العوامل المساعدة للخروج من الأزمات
العوامل المساعدة للخروج من الأزمات
الشَّيخ شعبان رمضان موباجي
مفتي جمهورية أوغندا
1 ــ جذور وأسباب الأزمات الراهنة في العالم :
إن القراءة العلمية والتأملية للواقع البشري تؤكد أن العالم يتجه نحو مزيد من التداخل والتشابك ولا شك أن روافع واذرع ظواهر العولمة بدأت اثارها تتضح أكثر في رسم مقاربة لعالم كوني جديد ، ستطوي الامتدادات الكونية بين دفتيها منطلقة وبقوة نحو صياغة ملامح ثقافية وسلوكية كونية عامة واقتصادية وسياسية وإعلامية واجتماعية وأنماط عيش وتأسيس قوانين وتشريعات موحدة على حساب دول العالم المغلوب على امرها كل ذلك يسير باتجاه تشكيل واقع جديد وأي تعثر أو إعاقة للواقع الجديد لن يتحمل المجتمع الدولي المسؤولية بل سوف تحمله برمته على دول الجنوب. رغم الادعاء أن إرادة تحقيق التنمية للمجتمعات والوقوف إلى جانب المعوزين والفقراء وخلق الاستقرار مسؤولية أخلاقية على الجميع وبرز من بين اهمها الازمات التي تعتري العالم اليوم ومنها كشف الفساد في أية بقعة من العالم باعتباره وباء مدمرا سريع الانتشار وله القدرة التدميرية لتعطيل الحياة وإعاقة المسارات العلمية المتقدمة.
فعالم اليوم وربما الغد اصبح مرتعا خصبا ومطبخا لانتاج الازمات التي يزداد عددها وتتنوع في توجهاتها وهذا مايستدعي توفر ارادة حقيقية وجهودا منظمه لمواجهتها .. وتحدث اغلب الأزمات في المجتمعات والانظمة نتيجة تغييرات مفاجئة تطرأ في بئائها الداخلي أو الخارجي بعيدا عن التوقع أو فرض لتجنبها , وكثيرًا ما يقال إن كل أزمة تحتوي بداخلها بذور النجاح وجذور الفشل أيضًا .
إن مجالات الأزمات الإدارية كثيرة ومتعددة ولا نستطيع حصرها أو تصنيفها بل يمكن القول إن الأزمات المرتبطة بالإنتاج قد تأتي عن فشل مفاجئ أو عوارض أجنبية أو إهمال تاريخي او وباء او كوارث بشرية او طبيعية . كما أن بعض الأزمات تحدث خارج نطاق سيطرة الجهات المعنية .وقد تحدث بعض الأزمات نتيجة تسرب معلومات هامة وأحيانًا سرية كاستراتيجيه أو خطة جديدة أو مشروع جديد إلى خارج المنظمة فيحدث عكس ما هو مخطط له .
ان إدارة الأزمات لها أسس عامة يجب أن تترجم إلى خطة جاهزة للتطبيق في أي طارئ تعتمد السرعة والعمل الجماعي والأساليب العلمية والهدوء وعدم الانفعال طيلة فترة معالجة الأزمة، الاهتمام بالعلاقات الإنسانية وتشجيع المبادرات والإبداعات وبث روح الحماس بين العاملين، الابتعاد عن البيروقراطية، الاهتمام أولا بتطويق الأزمة وعدم السماح بتوسعها، تقييم دروس الأزمة لضمان عدم تكرارها، تقسيم العمل على مراحل أو فعاليات متسلسلة لمواجهة الأزمة، تحديد المستلزمات المادية وعدد الأجهزة والمعدات والآليات ووسائل الاتصالات وبالحد الكافي وحسب متطلبات الأزمة.
2 ــ دور العلماء و الأحزاب والتنظيمات السياسية
تقع المنازعات بين الدول كما تقع بين الأفراد، وهي كانت وما تزال قائمة وستبقى هكذا رغم محاولات الإقلال منها.
ولقد كان القانون الدولي، عبر تاريخه، معنياً دوماً بحل المنازعات الدولية، وهذا أمر طبيعي ومنطقي، طالما أن معالجة المنازعات هي أحد الأهداف الرئيسية لأي قانون وعلى أي مستوى. ويتبع القانون في ذلك إحدى طريقتين: أما منع وقوعها أصلاً أو تسويتها بعد وقوعها.
ومع مرور الزمن تبين لرجال السياسة ولفقهاء القانون أن المنازعات تكون على أنواع مختلفة من حيث نشأتها، ولذلك كان لا بد من تطوير إجراءات وحلول تختلف باختلاف أنواع المنازعات، بحيث تحقق أقصى درجة من الفعالية.
وقد اصطلح فقهاء القانون الدولي على تصنيف المنازعات في نوعين رئيسيين: منازعات سياسية ومنازعات قانونية، وأن كان قد ظهر مؤخراً نوع ثالث هو المنازعات الفنية التي يتجه كل فرع منها إلى التسوية من قبل هيئة متخصصة تكون على إلمام بالمشاكل الفنية التي تنطوي عليها المنازعات.
وجرت محاولات عدة لرسم الحدود بين المنازعات السياسية والمنازعات القانونية، وكان الأساس في هذا التمييز أن الأولى "لا تصلح لأن تنظر فيها محكمة".
(nonjusticiable). وقصد بذلك المنازعات التي تلعب فيها الاعتبارات السياسية دوراً مهماً (كالمصالح الوطنية الحيوية، والمصالح الاقتصادية الخ...) في حين أن الثانية "تصلح لأن تنظر فيها محكمة (justiciable) وقصد بذلك ليس فقط المنازعات التي تنطوي على مسألة قانونية.
