوني كان التحالف الصهيوني – البريطاني، الّذي بدأ مع ظهور الحركة الصهيونية وظل قائماً حتّى الحرب العالمية الثانية، وكان التحالف الصهيوني – الأمريكي الذي ظهر أثناء عمليات الحرب العالمية الثانية ولا يزال قائماً حتّى اليوم. بيد أنـّه ثمّة حقيقة لا يمكن التغاضي عنها وقوامها أنـّه ما كان ممكناً للحركة الصهيونية أن تقيم تحالفاتها هذه، ولا أن تحقّق أهدافها تلك ما لم تتلاقى مصالح بريطانيا – ثمّ الولايات المتّحدة الأمريكية – مع مصالح الحركة الصهيونية، ثمّ مع إسرائيل لاحقاً.
فبريطانيا العظمى (أواخر القرن التاسع عشر) التي كانت تسعى إلى حماية مستعمراتها الممتدة في الهند – تصدت أواخر القرن التاسع عشر لمسألتين واجهتا العالم وقتذاك هما: المسألة الشرقية وإرث الإمبراطورية العثمانية من جهة، وما اسمته الحركة الصهيونية «المسألة اليهودية التي واجهت المجتمعات الأوروبية من جراء ما تبع حركات تحرير الجماعات اليهودية في أوروبا ومساواتهم ببقية فئات المجتمع في أعقاب انهيار النظم الإقطاعية وبزوغ عصر النهضة الأوروبي وذلك من جهة أخرى.
ولهذا أحبطت بريطانيا محاولة محمّد علي إقامة دولة موحدة تضم مصر وسوريا ونجد والحجاز والسودان، وبموجب اتفاقيتين وقعتهما مع مصر سنة 1840 أوقفت عملية التصنيع في مصر وقلصت حجم الجيش المصري.
كما احتلت بريطانيا عدن، وفتحت لها أول قنصلية في القدس وأعلنت نفسها حامية لليهود أينما كانوا، وراحت تمهد الطريق أمام تهجير الجماعات اليهودية إلى فلسطين.
وفي العام 1907 انعقد في لندن ما عرف باسم «مؤتمر علماء الإسلام خبراء الاستعمار» - بناءً على طلب رئيس وزراء بريطانيا – على مستوى أساتذة الجامعات والخبراء في النواحي الاقتصادية والسياسية والثقافية والعسكرية وذلك بهدف الكشف عن الوسائل التي تحول دون اضمحلال الاستعمار الأوروبي وقد بلغ ذروته.
وقد كشف تقرير المؤتمرين عن مخطط القوى الاستعمارية الأوروبية الرامي إلى تفتيت المنطقة العربية – التي كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية – إلى دول عدّة، وزرع كيان غريب بين مشرق العالم العربي ومغربه. وهو الأمر الذي جاء متفقاً مع أهداف الحركة الصهيونية، بمعنى أنـّه جاء حلاً لما عرف بالمسألتين الشرقية واليهودية معاً. انتهى هذا المؤتمر إلى ضرورة العمل على «تفتيت هذه المنطقة والإبقاء على وضعها المتأخر، وعلى إبقاء شعبها على ما هو عليه من تفكك وجهل وتناحر، ومحاربة أية محاولة للاتحاد بين شعب هذه المنطقة سواء فكرياً أو عملياً»، وذلك – حسب ما جاء في التقرير - «لأن هذه المنطقة هي مهد الأديان والحضارات وهمزة الوصل بين الشرق والغرب، ويعيش فيها شعب له تاريخ مشترك ولغة قومية واحدة، ودين يحض على الزواج والتكاثر، أي أنـّه شعب يمتلك كلّ مقومات الاتحاد والنهوض ولا ينقصه سوى الوسائل الفنية والمكتسبات الصناعية التي يجب ألا تصل إليه».
ولقد انتهى المؤتمرون إلى أن الوسيلة السريعة والأساسية لدرء الخطر هي «إقامة حاجز بشري وغريب على الجسر البرى الذي يربط آسيا بأفريقيا... بحيث يشكل في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس قوّة صديقة للاستعمار وعدوة لسكان المنطقة». وتماشياً مع هذه المقررات كانت سياسة بريطانيا الرامية إلى تفكيك أوصال الإمبراطورية العثمانية وإسقاط الخلافة الإسلامية وتمزيق وحدة العالم العربي، وتمهيد الطريق لليهود لإنشاء دولة لهم في فلسطين.
ولهذا شهدت المنطقة سياسةً بريطانيةً قامت على استدراج العرب ضدّ الأتراك ودعم القوى الطورانية داخل تركيا من جهة، ودبلوماسية مزدوجة لصالح اليهود من جهة أخرى، فكانت مراسلات الحسين/ مكماهون، ووعد بلفور، واتفاقيات سايكس بيكو، ثمّ الاحتلال البريطاني المباشر للقدس في ديسمبر 1917، والشروع في تهويد فلسطين من خلال ما عرف بالانتداب وتمويل تهجير الجماعات اليهودية وتسليح العصابات الصهيونية.
أما ثورات العرب وغضبهم فقد قابلتها سلطة الاحتلال تارةً بالقمع والقتل والتشريد، وتارة أخرى بلجان الاستقصاء والتحقيق.
ومع مطلع الأربعينيات بدأت مرحلة جديدة من مراحل اغتصاب فلسطين تحالفت فيها الحركة الصهيونية مع الولايات المتّحدة الأمريكية، القطب الدولي الصاعد آنذاك، فبعدما دخلت الولايات المتّحدة الحرب العالمية الثانية ضدّ ألمانيا، صار لها مصالح وأهداف في المنطقة العربية وبخاصّة حينما أكدت عدّة دراسات أن هذه المنطقة ستكون – في وقت قريب – أهمّ منابع النفط في العالم.
اتجهت الحركة الصهيونية إلى الأمريكيين اليهود ولسان حالها يقول لهم «إن يهود أوروبا قد نجحوا في استصدار وعد بلفور وضمان الدعم الإنجليزي، وعلى يهود أمريكا إكمال الطريق من خلال إنهاء المراحل الأخيرة لقيام الدولة وتحقيق اعتراف العرب بها».
وقد شكلت مقررات مؤتمر علماء الإسلام بلتيمور – المنعقد في نيويورك في مارس 1942 – نقطة تحول في مسار الحركة الصهيونية إذ أعلن المؤتمرون عدّة أمور لأول مرّة هي: أن هدف الصهيونية هو إقامة دولة لليهود في فلسطين، وإنشاء جيش يهودي، ودفع تعويضات ألمانية لما أسماه المؤتمرون «الشعب اليهودي».
وعلى الرغم من تحذير العديد من الساسة الأمريكيين الرئيس ترومان من التحيز ضدّ العرب، فقد سخر هذا الأخير نفسه لمصلحة الصهيونية فأيد عمليات تهجير الجماعات اليهودية، ثمّ مارست الدبلوماسية الأمريكية كلّ الضغوط الممكنة أثناء التصويت على مشروع التقسيم في الجمعية العامّة دون أدنى مراعاة لأية اعتبارات أخلاقية أو قانونية، ثمّ كانت الولايات المتّحدة أول من اعترف بـ«إسرائيل» وقدمت لها أول معونة مالية في شكل قرض قيمته 100 مليون دولار.
وعلى الرغم من محاولة أيزنهاور إقامة نوع من التوازن في السياسة الأميركية، ولا سيما خلال أزمة السويس، إلا أن السياسة الأمريكية ارتكزت في ذلك إلى مطامعها ومصالحها القومية التي هدفت إلى الحصول على النفوذ الذي كانت القوتان الإنجليزية والفرنسية تحتلانه في المنطقة العربية، وما أن استتب الأمر لأمريكا حتّى راحت تنحاز إلى إسرائيل، فإسرائيل تؤدي لها دوراً محورياً في تحقيق مصالحها التي تمثلت، وقتذاك، في منع التغلغل السوفيتي. ولذا شهدنا الانحياز التام لصالح إسرائيل والذي ترجم في شكل تدفق أشكال مختلفة من المعونات والقروض العسكرية والاقتصادية والفنية، وظهور أنواع متعددة من المساعدات التكنولوجية والاستخباراتية والأمنية.
وقد دأبت الولايات المتّحدة على توفير أمرين حيويين لإسرائيل في أعقاب كلّ اعتداء تقوم به ضدّ العرب هما: الحماية الدبلوماسية لها في المحافل الدولية من جهة والدعم المالي الإضافي من جهة أخرى.