وإنما أيضاً تلك المنازعات التي تتصل بالقانون اتصالاً وثيقاً بحيث يمكن اللجوء إليه لتسويتها، وقد أصبح هذا التمييز مقبولاً. وأدخل في بنود عدد من اتفاقيات التحكيم. ومن ذلك ما جاء في "اتفاقية تسوية منازعات الاستثمار بين الدول المضيفة وبين مواطني الدول العربية" والمصدقة بموجب المرسوم التشريعي رقم 108 وتاريخ 25/9/1974 حيث نصت المادة الثانية منها على ما يلي:
"تهدف الاتفاقية إلى حل أي نزاع قانوني ينشأ مباشرة عن أحد الاستثمارات بين الدولة العربية المضيفة أو احدى هيئاتها أو مؤسساتها العامة وبين مواطني الدول العربية الأخرى، سواء أكان شخصاً طبيعياً أو معنوياً، بما يضمن إيجاد مناخ ملائم يسهم في تشجيع قيام الاستثمارات العربية بصورة متزايدة داخل الدول العربية"
ولا بد من الإشارة هنا إلى أنه يصعب عملياً فصل الاعتبارات السياسية عن الاعتبارات القانونية. ولذلك يميل معظم الفقهاء اليوم إلى اعتبار أن هذا التمييز يعتمد على مواقف أطراف النزاع.
فإذا كان هؤلاء ينشدون فقط حقوقهم التي يتمتعون بها بموجب أحكام القانون فالنزاع قانوني ولا شك.
أما إذا طالب أحد أطراف النزاع أو جميعهم ليس فقط بحقوق قانونية، وإنما أيضاً بتحقيق مصلحة خاصة ما، حتى ولو تطلب ذلك تغييراً في الوضع القانوني القائم، فالنزاع سياسي بلا شك، ومن ذلك قيام دولة أو مجموعة اقتصادية كالمجموعة الاقتصادية الأوربية بفرض قوانين حماية جمركية ضد بعض منتجات دولة أو مجموعة اقتصادية كمجموعة دول مجلس التعاون الخليجي مثلاً تعتبر منافسة لمنتجاتها. والتمييز بين المنازعات السياسية والمنازعات القانونية المبني على مواقف أطراف النزاع، إنما يأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن الدول تنظر في المجتمع الدولي الحالي إلى قرار مبني على أحكام القانون على أنه وسيلة مرضية لتسوية المنازعات الدولية في بعض الأحيان، ولو أنها لا تنظر إليه على هذا النحو في أحيان أخرى.
ولقد اصطلح المؤلفون في القانون الدولي على تقسيم حلول المنازعات الدولية إلى نوعين: حلول ودية وحلول غير ودية، وقسموا الحلول الودية بدورها إلى حلول سياسية وحلول قانونية.
أما الحلول غير الودية فهي بطبيعتها حلول سياسية، حيث اصطلح على تسميتها بدبلوماسية العنف وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحلول الودية، سياسية كانت أم قانونية، هي المدخل الطبيعي والإيجابي والأكثر فاعلية في استمرار علاقات طبيعية ومتوازنة بين أطراف النزاع.
وعلى هذا فسنبحث الحلول الودية للمنازعات الدولية في فرعين أحدهما للحلول السياسية الودية والثاني للحلول القانونية متجاوزين في ذلك الحلول السياسية غير الودية للأسباب المسرودة أعلاه.
3 ــ دور وسائل الإعلام والصحافة في الخروج من الأزمات
يعتبر الإعلام أهم وسيلة من وسائل التأثير الجماهيري، وقد لعبت دوراً كبيراً في حياة المجتمعات الإنسانية، ففي العصر الجاهلي وجدنا القبائل لم تحقق بشئ قدر إحتفائها بظهور الشعراء فيها، لأن الشاعر كان لسان قبيلته، والمدافع عنها أمام الآخرين، أي أنه كان وسيلتها الإعلامية وقتذاك:
1- فالإعلام ظاهرة اجتماعية قديمة أنشأت تطورات مع نشوء وتطور الجماعة البشرية لتتلاءم في النهاية، مع شكل المجتمع واحتياجاته، الأمر الذي تطلب وجود وسائل إعلام تستجيب لحاجات المجتمع، وتحقيق الوظيفة الأزلية للاتصال.
2- وكان الخبر ينتشر بين الناس من خلال بعض الأفراد المقربين من الحكام وقد أطلق عليهم أو عرفوا بالناقلين أو المروجين.
3- وعند التطرق للمدلول اللغوي لكلمة إعلام نجد أنها تعني "القيام بنشر معلومات الغاية منها إفادة المطلعين عليها وإيقافهم على معارف أو حقائق أو مواقف" أما وسائله فهي كثيرة لا تكاد تحصى منها: الصحف وجميع أنواع النشرات والدوريات والإذاعة والتليفزيون والانترنت والسينما والمسرح والخطابة والمحاضرات... الخ، وكل نوع يوجه إلى فئة من الناس ويعرض بطريقة موافقة للمستوى الذي يوجه إليه.
4- ويؤكد علماء الاجتماع والنفس بان الإعلام بوسائله المتعددة هو أكثر وسائل التأثير على عقول وأفكار الناس، وبذلك فإنه الوسيلة الأولى التي تشكل اتجاهات الناس نحو المواضيع والمواقف الحياتية اليومية التي تعيشها وتواجهها المجتمعات العالمية، وأصبح الإعلام يستخدم في التنظيم والبناء الاجتماعي المتكامل من اجل مصلحة الفرد والمجتمع ككل في شتى مجالات الحياة المعاصرة سواء في الجوانب الاجتماعية، أو الاقتصادية، أو السياسية، وبالتالي الأمنية على كافة المستويات المتصلة بها.
ومع التطورات الهائلة التي شهدها العالم منذ أواخر القرن العشرين حتى الآن، وخاصة في مجال الاتصال وتكنولوجيا المعلومات أصبح العالم قرية كونية صغيرة لا يمكن فصلها إعلامياً، فقد أصبحنا نعيش عصر الأقمار الصناعية وما تنقله من معلومات وأخبار، وما أحدثته من تقارب ثقافي ومعرفي أتاح اطلاع الفرد على أحداث العالم حين حدوثها، مما زاد تأثير الإعلام ووسائله وقدرته على الهيمنة على الأفراد والمجتمعات.
والأمن لا يقل اهمية عن الإعلام فهو من الاحتياجات الأساسية للفرد والمجتمع، فقد اتسع تأثير الإعلام ليشمل كل جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية، والسياسية، والبيئة، والثقافية، والوطنية.