وفي العقدين الماضيين، راح التحالف الصهيوني الأمريكي يزداد رسوخاً وقوةً، إذ شهدت فترة حكم ريجان دعماً غير لإسرائيل، ورضوخاً كاملاً لمطالبها. ولهذا أيدت أمريكا قصف المفاعل العراقي، وضم الجولان وإخراج منظّمة التحرير من لبنان وغزو لبنان، كما وقعت مع إسرائيل اتفاق التعاون الاستراتيجي عام 1983 واتفاقية التجارة الحرة عام 1985 ثمّ حول ريجان كلّ القروض التي تقدم إلى إسرائيل إلى منح لا ترد وعلى أن تقدم، دفعةً واحدة، كما سمح لإسرائيل بالمشاركة في أبحاث حرب النجوم عام 1986 ثمّ أعلنت إدارة ريجان – في 1987 – أنّها تعتبر إسرائيل «حليفاً رئيسياً غير منتم إلى حلف الناتو» وذلك رغم تفجر فضيحة الجاسوس بولارد.
وفي عهد بوش حصلت إسرائيل على خدمتين جليلتين هما: فتح الباب أمام هجرة اليهود من الاتحاد السوفيتي السابق من جهة، والقضاء على القوّة العراقية من جهة أخرى. هذا بجانب إلغاء قرار الجمعية العامّة الذي يصف الصهيونية بالعنصرية. وبعد أن اختفى الخطر الشيوعي صارت مصالح القطب الأميركي – الذي أضحى قطباً أوحداً – تتمحور حول ضرب القوى الإسلامية الصاعدة، وضمان ولاء النظم الموالية لأمريكا واحتواء النظم المناوئة لها.
ولهذا كرس كلنتون نفسه، وإدارته، لصالح إسرائيل – التي استمر دورها في تحقيق الأهداف الأمريكية – فجعل جل موظّفي البيت الأبيض، وأركان إدارته، ومستشاريه من اليهود أو من الذين عرف عنهم ولاؤهم الشديد لإسرائيل، كما أوصل علاقات بلاده بإسرائيل إلى وضع لا مثيل له في العلاقات الدولية، حيث وصلت المعونة الأميركية الرسمية إلى أكثر من 3 مليار دولار في السنة، وشرعت إدارته – في إطار ما سمي التسوية السلمية – إلى الضغط على الأطراف العربية في اتجاه دفع عملية «التطبيع» السياسي والاقتصادي مع إسرائيل دون التقيد بنتائج عملية التسوية السياسية، ودعمت عقد مؤتمرات اقتصادية سنوية بهدف دمج إسرائيل اقتصادياً في المنطقة، كما وقعت أمريكا عدداً من الاتفاقيات الأمنية والاستراتيجية والاستخبارية مع إسرائيل، وأحبطت كلّ الجهود العربية الرامية إلى توقيع إسرائيل على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. هذا فضلاً عن استمرار الإدارة الأمريكية في سياسة احتواء الدول المناوئة لإسرائيل، والتغاضي عن سياسات إسرائيل الاستيطانية، والإصرار على حمايتها في المحافل الدولية.
الصهيونية ضد حقوق الإنسان
صدر تصريح بلفور حاملاً وعدين متلازمين، أولهما تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، والثاني هو التأكيد على عدم حدوث ما من شأنه المساس بحقوق المجموعات غير اليهودية على أرض فلسطين، وبغض النظر عن اللهجة الاستعمارية الخالصة والملتوية لهذا التصريح، فقد أدى هذا التصريح إلى نشوء حوادث ستؤدي فيما بعد إلى ذلك الشيء بالذات الذي خشي منه بلفور نفسه، ألا وهو المساس بحقوق السكان الأصليين لفلسطين.
لعلها السذاجة، أو لعلّه التكتيك، كان السبب وراء عدم قدرة بلفور على استيعاب التعارض بين التطلعين الذين تبناهما. إن السير خلافاً للمعالم السياسية والتاريخية السكانية للمنطقة بفرض دولة تُعرف على أساس هويتها الإثنية والعرقية، وفي ذات الحين قطع وعد بضمان دولة ديمقراطية علمانية، هو تعبير عن عقل متناقض، ولا شكّ أن التاريخ حكم بأن مثل هذين التطلعين لا يستقيمان وبعضهما البعض، إن هدف هذه الورقة هو استكشاف لأي مدى تمّ التفريط بحقوق الفلسطينيين في سياق السعي لتحقيق التطلعات الإسرائيلية في فلسطين. تسعى هذه الورقة أيضاً إلى تبيان الأسباب التي ما زال من أجلها شعب من الشعوب، ألا وهو الشعب الفلسطيني، يعاني من الانتهاك المستمر لحقوقه.
إن هذه الورقة مساهمة متواضعة في فعاليات اليوم العالمي لحقوق الإنسان والذي تقيمه الأمم المتّحدة سنوياً في العاشر من ديسمبر إحياءً لذكرى صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وعن هذه الحملة السنوية، التي تمّ إطلاقها في العام 1948، يقول الأمين العام للأمم المتّحدة: «تسعى هذه الحملة إلى تذكير الجميع في عالم لا يزال يترنح من فضائع الحرب العالمية الثانية أن هذا الإعلان أول نصّ عالمي عمـّا نتعامل معه هذه الأيام كشيء مسلم به، ألا وهو الكرامة والمساواة المتعينتان بالأصالة لجميع البشر».
لقد كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أول اعتراف عالمي بأن للبشر جميعهم حقوقاً وحريات أساسية، وهو الإعلان الذي ما زال باقياً ولازماً حتّى يومنا هذا إنه يمثل القاعدة المعيارية للنظام الدولي لحقوق الإنسان الذي يشمل مواثيق الأمم المتّحدة المتعددة الخاصّة بحقوق الإنسان والمعاهدات الأُخرى التي لا حصر لها بين الدول بهذا الصدد.
وفيما يتصل بحقوق الإنسان، فإن هذه السنة ليست كغيرها؛ والناشطة في ميدان حقوق الإنسان لم تكن أبداً أكثر حيوية أو اقترابا من الجوهر ممـّا هي عليه الآن؛ وبواسطة القوّة التحولية في وسائط الإعلام الاجتماعية، تحول النّاس العاديون حول العالم إلى نشطاء لحقوق الإنسان.
إن الهبة الشعبية في الشرق الأوسط على مدار العام الماضي هي تذكرة قوية بالأهمية البالغة لإعادة التذكير (والأهم منه تعزيز) بالقيم والمبادئ التي يضمها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
لقد قرر الملايين من البشر أن يطالبوا بحقهم، ونزلوا إلى الشارع، وطالبوا بالتغيير، صوتهم طليق قوي ثابت، ويستخدمون الانترنت ووسائل التراسل الآنية لإعلام مؤيّديهم وتحميسهم وحشدهم للسعي للحصول على حقهم. وشارك الفلسطينيون أيضاً، ونزلوا إلى الشارع في فلسطين وعلى طول المنطقة مُلهمين بروح إخوانهم في وقوفهم في وجه الظلم وسعيهم لنيل حقوقهم. لقد كانت العلاقة الحميمية بين النضال الفلسطيني وجميع المظاهرات الأُخرى جلية جداً؛ حيث رفع المتظاهرون في تونس ومصر وليبيا الأعلام الفلسطينية تضامناً واعترافاً منهم بأن نضالهم في سبيل حقوقهم الإنسانية لا ينفصل عن ذلك الصراع الأطول للفلسطينيين لنيل حقوقهم الإنسانية.
وبينما يحاول الملايين على امتداد الشرق الأوسط تعديل العلاقة بين الدولة ورعاياها وإعادة النظر في هذه العلاقة، ما زال الفلسطينيون منذ عقود يناضلون للوصول للشيء نفسه. إن ممـّا يقع في لب حقوق الإنسان أن الدولة توجد لرعاية الحقوق الإنسانية لمن تحكم؛ ومع هذا، وبالنسبة للفلسطينيين، فقد تعرضوا لكافة أشكال القمع والانتهاكات من قبل الجهة التي تقوم عليهم مقام الدولة والتي تتحكم في حياتهم، لقد كان الغياب الكامل لحقوق الإنسان والقمع والانتهاك الإسرائيليين الوقود الذي أشعل الانتفاضة الأولى وأشعل الهبات الأخرى على مدى عقود من الزمن.
ستسير هذه الورقة على الترتيب التالي: فبعد مقدمة مختصرة عن نشأة حقوق الإنسان ونظام حقوق الإنسان، سيتبع ذلك مناقشة إضافية عن مدى انطباقية القانون الدولي الإنساني على فلسطين، وستقوم الورقة بعد ذلك بعرض حقائق ووقائع تاريخية وأبحاثاً معاصرة تصف سبعة عقود من ممارسة انتهاك حقوق الإنسان ضدّ الفلسطينيين.
الطرح الرئيسي لهذه الورقة، والمدعم بالحقائق المقدّمة فيها، هو أن الانتهاك المستمر لحقوق الإنسان الممارس ضدّ الفلسطينيين هو من رواسخ المنطق الصهيوني، لا يتحقق النجاح لأحدهما دون الآخر. أما الجزء الختامي فسيحاول اكتشاف الأسباب التي تقف وراء هذه الخروقات لحقوق الإنسان، وسيركز على الفشل المخجل في ردم الهوة بين الحقيقة والتطلعات.