ومع التطور في المجتمعات كان لابد أن ينشأ مفهوم جديد يساير التقدم الذي حدث في المجال الأمني، هذا من الجانب الأمني، أما جانب الإعلام فقد اعتراه التطور الكبير أيضا، الأمر الذي أدى إلى زيادة التدفق الإعلامي عبر الوسائل المختلفة التي تنقل الأخبار لاسيما الأمنية فتعددت المصادر ولم تعد الجهات الأمنية قادرة بان تكون مصدراً للأخبار في الوقت ذاته. إذ تتصف الأجهزة الأمنية دائما بالتكتم والسرية إزاء الموقف التي تتطلب الصراحة والوضوح.
وتزايد تأثير الإعلام في العصر الحاضر خاصة بعد القفزة الإعلامية في مجال تكنولوجيا الاتصالات. ويعتبر الإعلام الأمني من المفاهيم الحديثة التي ظهرت على الساحة الإعلامية نتيجة لتطور الحياة الاجتماعية في العقد الأخير من القرن العشرين خاصة، وكنتيجة للتقدم المذهل لوسائل الإعلام والحاجة إلى الاستفادة من إمكانات وسائل الإعلام المختلفة، كوسائل تأثير فعالة ساعدت العديد من المؤسسات على تحقيق أهدافها وتحسين صورتها لدى المتعاملين معها.
ويلعب الإعلام الأمني دوراً مهماً في مجال الأمن وتقريب المسافات ما بين الإعلام والأمن وإيصال المعلومة الأمنية وتزويد المتلقي بالمعارف الأمنية والمعلومات التي ظلت حكراً على الأجهزة الأمنية والأنظمة الحاكمة فترات طويلة من حياة المجتمعات، فكان الناس عرضه للإشاعات والأحاديث المتناقلة التي يعتريها الزيادة والنقصان دائماً. كما يتيح الإعلام الأمني المعرفة التامة بالقضايا الأمنية بعيداً عن حجب المعلومات وإخفائها.
ويقوم بالدور التوعوي ويقدم النصح للمجتمع فيما يتعلق بإجراءات حماية الأرواح والممتلكات العامة والخاصة، وكل ما من شانه أن يجنب المواطن من الوقوع في الجريمة، والترهيب من عواقب ارتكابها على الفرد والمجتمع، كما يؤكد الإعلام الأمني دوره وأهميته من خلال العمل على مساعدة العاملين في سلك الأمن في القيام بواجبهم ورفع روحهم المعنوية إزاء ما يقومون به من أعمال في سبيل الحفاظ على سلامة واستقرار المجتمع.
أولا: مفهوم الإعلام الأمني: تواجه الدراسات الإعلامية صعوبة شديدة في محاولة وضع مفاهيم وتعريفات أساسية لبعض المسميات ومنها الإعلام، والاتصال، ويعرف شرام الاتصال بأنه: مجهود هادف يرمي إلى توفير أرضية مشتركة بين المصدر والمستقبل.
كما يعرف الإعلام بأنه: كافة أوجه النشاط الاتصالية التي تستهدف تزويد الجمهور بكافة الحقائق والأخبار الصحيحة والمعلومات السليمة عن القضايا والموضوعات والمشكلات ومجريات الأمور بطريقة موضوعية وبدون تحريف، بما يؤدي إلى تكوين اكبر درجة ممكنة من المعرفة والوعي والإدراك والإحاطة الشاملة لدى فئات جمهور المعلقين للمادة الإعلامية بكافة الحقائق والمعلومات الموضوعية الصحيحة عن هذه القضايا والموضوعات، وبما يساهم في تنوير الرأي العام وتكوين الرأي الصائب لدى الجمهور في الوقائع والموضوعات والمشكلات المثارة والمطروحة.
أما التعريف اللغوي المجرد للأمن فهو نقيض الخوف، قال تعالى: " فليعبدوا رب البيت(3)، الذي أطعهم من جوع وآمنهم من خوف (4) ، فقد تعددت التعاريف التي تناولت مفهوم الأمن واختلفت فيما بينها لاختلاف الاهتمام والتخصصات للباحثين.
فالبعض عرف الأمن بأنه "ثمرة الجهود المبذولة والمشتركة من قبل الدولة والأفراد من خلال مجموعة الأنشطة والفعاليات في شتى مجالات الحياة للحفاظ على حالة التوازن الاجتماعي في ذلك المجتمع.
كما عُرف بأنه "الإحساس الذي يمتلك الإنسان بالتحرر من الخوف من أي خطر يواجهه". لذا يعتبر الإعلام أداة فعالة من أدوات الأمن لخلق حلقة من التواصل والترابط مع الجماهير، لذلك تُعد وظيفة مهمة من وظائف الجهاز الأمني بما يحققه من خلق وعي جماهيري بأنشطته وأدائه لرسالته الأمنية، وتبصيره بالمخاطر وكيفية الوقاية منها. والمعلومات، ولذلك برز مفهوم الإعلام الأمني لتوضيح الحقائق وتوعية الرأي العام، وتدعيم العلاقة بين الأجهزة الأمنية والجمهور بما يكفل تحقيق التعاون لمواجهة الجريمة والقضاء عليها.
وهناك محاولات كثيرة، ذهبت إلى وضع تعريف محدد للإعلام الأمني، وقد اتسمت هذه المحاولات في المراحل الزمنية الأولى بالغموض والتشتت في تحديد ماهية مفهوم الإعلام الأمني، ثم تراجع الغموض رويداً رويداً حتى بلور بوضوح مفهوم الإعلام الأمني.
لذلك فإن الإعلام الأمني يقوم على فلسفة إعلامية تعتمد على زيادة التأثير والفاعلية لما يصدر عن وسائل الإعلام العامة والمتخصصة في المجال الأمني من نشاطات إعلامية ذات صبغة أمنية تقدم من خلال وسائل الإعلام المختلفة بهدف دعم الثقافة الأمنية بكل مقومات التوعية الأمنية المتوازنة التي تكفل امن الإنسان وحريته وسلامته في شتى مجالات الحياة.