أوّلاً: نشأة حقوق الإنسان
في الوقت الذي لا يمكن فيه الإنكار أنـّه وفي أي ممارسة سياسية يوجد هناك مفهوم ما عن حقوق الإنسان، إلا أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كان أول وثيقة تقوم بصوغ معايير لحقوق الإنسان متفق عليها دولياً.
في العام 1948، وفي الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، قامت منظّمة الأمم المتّحدة التي أنشئت حديثاً آنذاك بتبني الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. لقد سعى المجتمع الدولي كرد فعل له على الفظاعات التي ارتكبت قبل وأثناء تلك الحرب إلى تعريف الحقوق والحريات اللازمة لكرامة كلّ إنسان وقيمته.
إن العنف الذي صاحب الحرب العالمية الثانية وما تسبب به من شعور بالصدمة أوحى إلى الدول الحليفة بفكرة إنشاء منظّمة حفظ سلام مهمتها منع تكرار مثل تلك الفظاعات. وفي 12 يونيو 1941، بدأت الخطوات الأولى نحو إنشاء الأمم المتّحدة بتوقيع الحلفاء على وثيقة «الإعلان المشترك». جرى توقيع هذا الإعلان في لندن، وتعهد فيه الحلفاء بأنهم «سيعملون سوياً، ومع الشعوب الحرة الأخرى، سواء في السلم أو في الحرب».
تمّ اتّخاذ الخطوة الأولى لإنشاء النظام الدولي لحماية حقوق الإنسان في 10 ديسمبر 1948 في باريس، عندما تبنت الجمعية العامّة للأمم المتّحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكان ذلك إعلاناً عن الحقوق الثابتة والمصانة لجميع الأفراد في الأسرة الإنسانية؛ وتم إشهار ذلك الإعلان في قرار للجمعية العامّة في 10 ديسمبر 1948 على أنـّه «معيار تطبيق مشترك لكافة الشعوب والأمم»؛ والإعلان يسرد مجموعة كبيرة من الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي للبشر أينما كانوا الحقّ في التمتّع بها.
يحتوى الإعلان، بالإضافة إلى الديباجة، على ثلاثين مادة تجمل الحقوق العالمية للبشر. بعض هذه الحقوق التي شملها الإعلان هي:
لكلّ إنسان الحقّ في التمتّع الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الإعلان بدون تمييز من أي نوع، سواء كان على أساس العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين... وأيضاً لا يجوز التمييز على أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو المنطقة التي ينتمي إليها الشخص، سواء كان استقلالاً أو وصاية أو احتلالاً أو أي شكل آخر من أشكال السيادة.
لا يجوز القبض على أي شخص أو حبسه أو نفيه تعسفاً.
لكلّ الشعوب الحقّ في تقرير المصير، ولهم بموجب هذا الحقّ أن يقرروا وضعهم السياسي وكذلك السعي بحرية للتطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
لكلّ إنسان الحقّ في حرّية التنقل والإقامة داخل حدود كلّ بلد من البلدان.
للجميع الحقّ في طلب اللجوء لأي بلد والتمتع به هرباً من الاضطهاد.
حرّية الفكر والاعتقاد والدين.
لكلّ إنسان الحقّ في الحصول على جنسية.
لا يجوز حرمان أي أحد تعسفاً من جنسيته ولا أن يُمنع من الحقّ في تغيير جنسيته.
لكلّ إنسان الحقّ في التمتّع بأي نظام اجتماعي أو عالمي تتحقق فيه بشكل كامل الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الإعلان.
لا يمكن تفسير أي شيء في هذا الإعلان بمعنى يسمح لأي دولة أو مجموعة أو شخص بالانخراط في أي نشاط أو ممارسة أي فعل بهدف القضاء على أي من الحقوق أو الحريات المنصوص عليها هنا.
وبالإضافة للوثيقة العالمية للحقوق، فإن المصادر المعاهاداتية الدولية الرئيسية لحقوق الإنسان تضم كلا من العهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 1966، بالإضافة إلى العهد الخاصّ بالتطهير العرقي 1948، والتمييز العنصري 1965، والتمييز ضدّ المرأة 1979، والتعذيب 1984، وحقوق الطفل 1989.
وهناك نصوص أخرى على المستوى الإقليمي منها الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية 1950، والإعلان الأمريكي لحقوق وواجبات الإنسان 1948، والميثاق الإفريقي الخاصّ بحقوق الإنسان والشعوب 1981.
تتنوع المنزلة القانونية لهذه النصوص ما بين إعلانات ومبادئ وإرشادات وقواعد معيارية وتوصيات ليس لها صفة الإلزام القانوني، والتي لها مع هذا قوّة أخلاقية لا يمكن إنكارها وهي توفر التوجيه العملي للدول؛ والمعاهدات والقوانين والبروتوكولات والاتفاقيات الملزمة قانوناً للدول التي توقع عليها أو تقبل بها.
يوجد هناك تسع معاهدات دولية أساسية لحقوق الإنسان، وكلّ واحدة منها أقامت لجنة من الخبراء لمراقبة تطبيق الدول الأعضاء لبنودها، وتم إلحاق بعض هذه المعاهدات ببروتوكولات اختيارية تختص بقضايا محددة.
ولكل معاهدة حقوق من هذه هيئة رقابية تضم خبراء مستقلين يقومون بفحص التقارير التي تقدمها الدول الأعضاء في بموجب المعاهدة، وتقوم هذه اللجان أيضاً بمهمة إصدار «ملاحظات أو تعليقات ختامية» يجملون فيها ما يشغلهم بخصوص دول معينة، بالإضافة إلى إعطاء توصيات فيما يتعلق بالمستقبل.
إن أغلب هذه المعاهدات، إن لم تكن كلّها، هي ذات علاقة بالفلسطينيين بشكل أو بآخر، وخصوصاً منها الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العرقي، والعهد الدولي بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاصّ بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والاتفاقية ضدّ التعذيب والأشكال القاسية واللاإنسانية والمهينة الأخرى للمعاملة أو التعذيب، والاتفاقية الدولية لحقوق الطفل.
وبالإضافة إلى وثيقة الحقوق والاتفاقات الأساسية الأُخرى لحقوق الإنسان، وتوجد هناك العديد من النصوص الدولية الأُخرى المتعلّقة بحقوق الإنسان التي تتنوع منزلتها القانونية بين إعلانات ومبادئ وإرشادات وقواعد معيارية وتوصيات، وهي ليس لها صفة الإلزام القانوني، ولكنّ لهذه النصوص قوّة أخلاقية لا يمكن إنكارها وهي توفر الإرشاد العملي للدول في عملها، وهناك المعاهدات والقوانين والبروتوكولات والاتفاقيات الملزمة قانوناً للدول التي توقع عليها أو تقبل بها.
إن التكييف الدولي لهذه الوثيقة يضمن، من الناحية النظرية على الأقل، مجموعة من القيم والمبادئ المعيارية الملزمة للجميع، لقد كانت هذه الوثيقة الأولى من نوعها في تاريخ حقوق الإنسان، فقد تمّ صياغتها من قبل ممثلين لخلفيات قانونية وثقافية متعددة ومن مختلف المناطق في العالم. وفي ديسمبر 1948، أعلنت الجمعية العامّة للأمم المتّحدة عن هذا الإعلان كمعيار متفق عليه للإنجازات لجميع الشعوب والأمم وهو يقدم ولأول مرّة حقوقاً إنسانية أساسية لتكون مصانة.
ضم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في أصله 58 خلفية ثقافية وجغرافية وسياسية لغرض صياغة وثيقة واحدة. ورغم عدم تمتع هذا الإعلان بصفة الإلزام القانوني، إلا أنـّه أرسى معاييراً دولية لحقوق إنسانية تمّ تعريفها في معاهدات أُخرى ملزمة قانوناً.
وخلافا لما عليه الحال في الوحدات السياسية المحلية والوطنية، كان عدم تطبيق القانون هو السائد على صعيد السياسية الدولية والطريقة الوحيدة لإيجاد قوانين منظّمة رغم حالة عدم الالتزام السائدة هذه هو الاتفاق على إطار مشترك. ومثل هذه الأطر من الممكن إيجادها فقط عندما تكون الدول قادرة على الاتفاق على معايير أو إجراءات تحكم تعاملاتها رغبة منها في تجنب تبعات عدم التنسيق بين الدول في عمل كلّ واحدة منها على حدة. لقد نادى النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية بنظام يمنع الجرائم الممنهجة ضدّ الإنسانية، وهي الحقيقة التي إذا لم تكن إلّا التذكرة الوحيدة القوية لرؤية راينهولد نايبورس بأن «تزوع الإنسان للخير يجعل الديمقراطية ممكنة ونزوعه للشر يجعلها ضرورية» لكفت.