ومصطلح الإعلام الأمني هو مصطلح حديث النشأة ذو دلالة على الأمن الداخلي للدولة والمجتمع أكثر من غيره من أنواع الأمن (كالأمن الاقتصادي، والأمن البيئي، والأمن الغذائي)، ويساهم في خدمة امن المجتمع واستقراره، مرتكزاً على المخزون الفكري والثقافي للأمة.
وعُرف الإعلام الأمني بأنه "الجهود الإعلامية المبذولة من خلال وسائل الإعلام المختلفة لإلقاء الضوء على العمل الشرطي بوجه عام، والعمل على تكوين صورة طيبة عن الشرطة في أذهان الجماهير".
ويرى الدكتور على عجوة أن الإعلام الأمني هو "المعلومات الكاملة والجديدة والمهمة التي تغطي كافة الأحداث والحقائق والأوضاع والقوانين المتعلقة بأمن المجتمع واستقراره، والتي يعد إخفاؤها أو التقليل من أهميتها نوعاً من التعتيم الإعلامي. كما أن المبالغة في تقديمها أو إضفاء أهمية اكبر عليها يعد نوعاً من التأثير المقصود والموجة لخدمة أهداف معينة قد تكون في بعض الأحوال نبيلة ومنطلقة من المصلحة العامة.
وينفي الدكتور على عجوة عن هذا النشاط مفهوم الإعلام بالمفهوم العلمي، ويعتبره نوعاً من الدعاية البيضاء أو التوعية. وأن هذا المصطلح يقتصر على الوظيفة الإدراكية التي ينبغي أن تتلوها وظائف أخرى هي الاهتمام والتقويم والتجريب أو المحاولة.
وأخيراً الممارسة أو التبني الكامل للفكرة المطروحة. وذلك في إطار دراسات التبني التي ارتبطت بعمليات انتشار الأفكار المستحدثة. ويضيف الدكتور على عجوة أن التعريف السابق للإعلام الأمني لا يكفي لتحقيق الاستقرار والأمان للمجتمع، لان السبب – كما يرى:-
أن حالة الاستقرار تتطلب نوعا من السلوك واليقظة والتعاون من جانب الجماهير مع رجال الأمن. ويرى أيضا أنه لا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال رد الفعل التلقائي الطبيعي الذي يصدر عن الجماهير في أعقاب الأحداث أو المشكلات التي تهدد امن المجتمع واستقراره، أو من خلال عرض القوانين الجديدة أو تقديم بعض الحقائق الأمنية المرتبطة بأمن المجتمع وسلامته. وعليه فإن الإعلام الأمني يجب أن يكون أكثر اعتماداً على فنون اتصالية أخرى إلى جانب الإعلام لخلق حالة من التأهب والاستعداد لدى الجماهير للسلوك الايجابي الفعال في مواجهة محاولات الاعتداء على الاستقرار والأمن أو تهديدهما بأي شكل من الأشكال. كما عرف اللواء إبراهيم ناجي، الإعلام الأمني بأنه.
مختلف الرسائل الإعلامية المدروسة التي تصدر بهدف توجيه الرأي العام لتحقيق الخطة الشاملة والتصدي للأسباب الدافعة لارتكاب الجريمة والتوعية بأخطار ومخاطر الجرائم وإرشاد المواطنين بأسلوب يضمن عدم وقوعهم فريسة للجريمة أو التورط في ارتكابها، وكذا تبصير الجمهور بأساليب الوقاية من الجريمة من خلال تدابير مختلفة، وتنمية حسهم الأمني وإشعارهم بمسئوليتهم الجماعية عن مكافحة الإنحراف والجريمة، ونشر الحقائق عن الأحداث الأمنية دون تهويل أو تهوين، بالإضافة إلى تشجيع المواطنين على التعاون مع رجال الشرطة، وإبراز الوجه الحقيقي الايجابي لخدمات الشرطة، وإبراز الوجه الحقيقي الايجابي لخدمات الشرطة ودورها الإنساني والاجتماعي، وإسهامها في حفظ حركة الحياة بانتظام واضطراد، مع إظهار تضحيات رجال الشرطة لتحقيق الأمن والأمان.
ويرى بركة زامل حوشان بان الإعلام الأمني "نمط إعلامي هادف يخدم الموضوعات والقضايا الأمنية ويهدف إلى سيادة الأمن في ربوع المجتمع، موجهاً إلى الجمهور العام والخاص، ومستخدماً مختلف فنون الإعلام من كلمات وصور ورسوم وألوان ومؤثرات فنية أخرى، معتمداً على المعلومات والحقائق والأفكار ذات العلاقة بالأمن التي يتم عرضها بطريقة موضوعية.
وهو مسئولية رجال الإعلام وذلك من منطلق مسئولياتهم الثقيلة الملقاة على عاتقهم وتؤديها هذه الوسائل في إطار وظيفتها الاجتماعية والسياسية في المجتمع، حيث أنها مسئولة مسئولية مباشرة عن الإسهام في حركة تطور المجتمع والالتزام بغاياته وطموحاته، وهو إعلام لا تضطلع به إدارات الإعلام والعلاقات في الأجهزة الأمنية فقط لكنه إعلام يهدف إلى المواجهة الحاسمة والسريعة لكل ما يهدد وظيفة الأمن وكسب ثقة الناس.
ويعرف على فايز الحجني الإعلام الأمني بأنه "كل ما تقوم به الجهات ذات العلاقة بين أنشطة إعلامية ودعوية وتوعوية بهدف المحافظة على امن الفرد الجماعي، وامن الوطن ومكتسباته في ظل المقاصد والمصالح المعتبرة.
ويرى البعض أن الإعلام الأمني بأنه "النشر الصادق للحقائق والثوابت الأمنية، والآراء والاتجاهات المتصلة بها، والرامية إلى بث مشاعر الطمأنينة والسكينة في نفوس الجمهور من خلال تبصيرهم بالمعارف والعلوم الأمنية، وترسيخ قناعتهم بأبعاد مسئولياتهم الأمنية، وكسب مساندتهم في مواجهة صفوف الجريمة وكشف مظاهر الانحراف.