ثانياً: انطباقيه القانون الدولي الإنساني:
بالإضافة إلى قانون حقوق الإنسان الذي يتمتع بضمانة دوليةً، هناك أيضاً بنود أُخرى تنطبق على حالات الصراع، والتي وضعت بدورها لحماية الحقوق الإنسانية للمدنيين وغير المقاتلين.
ودائماً ما تجادل إسرائيل في مسألة أي من الأطر القانونية الدولية هو الأصلح دون غيره للحالة الفلسطينية، وذلك رغم التوافق الدولي على الانطباق القانوني بهذا الصدد لبنود حماية حقوق المدنيين. لقد أكّد مجلس الأمن الدولي على انطباق اتفاقية جنيف الرابعة على الأرض الفلسطينية المحتلّة، بما فيها القدس، وذلك في 25 قراراً من قراراته؛ والعديد من هذه القرارات تدعو إسرائيل بصفتها القوّة المحتلّة إلى الالتزام ببنود هذه الاتفاقية والقبول بانطباقيتها القانونية. وتبني مجلس الأمن ومعه هيئات أخرى تابعة للأمم المتّحدة، مجموعات عدّة من القرارات التي تؤكد على نفس الموقف، مع الدعوة أيضاً إلى إنهاء الاحتلال والتأكيد مراراً على الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني وضرورة تحقيقها.
ومع هذا، فإن إسرائيل ترفض القبول بالانطباق القانوني لاتفاقية جنيف الرابعة على الأرض الفلسطينية المحتلّة بما فيها القدس، وقامت بارتكاب انتهاكات خطيرة لكلّ بند ذو علاقة في الاتفاقية. لقد قامت إسرائيل، القوّة المحتلّة، ومنذ اللحظات الأولى لبدء احتلالها بالشروع فوراً في فرض ما لا حصر له من الإجراءات القمعية مثل الاعتقال الإداري والترحيل وهدم المنازل وأشكال أخرى من العقاب الجماعي ضدّ الفلسطينيين في الأرض الفلسطينية المحتلّة، مسببة لهم بذلك المعاناة والضرر الجسيمين.
أقوى المواقف بهذا الصدد اتخذته محكمة العدل الدولية في يوليو 2004 بإصدارها الراي الاستشاري بخصوص التبعات القانونية لبناء الجدار في الأراضي الفلسطينية المحتلّة. لقد رفضت المحكمة قراءة إسرائيل للمادة رقم 2 من القانون الدولي الإنساني في نفس الوقت الذي ترفض فيه انطباقية هذا القانون. لقد كانت المحكمة في رأيها هذا منسجمة مع قرارات مجلس الأمن التي قالت بأن القراءة الصحيحة للقانون هي أن أي احتلال ينجم عن صراع مسلح يخضع في أحواله لبنود القانون الإنساني.
تعاملت العديد من قرارات مجلس الأمن وقرارات أُخرى للأمم المتّحدة مع انتهاكات إسرائيلية خطيرة ومحددة مثل المستوطنات، والإجراءات المتعلّقة بالقدس، والترحيلات، وإطلاق النار العشوائي على المدنيين، والعقاب الجماعي. جميع هذه القرارات تستنكر مثل تلك التصرفات الإسرائيلية غير القانونية وتدعو إلى وقفها وإلى التزام إسرائيل ببنود اتفاقية جنيف وبما تنص عليه تلك القرارات التي دعا مجلس الأمن في البعض منها إلى اتخاذ إجراءات من شأنها توفير الأمن والحماية للسكان المدنيين الفلسطينيين وطلب فيها من الأمين العام للأمم المتّحدة القيام بمهام معينة بهذا الصدد.
لقد عبر المجتمع الدولي عن طريق قرارات الأمم المتّحدة عن رفضه الدائم والمتكرر لادعاءات إسرائيل وسياساتها وممارساتها في الأرض المحتلّة. وفي عام 1968، قامت الجمعية العامّة بإنشاء اللجنة الخاصّة للتحقيق في الممارسات الإسرائيلية الماسة بالحقوق الإنسانية للشعب الفلسطيني والعرب الآخرين في الأرض المحتلّة، والتي قامت رغم رفض إسرائيل التعاون معها بتقديم تقارير دورية إلى الجمعية العامّة خلال كلّ انعقاد لها.
وبالإضافة إلى هذا، قامت لجنة حقوق الإنسان في العام 1993 بتعيين مقرر خاصّ للأراضي الفلسطينية، ومرة أخرى رفضت إسرائيل التعاون.
ثالثاً: انتهاكات حقوق الإنسان في فلسطين:
لقد شكلت المطامح السياسية الصهيونية في حدّ ذاتها ضامنا لانتهاك الحقوق للفلسطينيين. فعلى مدار ستة عقود، نجحت إسرائيل في وضع نفسها فوق النظام الدولي لحقوق الإنسان وفي شرعنة سياستها التوسعية واستبعاد نفسها من طائلة العقوبات الدولية الأخلاقية والقانونية.
لقد أعطت إسرائيل الحقّ لنفسها في إفساد حياة ملايين النّاس وفي الاستمرار في العنف وفي شن حروب جديدة، ومؤخراً تهديد جيرانها بمحرقة نووية. إن الصراع وعدم الاستقرار المتزايدين دوما هما من ضمن الفكرة الصهيونية نفسها ومكونان أساسيان لها ونابتتان من لب منطقها، وليستا طارئتين عليها. ونظراً للقوة الأيديولوجية الكامنة وراء المشروع الصهيوني وحجم هذه الفكرة وإصرارها العنيد، فما من اعتبار أخلاقياً كان أم قانونياً بقادر على أن يقف في طريقها.
ورغم إن مثل هذه افتراضات لا تلقى في العادة قبولاً نظراً لعدم ملائمتها الأدبية، إلا أنّها تشكل حقائق دامغة اعترفت بها كلّ هيئة قانونية. ولكن وقبل أن نبدأ في تقديم الحقائق الواقعية، يلزمنا ابتداءً أن نعرف أن كلّ سياسة اعتداء تمارسها إسرائيل ترقى إلى مئات الآلاف من انتهاكات حقوق الإنسان. فعندما تقوم إسرائيل مثلاً بممارسة سياسية إجرامية واحدة تفرضها للحصار على قطاع غزة، فهي بذلك لا تقوم بمجرّد انتهاك القانون الدولي بشكل يرقى إلى العقاب الجماعي، ولكنها تقوم أيضاً بانتهاك آلاف الحقوق الإنسانية المختلفة.
رابعاً: ابن الخطيئة:
لقد شكلت المطامح الصهيونية في حدّ ذاتها ضامنا لانتهاك الحقوق الإنسانية للفلسطينيين. وما يجري حالياً من صراع وقمع وانتزاع ونفي قسري واضطراب إقليمي هو من مفردات الفكرة الصهيونية ومكون أساسي لها ونابعة من لب منطقها، ولذلك فهي ليست طارئة عليها. فاستخدام العنف ضدّ الفلسطينيين لم يكن خياراً لجأ إليه الصهاينة بضغط الظروف؛ وإنّما لأنهم كانوا يعلمون فيما بينهم إنه الخيار الوحيد الناجح.
لم يكن من الممكن إنشاء إسرائيل إلّا اعتماداً على برنامج لطرد السكان الأصليين لفلسطين. إن الدراسات الموجودة تقدم تحليلاً تاريخياً مفصلاً ومرتباً زمنياً للنكبة (النفي القسري للفلسطينيين عام 1948)، أبرزها كتاب للمؤلف «إيلان باب» بعنوان «التطهير العرقي لفلسطين» الذي يستعرض بترتيب زمني الأيام السابقة والتالية لإنشاء إسرائيل في مايو 1948، ويصف فيه «الخطة دالت»، والتي كانت الخطة الرئيسية لانتزاع فلسطين من سكانها الأصليين.
لقد وفرت حرب عام 1948 أول فرصة كبيرة لإسرائيل لتقوم بطرد أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين. لقد قامت إسرائيل بإخلاء 531 منطقة من سكانها دفعة واحدة واحتلال ما نسبته 85 % من أرض فلسطين. وكما يقول بيني موريس في كتابه الموثق بعنوان 1948، فإن تتابع عملية الإخلاء من السكان تمت على مدار 4 موجات من العنف استمرت من ديسمبر 1947 وحتّى نوفمبر 1948. ففي الموجة الأولى، قامت العصابات الصهيونية المسلحة بطرد سكان 213 منطقة – أي 43 % من المناطق – بما مجموعه 54 % من عدد اللاجئين – هذا في الوقت الذي كانت فلسطين لا تزال فيه قانوناً تحت حماية سلطة الانتداب البريطانية. لقد تمت عملية الطرد الأعظم للفلسطينيين من خلال الخطة دالت الخطة الرئيسية لفتح فلسطين. وكما بين إيلان باب وآخرون، فلم يكن هدف الخطة دالت هو أخذ فلسطين وطرد أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين فحسب، ولكن كان أيضاً الاستيلاء على مؤسسات ودوائر الحكومة والخدمات العامّة. لقد كانت «حرباً شاملة» ضدّ الفلسطينيين.