ويعرف دونالد ريمر Donald Rimer الإعلام الأمني بأنه "إعلام يراعي المصالح الوطنية لكل دولة دون أن يتناقض مع رسالة الإعلام وأهميتها"( ). كما يعرف جاسم ميرزا الإعلام الأمني بأنه "تلك الرسائل والمعلومات والأخبار الصادقة التي تصدر عن جهاز الشرطة وتبث عن طريق وسائل الإعلام المختلفة، بهدف التوعية والإرشاد وتحسين صورة المؤسسة الشرطية في أذهان الجماهير لتحقيق التفاعل الايجابي بين الشرطة والجماهير في إطار سياسة الدولة وقوانينها. ومن خلال التعريفات السابقة يمكن تحديد أهم ملامح الإعلام الأمني التي تتمثل في انه:
1 - نوع من الإعلام المتخصص: قائم على الصدق والموضوعية في إحاطة المواطنين بالمعلومات والحقائق والقوانين التي تمس امن واستقرار المجتمع.
2- إعلام متعاون مع وسائل الإعلام الأخرى، يستطيع أن يحقق أهداف وغايات المؤسسة الشرطية ويخلق انطباعاً ايجابياً لجهاز الشرطة في أذهان الجماهير.
- إعلام متوافق مع سياسة الدولة ولا يتعارض معها، فالإعلام الأمني يعمل على تدعيم المصالح الوطنية والحفاظ على امن واستقرار المجتمع والوقوف في وجه الإعلام المفتوح الذي يحاول أحياناً إلغاء دور الدولة وتهديد المجتمع من خلال ما تبثه وسائل الإعلام وخاصة التليفزيون من برامج ووسائل تحث على الرذيلة والانحراف والجريمة والأفكار الهدامة.
ثانيا: التوعية الأمنية ومجالاتها:
مفهوم التوعية الأمنية: الوعي في علم النفس يعني الانتباه والإدراك وهما عمليتان متلازمتان، فإذا كان الانتباه هو تركيز الشعور في شئ فالإدراك هو معرفة الشيء.
ومصطلح الوعي الأمني مستمد من علم النفس، وهو يعتبر اقرب العلوم إلى العمل الشرطي؛ حيث يركز علم النفس على المبادئ والأساسيات التي تفسر السلوك البشري، وتضع القواعد التي يمكن من خلالها التعامل مع البشر، وهذه هي المبادئ نفسها التي يقوم على أساسها العمل الشرطي باعتباره يتعامل في الأساس مع الفرد كجزء من المجتمع، ويسعى لتحقيق النظام العام في المجتمع.
والوعي الأمني لا يعني الإدراك وكيفية التعامل مع القضايا فحسب بل هو في حد ذاته عملية مركبة معقدة تشتمل على معرفة الحقائق الواقعية وإدراك المصالح المادية والثقافية للفرد والمجتمع، وغيرها من المصالح وربطها بالواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي السائد ذلك المجتمع مع تجنب المصالح الفردية الذاتية والانحياز إلى مصلحة الجماعة.
والمهام الكبيرة للإعلام الأمني في عصر العولمة في ظل عولمة الإعلام العالمي تفترض عدم إخفاء المعلومات أو حجبها، وتتطلب مستوى عال من الالتزام بالحقائق الموضوعية المجردة، وهي الأولى باحترام القانون وأحكام القضاء، وعليها العمل على تطوير وتجديد البرامج في مجالات التوعية الأمنية.
والوعي الأمني في عصرنا الحاضر يرتبط ارتباطا حميماً بالمستجدات والتطور الحادثة في مجال المعلومات والإعلام، الأمر الذي يفترض قدراً عالياً من الالتزام بالموضوعية والحيادية، وكشف الحقائق كاملة، في ظل مراعاة عالية للتجديد والمواكبة لكل ما يطرأ في العالم، واحترام القوانين والمواثيق التي تنظم سير الأمور.
والتوعية الأمنية من حيث كونها إعلاماً وأمناً لا تقف عند ذلك الحد بل ترتبط بجوانب نفسية وسلوكية للفرد والجماعة، فهي تعني استثارة للوعي وتنميته تجاه قضية أو قضايا معينة بهدف تغيير الأنماط السلوكية، أو تغيير وتعديل اتجاهات الرأي العام تجاه هذه القضايا من اتجاهات سلبية إلى اتجاهات ايجابية، أو من تعاطف إلى رفض ومواجهة حسب طبيعة القضية وتأثيرها في المجتمع والموقف الذي يتعين على المجتمع اتخاذه منها.
مجالات التوعية الأمنية: تتعدد مجالات التوعية بتعدد وشمولية مهام الأمن العام في أي مجتمع من المجتمعات، فكلما كان الأمن مهدداً في مكان ما أصبح المجال رحباً أمام الإعلام الأمني لتولى دوره التثقيفي التوعوي.
وهناك مجالات تعتبر من صميم العمل الشرطي، كالعمل في مجال مكافحة الجريمة، وتسيير المرور، وأعمال الدفاع المدني، وحماية البيئة وصيانتها، ولذا اعد دليل عربي نموذجي للتوعية الأمنية والوقاية من الجريمة يتناول مختلف الميادين والمجالات الأمنية، اشتمل هذا الدليل على ثلاثة أقسام أو محاور رئيسية هي التوعية المرورية، التوعية في مجال الدفاع المدني والتوعية لوقاية المواطن العربي من الوقوع ضحية الجريمة.
وتتمثل مجالات التوعية الأمنية في الآتي:
1- الإعلام وسيلة لمكافحة الجريمة: إن من أهم واجبات العمل الشرطي اتخاذ ما يلزم من التدابير الوقائية قبل وقوع الجريمة، فمن واجبها القيام بمهام التوعية بها وآثرها السلبية لعل الفرد والمجتمع قبل وقوعها، وتجمع كافة الدراسات في هذا المجال والخبرة الدولية أن برامج الوقاية مهما بدا أنها تحمل المجتمع تكاليف باهظة إلا أنها اقل كلفة من الناحية الاجتماعية وحتى الكلفة المالية اللازمة لملاحقة المجرمين ومقاضاتهم وحبسهم، والوعي بمخاطر الجريمة والانحراف لا يقتصر على مرتكبيها أو ضحاياها، بل يمتد لتصل أطرافاً أخرى في المجتمع، وهذا ما يزيد من أهمية التوعية الأمنية وضروراتها.
2- وتتعدد الآراء حول شيوع وانتشار الجريمة، فهناك من رأي بضرورة التعتيم والخطر التام معتقداً أن المجتمع قاصر وغير قادر على قيادة نفسه، هذا الاتجاه قوبل بمعارضة قوية بحجة أن التعتيم يعمل على تغطية أوجه القصور والخلل لا يسهم في حل المشكلة أو تحصين المجتمع من الجريمة، والرأي الآخر الذي ينادي بالإباحة الكاملة والحرية المطلقة في النشر بحجة أن الإعلام يجب أن يقدم كل شئ. هذا الاتجاه قوبل أيضا بمعارضته بدعوى انه يتجه نحو الإثارة والتشويق والجذب لتحقيق المكاسب والأرباح من خلال سعة الانتشار، وتولد اتجاه ثالث دعا إلى النشر الواعي المسئول، الذي تبنى مراعاة أسس أخلاقيات مهنة الإعلام ويتفق مع القيم السائدة في المجتمع، بتقديم معالجة إعلامية موضوعية، هذا الاتجاه يقوم بالتغطية الإعلامية للجريمة بعيداً عن المبالغة والإثارة أو التعتيم والإخفاء على أسس علمية وموضوعية وهو موقف متزن يراعي كافة المتطلبات للمجتمع.
2- الإعلام ومكافحة المخدرات: أضحت المخدرات الخطر الرئيسي الذي يداهم الشباب ويهدر طاقاتهم الخاصة والمجتمعية، فهي آفة اجتماعية وفردية ظهرت في المجتمعات فهي تدمر العقل والجسم معاً، وتخلف ضحايا من العاطلين عن العمل في المجتمع، ومن هنا حظيت مكافحة المخدرات اهتماما من الجهات التربوية والإعلامية خصوصا الإعلام الأمني. كما قامت المؤسسات الشرطية بإنشاء المصحات العلاجية للمتعاطين تقوم بالإشراف عليها ومتابعتها، وشملت الخطة إجراء البرامج التوعوية من خلال وسائل الإعلام المختلفة وإدراجها في المناهج المدرسية، واحتلت مكانة بارزة في أنشطة الشباب في المخيمات الشبابية والاجتماعية، وذلك من خلال المحاضرات والندوات والنشرات التي تقوم بإعدادها المؤسسات الشرطية العاملة في مجال مكافحة المخدرات وتنفذها في الجامعات والمدارس وأماكن التجمع العامة خاصة الشبابية منها.
3- الأمن المجتمعي: إن مخاطبة المؤسسات الشرطية للجمهور عبر الوسائط المختلفة يعتبر احد أهم الإجراءات الوقائية التي تسعى لها هذه المؤسسات وتتم في هذا الاحتكاك والتفاعل والتوعية من المخاطر التي تحيط به والحفاظ عليه من الشائعات وما تخلقه من بلبلة وعدم استقرار وذلك ببث المعلومات المضللة في المجتمع. إن أمن المجتمع يتمثل أيضا في الحفاظ على قيمة الأخلاق وسلوكه ومثله العليا ومحاربة الفساد بكافة أشكاله وصوره، ومواجهة المعتقدات الخاطئة بما فيها من دجل وشعوذة دعاوات دخيلة على المجتمعات الدينية والإنسانية والأخلاقية.
4- - التوعية المرورية:
تعد الحوادث المرورية احد أهم الأخطار التي تواجه إنسان العصر الحديث، والتي غدت تستنزف المجتمعات بشرياً واقتصاديا، وليس أدل على ذلك من آلاف الوفيات والجرحى والمعاقين علاوة على الخسائر المالية المكلفة التي تخلفها الحوادث المروية.
ويعتبر العمل في مجال التوعية المرورية مسئولية فردية تتمثل بما يلتزم به الفرد من ضوابط وقوانين أثناء القيادة بالتزام المسارات الصحيحة، والتحلي بروح قائد المركبة المثالي حفاظاً على نفسه في المقام الأول ثم على الآخرين. ومن أهم واجبات التوعية المرورية التعريف بآداب السر وسلوكياته والكيفية الصحية لاستخدام الطريق، والتجاوز ومعرفة إشارات وعلامات المرور، وهذه التوعية تبث لشرائح المجتمع المتعددة.
5- الإعلام وتوعية الأحداث والسجناء: السجناء هم من ارتكبوا مخالفة بحق المجتمع بجرم عليها القانون، أي بأنهم يمضون فترة عقوبة على هذه المخالفة، وقد أوجدت المجتمعات القديمة والحديثة مؤسسات إصلاحية تضطلع الشرطة بأمرها.
6- فهي تقوم بالإشراف السجون أو ما يطلق عليها في بعض البلدان مراكز الإصلاح والتأهيل، ومراكز الأحداث هي سجون أو مراكز وجدت لحجز ومعاقبة مرتكبي الجرائم والمخالفات من القصر أي اللذين لم يبلغوا السن القانونية.
وتشرف المؤسسات الشرطية والأمنية على السجون وعلى دور الفتيات والفتيان ومحاكم الإحداث بعد أن تكون قد نجحت في إلقاء القبض عليهم وقدمتهم للجهات القضائية، ومن هنا ينبغي وضع خطة إعلامية أمنية تهدف في الأساس إلى إرشاد مثل هذه الشرائح بمخاطر الجريمة وآثارها على الفرد والمجتمع، وتعريفهم بالقوانين الرادعة المعمول بها في المجتمع، كما تعمل على إصلاحهم وتقويمهم بتقديم النصح والإرشاد لهم بناء على خطط تربوية لمعالجة مثل هذه الحالات.
والتوعية على صعيد السجون ومراكز الإحداث لا تقل أهمية عن التوعية في المجتمع، فمن واجب الجهات الأمنية تقديم الثقافة القانونية للسجناء لمعرفة حقوقهم القانونية وإرشادهم بالعمل عن طريق التربية الروحية، مع الاهتمام بنقل هذه التجارب عبر وسائل الإعلام للمجتمع لأخذ العظة والاعتبار مما آل إليه حال مرتكبي هذه المخالفات.