لقد كان السبب العملي للخروج الشامل للفلسطينيين من أرضهم هو الهجمات المسلحة، وكلّ مرحلة من مراحل العملية افتتحت بمجزرة. فمن خلال الخطة دالت، وبينما كانت فلسطين لا تزال تحت سلطة الانتداب تمّ ارتكاب مذبحة دير ياسين في 9 أبريل 1948، والتي أعقبتها عشرات المذابح الأُخرى.
وبحسب المؤرّخ العسكري الإسرائيلي آرييه إتسحاقي وهو أيضاً محاضر في جامعة بار إيلان فإن القوّات اليهودية قامت بارتكاب حوالي 10 مذابح كبرى في العام 48 – 1949 راح ضحية كلّ واحدة منها أكثر من 50 شخصاً، هذا بالإضافة إلى المئات من المذابح الأصغر منها لمجموعات صغيرة أو لأفراد. وبحسب إتسحاقي، فقد كان لهذه المذابح (الكبيرة والصغيرة) تأثير مدمر على السكان الفلسطينيين من حيث دفعهم مباشرة أو استباقاً إلى الرحيل. وذهب إتسحاقي إلى أبعد من هذا وقال بأن القتل طال كلّ قرية تقريباً، بل أن المؤرّخ الإسرائيلي ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير وقال بأن كلّ معركة من معارك 1948 انتهت بمجزرة.
وهذه الحقائق لن يجدها أحد مخبأة عن الرأي العام إذا ما تجاوز مجرّد مستوى الدعاية الرسمية.
حتّى أن رئيس الوزراء الأسبق آرييل شارون قال مخاطباً الحضور في لقاء له مع حزب تسوميت اليميني المتطرف: «إن من واجب القادة الإسرائيليين أن يبينوا بوضوح وشجاعة للراي العام مجموعة من الحقائق التي تمّ نسيانها مع مرور الوقت؛ أولها أنـّه لا صهيونية ولا استيطان ولا دولة يهودية بدون طرد العرب وانتزاع أراضيهم».
وفي نفس اللقاء تابع ليقول: على الجميع أن يتحركوا ويسارعوا إلى الاستيلاء على ما يستطيعون من تلال (فلسطينية) لأن أي شيء نأخذه الآن سيبقى لنا دائما وما لا نأخذه سيذهب إليهم.
لا يلزم المرء أكثر من إلقاء نظرة سريعة على التصريحات والسلوك العامين للقادة الصهاينة ليرى أن الصهيونية تمثل في شكلها الأساس تعدياً على المبدأ الدولي الذي يحرم التطهير العرقي وطرد النّاس من بيوتهم بالقوة. إن غطاء الحرب، والإجراءات الأمنية التي لا حصر لها، والذرائع العسكرية لممارسة الاحتلال، والمبررات القانونية (وهي تسمية تلطيفية لما هو في حقيقته استعمارية ثقيلة)، كلّها أجزاء من استراتيجية شاملة لطرد أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين من أراضيهم.
إن فكرة الانتقال أو التبادل السكاني، وهي عبارة تلطيفية يشار بها إلى الطرد المنظم للفلسطينيين إلى دول مجاورة أو بعيدة، كانت فكرة متجذرة بعمق في السياسة الإسرائيلية وما زالت ملمحاً ثابتاً. وبحسب البروفيسور نور مصالحة، فإن هذا المفهوم أشير إليه في بعض الأحيان تلطيفاً على أنـّه تبادل سكاني، وفي أحيان أخرى على أنـّه عودة العرب للجزيرة العربية. مثل تلك الأشكال من التصور تنوعت على مدار السنين باختلاف الظروف. ففي الفترة التي سبقت والتي تلت عام 1948، احتلت فكرة الترانسفير مكان الصدارة، وذهب بن غوريون إلى حدّ أن كتب: يجب أن نجهز أنفسنا لتنفيذ الترانسفير، وفي رسالة منه لولده كتب يقول أيضاً: يجب علينا أن نطرد العرب وأن نأخذ أماكنهم وأن نستخدم القوّة إذا لزم الأمر... وذلك لنضمن حقنا في الاستيطان في هذه الأماكن، وبعد هذا سيكون لنا قوّة تحت طوعنا لقد مهدت الأيديولوجية الصهيونية الطريق وعززت الآليات اللازمة للتراسنفير الذي سيتم تطبيقه على مدار الستة عقود التالية.
وكما يطرح الصحافي جوناثان توك في كتابه فلسطين التي تختفي، فإن إسرائيل كونت وطورت على مدار ستة عقود سياسات لتشتيت الفلسطينيين وحبسهم وإفقارهم، وفي جهد لا يكل لتدمي رهم كأمة. لقد صنعت إسرائيل الشقاء للفلسطينيين عن طريق أساليب أكثر تعقيداً كحضر التجول والحواجز والجدران والتصاريح والاستيلاء على الأراضي. لقد حولت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة إلى مختبرات للتأكد من فاعلية البنية التحتية للعزل، واقامت صناعة دفاعية مربحة عن طريق تفوقها في التكنولوجيات اللازمة لحرب المدن والسيطرة على التجمعات والعقاب الجماعي.
لقد ولدت إسرائيل من خلال الانتهاكات البشعة للحقوق الإنسانية للفلسطينيين، ولكن ليس هذا وكفى؛ وإنّما استمرت إسرائيل بعد ذلك في ممارسة سياستها العدوانية والكولونيالية في فلسطين منتجة بذلك المزيد من البؤس والشقاء. التفاصيل الواقعة لمنظومة البؤس التي أقامتها إسرائيل على الفلسطينيين تمّ توثيقها من قبل العديد من الهيئات التابعة لاتفاقيات حقوق الإنسان، ومن قبل منظمات حكومية وغير حكومية وأفراد، بالإضافة إلى مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان، وهو منظّمة أممية والأرفع من بين هذه الهيئات، وهو يقدم المساندة للمقررين والممثلين ومجموعات العمل.
قام المقرر الخاصّ الحالي ريتشارد فالك في أحدث تقرير صدر له في أكتوبر 2010 بسرد مجموعة الانتهاكات الجارية لحقوق الإنسان؛ ورغم أن التقرير لا يُعَدّ شاملاً بأي حال، إلا أنـّه يقدم عرضا لاذعا للحقيقة البشعة للاحتلال. وبعد أن أتى فالك على ذكر إخفاقه المستمر في الحصول على تعاون إسرائيلي بموجب ما تخوله له مهمته، أكّد على حقيقة أنـّه وكالمتعاد، فإن هناك مخاوف جادة بخصوص حقوق الإنسان والمرتبطة بالاحتلال الذي تمارسه إسرائيل أكثر ممـّا يمكن أن يعرض له هذا التقرير، حيث أنـّه يتبع معايير الأمم المتّحدة فيما يتعلق بالحد الأقصى لعدد الكلمات. ولكي نتحاشى إعطاء انطباع بأن مخاوف سابقة لم تعد موجودة، فإن المقرر الخاصّ يؤكّد وجود انتهاكات مستمرة للقانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان نابعة، من بين أشياء أخرى، من القضايا المعروض لها أدناه.
ثمّ بعد ذلك أثبت لمرة أُخرى أن الخطر المحدق بحقوق الإنسان ناتج عن طول فترة الاحتلال الذي تمارسه إسرائيل على الأرض الفلسطينية، وأن أهمّ هذه الحقوق، من وجهة اعتقاده، هو الحقّ في تقرير المصير. ثمّ إنه عبر عن مخاوفة بخصوص انتهاكات حقوق الإنسان الناتجة عن إنشاء الجدار غير القانون مؤكداً على المنحي الشديد الوطئة والسريع لسياسة إسرائيل الاحتلالية بما يتعارض أيضاً والقانون الدولي. هذا التفسير القانوني المعتمد لواجبات إسرائيل الدولية، والذي صادقت عليه الجمعية العامّة في قرارها 15/10 – ES، لقي رفضاً شديداً من جانب إسرائيل، وبدون أن يحدث هذا الرفض أي رد فعل دولي.
أحد أهمّ المسائل وأكثرها وجاهة من بين التي طرحها فولك كانت الانتقائية الجديرة باللوم للمجتمع الدولي في تطبيقه لقوانين حقوق الإنسان، فهو يقول: هناك في الوقت الحاضر قضيتين متصلتين، الأولى هي رفض إسرائيل الالتزام بواجباتها بموجب القانون الدولي في إداراتها للأراضي الفلسطينية المحتلّة، والثانية هي عدم قيام الأمم المتّحدة باتخاذ خطوات فعالة كرد فعل لها على الانتهاكات المستمرة والصارخة والممنهجة للحقوق الأساسية للفلسطينيين الذي يعيشون تحت الاحتلال، رغم أن خطوات كهذه من المتوقع لها أن تحظى باهتمام أكبر في ضوء ما أقدم عليه مجلس الأمن من تبنيه لمسئولية حماية المبدأ (قرار 1674 لعام 2006) وللتطبيق العملي بموجب قراره 1973 لعام 2011 الذي يعطي التكليف بمهمة حماية المدنيين في ليبيا.