6- التوعية بالأمن الاقتصادي: يعد الأمن الاقتصادي العامل الأساسي في تطور وازدهار النظم الاقتصادية، ومن ثم تطور الدولة والمجتمع، فمن خلال الإعلام الأمني يمكن توجيه رسائل التوعية الاقتصادية الضرورية التي تعمل على مكافحة جرائم ومخالفات الاحتيال، وأساليب الغش والتزوير المختلفة، وكذلك عواقب التهرب الضريبي والرسوم المالية الأخرى وجرائم التهريب للبضائع والأفراد عبر الحدود، وغيرها من الجرائم التي تهز أركان الاقتصاد وبنيانه وبالتالي ما يمكن أن ينعكس على حياة الأفراد وما يمكن أن يفرزه من تخلف الدولة عن القدرة على تقديم الخدمات لمواطنيها.
7- الوعي البيئي: مع تنامي الوعي الإنساني تطور العمل لصون البيئة والمحافظة عليها، لأنها أمر ضروري ومهم، لان البيئة هي المصدر الأساسي والوحيد الذي يمد الإنسان بكافة الضروريات والأساسيات، ويمثل الأمن البيئي ركيزة أساسية لاستقرار أي مجتمع مهما كان حجمه، وذلك لكون البيئة تمثل مصدراً أساسياً لكافة الاحتياجات الإنسانية.
ويأتي دور ومهمة الإعلام الأمني في توليد الوعي البيئي لدى كافة شرائح المجتمع، فعلى مستوى الفرد يمكن أحداث وتنمية الوعي عن طريق تغيير نمط السلوك الفردي، وتطبيع عاداته تجاه المجتمع والبيئة.
ويعمل الإعلام الأمني في مجال البيئة على مستوى الأفراد بترقية سلوكهم وتوعيتهم بالأضرار الناجمة عن التلوث حتى يكونوا عاملاً مباشراً في الحفاظ على البيئة ثم العمل على مستوى كامل المجتمع.
8- إعلام الأزمة: من الطبيعي أن تمر المجتمعات بأزمات من نوع ما، وعلى الدولة أن تعمل على إدارة الأزمة إعلاميا، ويعتبر ذلك من اخطر وأدق الأدوار التي يضطلع بها الإعلام الأمني، وذلك لما يحيط بالأزمة من معلومات كثيرة ودقيقة وخطيرة علاوة على أنها متنامية ومتسارعة ومتصاعدة وتتعلق بالأمن واستقرار المجتمع.
ولأن الإعلام لديه جمهوره الذي يمثل قطاعات عريضة متابعة للأحداث، وما بين السيطرة على المعلومات أو البوح بها تكمن خطورة الأزمة في بسط الأمن والاستقرار أو انفلاته يكمن نجاح الإعلام الأمني أو فشله في إدارة الأزمة، وعلم إدارة الأزمات هو احد العلوم الإنسانية الحديثة المهمة التي ازدادت وتعاظمت أهميتها في عصرنا الحاضر، وهو علم إدارة توازنات القوى ورصد حركتها واتجاهاتها، وهو أيضا علم التكييف مع المتغيرات.
ويبرز دور الإعلام الأمني بكافة الوسائل الاتصالية في إدارة الأزمة ويتجلى في مساهمته، وفي تحديدها وتشخيصها، ولابد توافر مجموعة من المتخصصين الإعلاميين الأمنيين، الذين يعملوا وفق خطة متكاملة لتحديد نحوي وأشكال رسائل الإعلام الموجهة أثناء الأزمة، ومتابعة رسائل الإعلام الأخرى لتحليل رسائلها، وتصميم رسائل مواجهة، وتوضيح أماكن الخلل والقصور والضعف من جهة أخرى بغرض إشباع حاجة الجمهور للمعلومات.
قبل سنوات قليلة، وبالمصادفة وبدون إجراء بحوث أو تجارب على استخدام وسائل الإعلام الجديد فى إدارة الأزمات، اكتشف الناس العاديون ثم خبراء الإعلام الإمكانيات الهائلة للجوال والـ«فيس بوك» و«تويتر» و«ماى سبيى»، وغيرها فى إدارة الأزمات والكوارث، حيث استخدمت تلك الأدوات فى طلب الاستغاثة، وتبادل الأخبار والمعلومات والآراء، وتقديم المساعدة ودعم الروح المعنوية.
فى المقابل، أربكت وسائل الإعلام الجديد السلطات المختصة، وخلقت ضغوطًا من نوع جديد بشأن فوضى المعلومات غير الرسمية، ونشر الشائعات، وأحيانًا الفزع والخوف بين المواطنين، وهى إشكاليات تتطلب التوصل إلى حلول وإجراءات كفيلة بتعظيم الإيجابيات، والحد من السلبيات، إضافة إلى إعادة النظر فى استراتيجيات وخطط إدارة الأزمات المتبعة، والتى يتدرب عليها القائمون على إدارة الأزمات وخبراء العلاقات العامة.
وأتمنى من الباحثين فى الإعلام وإدارة الأزمات الاهتمام بهذه الإشكاليات حتى لا نتأخر كعادتنا عن متابعة الجديد، واستخدامه لتحسين حياتنا، وليشاركنى القارئ التفكير فى بعض القضايا لعلها تساعد فى حل إشكاليات الإعلام الجديد وإدارة الأزمات:
أولاً: القاعدة الأساسية فى ظل الإعلام الجديد هى أن مشاركة الجمهور هى المعيار الجديد فى إدارة الأزمات، حيث نضمن التفاعلية وتبادل الأدوار الاتصالية.