وسيراً على منوال نموذج لتقارير المقررين الخاصين بفلسطين السابقين عليه، قام فولك بإعادة ذكر الواجبات الأساسية لإسرائيل بموجب القانون الدولي الإنساني كقوة احتلال في الضفة الغربية، بما فيها القدس، وقطاع غزة، وأن هذه الواجبات منصوص عليها بشكل رئيس في اتفاقية جنيف الخاصّة بحماية الأشخاص المدنيين زمن الحرب والتي إسرائيل طرف فيها. ومن ثمّ يسرد أيضاً مجموعة من النصوص القانونية الدولية الأُخرى ذات العلاقة القوية فيما يخص الظروف في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، والتي منها اتفاقية حقوق الطفل التي تضم 197 دولة طرف (بما فيها إسرائيل)، والاتفاقية الخاصّة بمنع ومعاقبة جريمة الفصل العنصري.
وبعد توضيح البنود ذات العلاقة وانطباقيتها، يقوم فولك بسرد العديد من الانتهاكات التي تتضمنها السياسة الاحتلالية لإسرائيل ومن ضمنها ضم – وما تطلق عليه حتّى المصادر الإسرائيلية تهويد – القدس الشرقية؛ والتوسيع المعتمد للمساحة الجغرافية لحدود مدينة القدس؛ وعدم تمكين أكثر من 10.000 طفل فلسطيني من الحصول على تسجيل قانوني في القدس الشرقية مجبرين بذلك العائلات الفلسطينية هناك على الاختيار بين أن تبقى ملتئمة وتواجه بذلك خطر فقدانها لتصاريح الإقامة في القدس، أو أن تقبل تلك العائلات الفصل الإجباري بين أفرادها؛ والاستيلاء على مصادر المياه الجوفية لقطاع غزة المتناقصة باستمرار لاستخدامها داخل إسرائيل ومن قبل المستوطنين الإسرائيليين؛ وفرض الحصار وتطبيقه بالقوة على سكان قطاع غزة بالكامل لأكثر من أربع سنوات، ممـّا أثر بشكل جذري على الحقوق الأساسية في التعليم والسكن والصحّة؛ وتطبيق نظام إداري مزدوج المعايير في الضفة الغربية تُعطى فيه الأفضلية للمستوطن الإسرائيلي ويمارس فيه التمييز ضدّ الفلسطينيين بشكل معلن؛ والإهانة الممنهجة التي تقوم بها إسرائيل ضدّ الفلسطينيين، بمن فيهم الأطفال من أعمار صغيرة، عند الاعتقال أو السجن.
جميع انتهاكات حقوق الإنسان التي ذكرها فولك تمّ تأكيدها من قبل كلّ مؤسّسة ذات سمعة، وتأكيدات هذه المؤسسات تتضمن رأيه الذي يقول بأن غزة ما تزال تحت وطأة الاحتلال وأن وجهة نظر إسرائيل بأنها قامت بفك ارتباطها بغزة ترفضه الدوائر القانونية الدولية بالمجمل، نظراً لأن إسرائيل ما زال بيدها السيطرة على حدود غزة ومجاليها الجوي والمائي، هذا بجانب الحصار الذي تفرضه إسرائيل عليهما (والذي يحد بشدة من صناعة الصيد). ويحاجج فولك بأن هذا الوضع تسبب في وجود أزمة إنسانية مستمرة، وأن الحياة في ظل الحصار لها تأثير مدمر وأكيد على الأطفال والشباب من أوساط مختلفة، فالطلاب يمنعون من ممارسة حقهم في التعليم خارج نطاق الخيارات الضيقة والفرص المحدودة المتوفرة في قطاع غزة. إن الحصار والاحتلال يتسببان في صعوبات خاصّة للسكان المدنيين تنجم عن تطاول فترة الاحتلال، ممـّا يستدعي اتخاذ تدابير خاصّة تتيح للمدنيين الحصول على نوعية حياة جيدة عمادها التعليم والسفر والتوظيف والحياة الاجتماعية الطبيعية. لقد عانى الفلسطينيون على مدار ثلاثة أجيال وبدرجات مختلفة من حرمانهم من هذه العناصر للحياة الكريمة.
أما عن قائمة الانتهاكات الأُخرى لحقوق الإنسان التي يسردها فولك فهي تشمل الاعتقال والسجن، وهو ما يعتبره فولك مسألة ذات نتائج وخيمة من منظور حقوق الإنسان. وبحسب تقارير صادرة لشهر مارس 2009، فإن 8171 فلسطيني هم سجناء لدى إسرائيل. وبحسب منظّمة غير حكومية وهي جمعية دامير لدعم الأسرى وحقوق الإنسان، فإنه وحتّى يونيو 2011 كان لدى إسرائيل 5554 سجيناً سياسياً فلسطينياً منهم 229 تحت الاعتقال الإداري بدون أن يتمّ إدانتهم بأي جريمة، ومن بين الأسرى هناك 211 من الأطفال لم يبلغ 39 منهم السادسة عشر من العمر.
وفي هذا السياق من السجن والاعتقال هنا نماذج لأكبر انتهاكات للقانون الدولي قامت إسرائيل بارتكابها. فسياسة إسرائيل في نقل السجناء الفلسطينيين إلى مناطق داخل إسرائيل تشكل انتهاكاً لواجبات إسرائيل كقوة احتلال؛ فالمادة 76 من اتفاقية جنيف الرابعة صريحة بهذا الصدد، حيث تقول بأنه إذا ما تمّ اتهام أشخاص من البلد الواقع تحت الاحتلال بمخالفة ما للقانون فإنهم يحتجزون في بلدهم، وإذا ما تمّ إدانتهم فإنهم يقضون فترة محكوميتهم فيها.
الشهادات التي أكدت عليها مؤسسات الدامير ويوفري والعفو الدولية ومجموعات أُخرى لحقوق الإنسان تؤيد ما قال به فولك بأن أفراد العائلات محرومون تقريبا من حقّهم في الزيارة، والفرص المتوفرة لتلك العائلات هي غير ذات جدوى عملياً نظراً للنظام المنهك التي تفرضه إسرائيل في السماح بالزيارة وفي منح التصاريح اللازمة لذلك. فجميع الشبان الفلسطينيين الذكور تقريباً ممنوعون من الدخول إلى إسرائيل، وهم بذلك ليس لهم تقريباً أي فرصة لزيارة أقاربهم من الأسري. والنتيجة أن الأسير الفلسطيني يفقد الاتصال فأفراد عائلته لسنوات.
واحد الوجوه الأُخرى لنظام إسرائيل القمعي التي يذكرها المقرر الأممي هو الآثار الناتجة عن ظاهرة المستوطنات غير القانونية. وهو يؤكّد عدم قانونية جميع الأنشطة الاستيطانية الإسرائيلية؛ وهو تقييم يستند إلى التفسير المقبول للمادة 49 لاتفاقية جنيف الرابعة الذي تقول أنـّه لا يجوز للقوة المحتلّة أن تقوم بترحيل أو نقل أجزاء من سكانها المدنيين إلى المنطقة التي تحتلها، وتنطبق هذه المسؤولية سواء أكانت فلسطين تتمتع بمنزلة الدولة المستقلة أم لا. إن إسرائيل لا تزال تصر على أن الضفة الغربية هي أقرب إلى منطقة متنازع عليها منها إلى منطقة تحت احتلال؛ ولذا، فأن القانون الدولي الإنساني لا ينطبق عليها من الناحية القانونية؛ هذا بينما عمدت إسرائيل في عام 1967 إلى ضم القدس الشرقية، وما تزال ترفض منذ آنذاك التعامل معها على أنّها منطقة محتلة.
هناك توافق دولي قوي، تدعمه قرارات لا حصر لها لمجلس الأمن والجمعية العامّة وكذلك الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية العام 2004 بخصوص الجدار، على أن الضفة الغربية والقدس الشرقية محتلتان، وأن القانون الدولي الإنساني بهذا الخصوص ينطبق على وضعهما. ففي سياق الأهداف العامّة للقانون الدولي الإنساني بحماية حقوق السكان تحت الاحتلال، من الثابت بشكل يدعو للألم أن إقامة أكثر من 100 مستوطنة تضم أكثر من 500.000 مستوطن إسرائيلي والاستيلاء بذلك على بعض من أجود الأراضي وأكبر مصادر المياه، وعلى مرمى نظر المدينة التي يطالب الفلسطينيون بأن تكون عاصمتهم، يُعَدّ انتهاكاً صارخاً لحقوق الفلسطينيين وذا تأثير سلبي على الإمكانيات المستقبلية للفلسطينيين لدولة قابلة للحياة وذات سيادة.
ومن التحولات المثيرة للقلق التي ذكرها المقرر الأممي هي تزايد العنف من قبل المستوطنين في العام 2011.
فقد أفاد مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتّحدة بزيادة تفوق الـ 50 % في أحداث العنف ضدّ الفلسطينيين في الضفة الغربية، وقام بتوثيق 178 حالة لجرحي فلسطينيين خلال النصف الأول للعام 2011، وذلك بالمقارنة مع 176 حالة للسنة كلّها في 2010.
وبحسب الأنروا، فأن هناك 12 طفلا فلسطينيا جرحوا في أحداث عنف قام به المستوطنون في النصف الأول لعام 2011.
وبحسب ما ذكرته منظّمة هيومان رايتس ووتش في تقرير لها صدر في نوفمبر 2011، فإن قوّات الأمن الإسرائيلية لا تقوم بمنع المستوطنين الذين يقومون بالاعتداء على الفلسطينيين ومهاجمة أراضيهم، وأنها في واقع الأمر قامت بمهاجمة فلسطينيين احتجوا على عنف المستوطنين.
وممـّا يثبت هذا أنـّه وفي قرية فلسطينية واحدة هي القصرة، قام المستوطنون بحسب السكان هناك بتدمير 1000 من أشجار الزيتون وأنواع أُخرى، وقتل 18 حيوان مزرعة، وتخريب مسجد.
لقد روى سكان القصرة (الواقعة قرب نابلس والبالغ تعداد سكانها 6000 نسمة) لمنظمة هيومان رايتس ووتش كيف أن القوّات الإسرائيلية لم تقم بمنع هجمات المستوطنين، وكيف إنها قامت بجرح العشرات من سكان القرية بينما كان هؤلاء السكان يقومون بشكل واضح جدّاً بفض شجار مع المستوطنين فوق أحد أراضي القرية. هذه المعلومات أكدتها أيضاً جماعة حقوقية إسرائيلية هي بيتسيليم، والتي قامت بدورها بذكر سبع اعتداءات أُخرى على القصرة خلال ستة أسابيع من أوائل أغسطس وحتّى أواخر أكتوبر. وبحسب هيومان رايتس ووتش، فمن الظاهر أن بعض هذه الهجمات تندرج تحت نوع الهجمات الانتقامية المسماة دفع الثمن وهو مصطلح يستخدمه بعض المستوطنين لوصف الهجمات التي يقومون بشنها على الفلسطينيين وممتلكاتهم كاحتجاج على صدور أوامر قانونية إسرائيلية ضدّ إنشاءات استيطانية تخالف القوانين الإسرائيلية.
إن القضية الأساسية هنا هي أن الشرطة المدنية الإسرائيلية التي لديها سلطة قانونية على المستوطنين لم تقم (وفي جميع الحالات) بالتحقيق كما ينبغي في الجرائم ضدّ الفلسطينيين المتهم بارتكابها مستوطنون أو بمحاسبة مرتكبيها (الجرائم التي يرتكبها فلسطينيون ضدّ مستوطنين تخضع لسلطة القضاء العسكري).
ويلاحظ التقرير أيضاً أن القوّات الإسرائيلية قامت ولأكثر من مرّة بالتدخل فقط عندما يحاول الفلسطينيون منع هجمات المستوطنين على أراضيهم أو اعتداءاتهم على أنفسهم وممتلكاتهم، منها حالات قام فيها الفلسطينيون برشق المستوطنين بالحجارة وحالات أُخرى لم يستخدم الفلسطينيون فيها العنف. ولكنّ هذه القوّات لم تقم بأي شيء لمنع المستوطنين من ارتكاب التجاوزات، وفي بعض الأحيان قامت باستخدام القوّة المفرطة، كإطلاق الرصاص المطاطي وقنابل الغاز، ضدّ سكان القرى الذين لم يشكلوا تهديداً ظاهراً.
بطلان قانون قومية الدولة في القانون الدولي:
شكل صدور قانون قومية الدولة الصهيوني صدمة كبيرة في الأوساط القانونية والسياسية على مستوى العالم، ولكنّ ردّة الفعل الرسمية لم تكن على المستوى المطلوب بما يناسب حجم الحدث الذي يعتبر سابقة أولى وخطيرة في القانون الدولي ويعتبر إمعان في خرق ميثاق الأمم المتّحدة وانتهاك صارخ للقانون الدولي لحقوق الإنسان وهدم لمبادئ أساسية وراسخة في القانون الدولي العام والشرعية الدولية.
ويكفي لتقدير خطورة هذا القانون ان نذكر أنـّه صدر بعد أكثر من سبع سنوات من الجدل القانوني الكبير بين قيادات الاحتلال الصهيوني، وبعد مناقشات طويلة بين أعضاء الكنيست الإسرائيلي انتهت فجر يوم الخميس الموافق 19 يوليو/ تموز 2018 م بالمصادقة النهائية وبالقراءتين الثانية والثالثة على قانون أساس – قومية الدولة بأغلبية كبيرة، حيث أيّد القانون 62 عضوا مقابل معارضة 55 عضو وامتناع نائبين عن التصويت.
وينص هذا القانون العنصري على أن:
أرض إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي، وفيها قامت دولة إسرائيل.
دولة إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي، وفيها يقوم بممارسة حقّه الطبيعي والثقافي والديني والتاريخي لتقرير المصير.
ممارسة حقّ تقرير المصير في دولة إسرائيل حصرية للشعب اليهودي.
القدس الكاملة والموحدة هي عاصمة إسرائيل.
اللغة العبرية هي لغة الدولة الرسمية الوحيدة.
الدولة مفتوحة أمام قدوم اليهود ولم الشتات.
تطوير الاستيطان اليهودي قيمة قومية وتعمل لأجل تشجيعه ودعم اقامته وتثبيته.
ومن هنا يثبت بشكل قاطع أن هذا القانون يمثل في جوهره قانون يشرّع التمييز العنصري على أساس الدين ويؤكّد حقيقة يهودية الدولة حيث أنـّه يمنح التفوق والسمو على أساس ديني بحث لاتباع لديانة اليهودية فقط، وهذا مبعثه وازع عقائدي إيماني لدى اليهود بأنهم شعب الله المختار وأنهم عرق سامي متفوق على بقية شعوب العالم ولهم حقوق خاصّة بهم لا يشاركهم بها بقية البشر وأن دماءهم طاهرة وأن نقاء عرقهم يوجب عدم اختلاط الدم اليهودي بدماء الاخرين، وأن فلسطين المحتلّة هي أرض إسرائيل أرض الميعاد ولجميه يهود العالم الحقّ في العودة إليها ويجب طرد أي شعوب أرى منها.
ويعتبر هذا القانون أخطر القوانين العنصرية التي فرضها الاحتلال الاسرائيلي بعد سبعين عاماً من عمره، ويتجاوز في شروره إعلان بلفور ووثيقة صك الانتداب نفسها، ويرسخ زرواً الحقّ التاريخي لليهود في فلسطين استنادا لعقيدة دينية تقوم على تفوق وسمو اليهود على باقي البشر، وهذا هو جوهر جريمة التمييز العنصري والفصل العنصري المؤتمتين في القانون الدولي.
فالتمييز العنصري سلوك لا إنساني وغير فطري وفي الجانب الأخلاقي وهو مصطلح كريه تشمئز منها النفوس البشرية والضمير الإنساني وهو أبغض البغيض، ويعتبر التمييز العنصري جريمة دولية تصنف على أنّها أم الكبائر في القانون الدولي لحقوق الإنسان واصل جميع الشرور في العالم، والمحفز الأول لأبشع الجرائم وأغلظها من قتل وإبادة جماعية وتطهير عرقي وتعذيب وغيرها.
لذا فالقانون الدولي العام والقانون الدولي الجنائي والقانون الدولي لحقوق الإنسان والقرارات الأممية وكافة المواثيق والصكوك العالمية لحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية ذات العلاقة جميعها تجرّم التمييز العنصري بكافة أشكاله ومظاهره وتعتبر الفصل العنصري جريمة ضدّ الإنسانية ومن الجرائم التي لا تتقادم زمنياً بمرور الوقت، ويلزم جميع الدول بمكافحة التمييز العنصري ومناهضته واتخاذ كافّة التدابير اللازمة للقضاء عليها وبذل ما في وسعها في سبيل ذلك. وكما يلزم القانون الدول بتامين الحماية القانونية للأفراد من هذا التمييز أو التحريض عليه ويعطي الشعوب والافراد الحقّ في مقاومة هذا التمييز والتصدي له. ويجرّم الانتماء للمنظمات والجماعات التي تدعو للتمييز العنصري أو تشجّعه أو تحرض عليه.
ونؤكد أن قانون أساس قومية الدولية هو قانون باطل وفق أحكام القانون الدولي والمواثيق والاتفاقيات الدولية، ولا يرتب أي آثار قانونية البتة لا بل يستوجب المساءلة والمحاسبة في إطار الشرعية الدولية وميثاق الأمم المتّحدة، ويمثل تهديد خطير للسم والأمن العالميين، وبطلان هذا القانون يثبت من عدّة جوانب:
1 ـ يعتبر هذا القانون سابقة خطيرة وانتهاك صارخ لقواعد ومبادئ القانوني الدولي والشرعية الدولية، فكل مادة فيه تهدم مبدأ قانوني أو قاعدة قانونية آمرة في القانون الدولي، حيث أنـّه يقرر مبدأ إباحة التمييز العنصري على أساس الديانة اليهودية ويؤسس لإدامة هيمنة من يسمونهم الشعب اليهودي على الشعب الأصلي الفلسطيني سكان الأرض الأصليين واضطهادهم بممارسات ممنهجة، كما أنـّه يهدف إلى تقنين جريمة الفصل العنصري المؤثمة كجريمة ضدّ الإنسانية حسب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
2 ـ يشكل مخالفة جسيمة وخرق فاضح لكافة المواثيق والصكوك العالمية والاتفاقيات الدولية الخاصّة بحقوق الإنسان التي تؤكد جميعها على مبدأ الاعتراف بالكرامة الإنسانية الأصيلة للإنسان لجميع البشر ومبدأ المساواة بين جميع البشر في الحقوق والحريات الأساسية والتي جرمت العنصرية وجميع أشكال ومظاهر التمييز العنصري بين البشر على أساس العرق أو الدين أو اللون أو الجنس أو اللغة أو أي وضع آخر مهما كان.
3 ـ يعتبر مخالفة جسيمة لميثاق الأمم المتّحدة وهدم لمبدأ أصيل وراسخ في القانون الدولي وهو سمو القانون الدولي على القانون الداخلي حيث لا يجوز لأي دولة – تحت أي ظرف كان – أن تسن تشريعات وقوانين تخالف وتتعارض مع قواعد قانونية آمرة في القانون الدولي أو الاتفاقيات الدولية المنضمة لها.
4 ـ يشكل القانون مخالفة صريحة لقرار الجمعية العامّة للأمم المتّحدة رقم 194 والمعروف بحث عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي هجروا منها قسراً.
5 ـ يمثل القانون هدم لأحد أهمّ المبادئ القانونية الأصيلة والراسخة في القانون الدولي وهو مبدأ حقّ جميع الشعوب في تقرير مصيرها دون تفرقة وهو حقّ طبيعي وحق قانوني أصيل للشعوب جميعاً على قدم المساواة حقّ غير قابل للتصرف. مبدأ عالمي إنساني راسخ وقاعدة قانونية آمرة في القانون الدولي ولا تملك أي دولة أو حتّى منظّمة دولية بما فيها الأمم المتّحدة نفسها ان تخالفه سواء عن طريق قرار أو معاهدة أو اتفاقية أو قانون.
وسنستعرض تالياً المواثيق والصكوك الدولية والاتفاقيات التي ينتهكها قانون القومية الصهيوني:
المواثيق الدولية والصكوك العالمية والاتفاقيات الدولية التي ينتهكها قانون قومية الدولة:
1 – ميثاق الأمم المتّحدة الصادر بمدينة سان فرانسيسكو في 26 يونيو سنة 1945 م.
2 – الاعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 ديسمبر سنة 1948 (اعلان باريس).
3 – إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة الصادر في 14 ديسمبر 1960.
4 – إعلان الأمم المتّحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري الصادر في 20 نوفمر 1963.
5 – العهد الدولي الخاصّ بالحقوق المدنية والسياسية الصادر في 19 ديسمبر سنة 1966.
6 – العهد الدولي الخاصّ بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادر في 19 ديسمبر 1966.
7 – إعلان منظّمة اليونسكو بشان العنصرية والتحيز العنصري الصادر في 27 نوفمبر 1978.
8 – إعلان الأمم المتّحدة بشان القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين الصادر في 25 نوفمبر 1981.
9 – إعلان الأمم المتّحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية الصادر في 13 سبتمبر 2007 م.
10 – نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المعتمد في روما في 17 تموز/ يوليو 1998.
الاتفاقيات الدولية التي ينتهكها قانون قومية الدولة (دولة الاحتلال الإسرائيلي موقعة عليها):
1 – الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري المعتمدة بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتّحدة رقم 2106 الصادر في 21 ديسمبر لسنة 1965 م.
2 – الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها المعتمدة بموجب قرار الجمعية العامّة للأمم المتّحدة رقم 3068 (د – 28) الصادر في 30 نوفمبر 1973.
الإجراءات الواجب اتخاذها حيال قانون قومية الدولة:
وأمام إمعان الكيان الصهيوني المستمر في انتهاك حقوق شعبنا الفلسطيني وخرق قواعد القانون الدولين، وإصراره على تقويض وهدم الشرعية الدولية وأمام التحدي السافر للقرارات الأممية بشكل عمدي وغير مسبوق بما يثمل تهديد خطير للسلم والأمن الدوليين، فقد بات لزاماً على دول العالم أن تتّخذ موقف حاسم جاد وتاريخي وتباشر باتخاذ اجراءات وتدابير عملية سريعة وحازمة لردع الكيان الصهيوني وأقلها إعلان الصهيونية كشكل من أشكال الفصل العنصري ومقاطعته ونزع الشرعية عنه وتجريده من الشخصية القانونية الدولية وطرده خارج المنظومة الدولية، لذا وانطلاقاً من أحكام القانون الدولي نطالب المجتمع الدولي ممثلاً بالسيّد / غوبيرتيس بصفته الأمين العام للأمم المتّحدة وكافة دول العالم الحر بتحمل مسؤولياتها القانونية والأخلاقية والقيام بواجباتها لتنفيذ القرارات الأممية النافذة بحقّ دولة الكيان الصهيوني وإنهاء الاحتلال، ونطالب المنظمات الدولية ومؤسسات حقوق الإنسان العالمية ومؤسسات المجتمع المدني بفضح سياسة الاحتلال العنصرية في الاعلام واظهار حقيقته أمام الرأي العام العالمي، ونوصي باتخاذ الاجراءات القانونية التالية:
أولاً – تقديم شكوى إلى المقرر الخاصّ المعني بالاشكال المعاصرة للعنصرية والتمييز العنصري وكره الأجانب وما يتصل بذلك من تعصب في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتّحدة.
ثانياً – مطالبة الدول العربية والإسلامية باتخاذ قرار جماعي عاجل بسحب الاعتراف بدولة إسرائيل وقطع كافّة العلاقات مع الكيان الصهيوني بما فيها (العلاقات الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية والرياضية والسياحية... الخ).
ثالثاً – مطالبة الدول العربية بالتوجه إلى الأمم المتّحدة (الجمعية العامّة ومجلس الأمن الدولي) لاستصدار القرارات الآتية:
1. إنهاء عضوية دولة إسرائيل وفصلها من منظّمة الأمم المتّحدة بسبب إمعانها في انتهاك مبادئ الميثاق وذلك استناداً لأحكام المادة (6) من الميثاق.
2. إلغاء قرار الجمعية العامّة رقم 46/86 الصادر في 16 ديسمبر سنة 1991 القاضي بإلغاء القرار 3379 الصادر في 10 نوفمبر سنة 1975 رقم 8 القاضي بإلغاء القرار الذي كان ينص على أن الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، وطالب القرار جميع دول العالم بمقاومة الأيدولوجية الصهيونية التي تشكل خطراً على الأمن والسلم العالميين.
3 ـ قرار بمقاطعة دولة الاحتلال الاسرائيلي على كافّة الأصعدة سياسياً واقتصادياً وثقافياً ورياضياً وسياحياً.. الخ.
ثالثاً – مطالبة المدعية العامّة للمحكمة الجنائية الدولية بمباشرة التحقيق الفوري في ملف جرائم الاحتلال ضدّ مسيرات العودة والذي تمت إحالته رسمياً منذ 22 مايو 2018 م ورفض التأخير غير المبرر في استكمال الاجراءات القانونية حسب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
رابعاً – التوجه إلى منظّمة الأمم المتّحدة للتربية والعلم والثقافة اليونسكو لاستصدار إعلان خاصّ بمناهضة الصهيونية بوصفها شكل من أشكال التمييز العنصري.
خامساً – تقديم شكوى إلى اللجنة التنفيذية في الاتحاد البرلماني الدولي لإلغاء عضوية الكنيست الإسرائيلي في الاتحاد عملاً بأحكام المادة الرابعة من النظام الأساسي للاتحاد البرلماني الدولي لانتهاكها النظام الأساسي تشريعها قوانين تنتهك حقوق الإنسان الفلسطيني وتهديدها للسلم والأمن الدوليين وتخالف القرارات الأممية ومبادئ القانون الدولي.