ثانيًا: يعتمد كثير من المواطنين على وسائل الإعلام الجديد أثناء الأزمات، لأنهم يشعرون بأن المعلومات المقدمة إليهم من خلال وسائل الإعلام التقليدية متحفظة وبطيئة وغير دقيقة، وفى مصر بعد الثورة استخدم النشطاء السياسيون والجيش والشرطة والمواطنون «تويتر» و«فيس بوك» فى الحشد والتعبئة، ونشر الأخبار والتحذيرات بشأن حوادث قطع الطرق، والمظاهرات، وأحداث العنف التى دارت فى عديد من المظاهرات، وللأسف كان بعض هذه الأخبار والتحذيرات غير دقيقية.
ثالثًا: إن الشفافية أمر مخيف للسلطات، والالتزام بها وقت الأزمات عملية صعبة للغاية، لكنها أصبحت ضرورة، فلم يعد مقبولًا فى ظل الإعلام الجديد استمرار نموذج الاتصال الرأسى من أعلى، حيث قمة المنظمة، أو السلطات الرسمية، لأسفل، حيث الجمهور العادى.
ويفرض الواقع الحالى الاستماع، والمشاركة، والإفصاح، وسرعة إعلان الحقائق، فالانطباع الأول هو الذى يدوم، ويؤثر فى استقبالنا للأحداث، وفهمنا لما حدث، وكيف حدث، وما يمكن أن يحدث فى المستقبل، والإشكالية أن وسائل الإعلام الجديد هى الإسرع دائمًا فى أثناء الأزمات والكوارث، لأن الهواتف الذكية حولت كل مواطن إلى صحفى «ظاهرة صحافة المواطن» لذلك لابد للسلطات والهيئات من رد الفعل السريع، والتفاعل مع الجمهور، وإشراكه منذ اللحظة الأولى للأزمة.
رابعًا: امتلاك أدوات الإعلام الاجتماعى، وتدريب العاملين عليها قبل وقوع حالات طارئة أو أزمات، ولابد من تحديد مواقع الإنترنت التى تنطق باسم الهيئة، أو السلطة المختصة، وتحديد الحسابات التى ستستخدم عبر مواقع التواصل الاجتماعى.
خامسًا: إشراك الجمهور فى مراحل الأزمة المختلفة ومعرفة اهتماماته والاستجابة له، وطلب المساعدة منه، وذلك من خلال عقد شراكات وتفاهمات مع نشطاء الإنترنت والمدونين، والإبقاء على علاقات طيبة وإيجابية معهم قبل وبعد وفى أثناء الأزمة.
سادسًا: الدخول فى حوارات سريعة ومتواصلة مع المواطن، ويتوقع المواطن أن يتم الرد على أسئلته من قبل السلطات. وقد تنشأ أسئلة كثيرة من خلال الحوار، لذلك لابد من توفير وصلات لتوفير المعلومات والخدمات، مع التحلى بأكبر قدر من الدقة والانضباط، ويمكن إعداد رسائل قياسية قصيرة على أن يتكرر إرسالها عبر وسائل الإعلام الاجتماعى.
سابعًا: تتحول ساحات الإنترنت ووسائل الإعلام الجديد أحيانًا إلى ساحات لإطلاق الشائعات، من هنا فإن الرد على الشائعات يقلل الأضرار التى تلحق بالسلطات والهيئات، ويحمى سمعتها. والثابت أن إدارة السمعة كانت واحدة من أهم الأسباب لإستخدام الشركات والحكومات وسائل الإعلام الجديد والقديم، لأنها توفر مجموعة متنوعة من الطرق للتعامل مباشرة مع الجمهور.
كان الإعلام ومنذ القدم له أهمية عند الشعوب وتزداد هذه الاهمية لوسائل الإعلام في كل يوم لاسيما وقد تعددت صورها وتنوعت أشكالها وتشعبت طرقها واستخدمت أحدث تقنيات العصر لخدمتها؛ مما جعلها تمتلك إمكانية تغيير المفاهيم وخلط الأفكار حتى فاقت في قدرتها على اي نوع آخر من انواع التأثير كما ان وسائل الإعلام تحولت الى سلاح في الحرب، بل ان المهارة في توظيف الاعلام ستقلل من خسائر من يستخدمها وتزيد اعباء الخصوم ولذلك يعمد مروجو الحروب للسيطرة على الإعلاميين واستعمالهم ، للهيمنة على مسيرة الحرب والتحكم في مساراتها.
وفي تاريخنا برع العرب المسلمون في توظيف الاعلام في نشر الدين الاسلامي الحنيف وفي الدفاع عن منجزاته ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم اسوة حسنة ونموذج نقتدي به ناهيك عما ورد في كتاب الله من ايات بينات استرشد بها الصحابة ومن بعدهم خلفاء المسلمين وكان ذلك عنوانا كبيرا لنجاحات باهرة تركت بصماتها حتى يومنا الحاضر.
ورغم الاهمية البالغة للاعلام الا ان الاعلام الاسلامي وفقا لرأي بعض المهتمين جاء لاعلام الناس بما يهمهم ويخصهم ويتصل بحياتهم والاجابة على تساؤلاتهم بالأحداث الجارية الداخلية والخارجية التي تتصل بحياتهم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. وكذلك للتفسير والتوضيح والارشاد وفق القيم والمبادئ الاسلامية إلا أن هذه المهام لا تعفي من القول ان هناك نوعا من العجز الإعلامي الذي تعيشه الأمة الإسلامية وهذا العجز في الإعلام الإسلامي ليس وليد اللحظة ، فالشعوب الاسلامية لا تعطي الاهتمام المطلوب للإعلام رغم خطورته الكبيرة فالإعلام اليوم أداة حيوية في اوقات الحرب والسلم الباردة، وان وجد هناك بعض الاهتمام فنجده ابعد ما يكون عن معارك الأمة وتحدياتها، رغم ان الدول الاسلامية لاينقصها المال اوالكفاءات الا أن من يتحكمون بالمال لا يفكرون في انشاء ادوات إعلامية اسلامية قوية وان وجدت بعض الوسائل الاعلامية فهي تحت سيطرة اناس لا تحظى هموم المسلمين ومعاناتهم ومشاكلهم باي اهتمام منهم كما أن بعض الوسائل الإعلامية التي تدعي أنها إسلامية يقودها أشخاص ربما هم اكثر خطرا على الامة من ابغض اعدائها ويضاف الى ذلك العقبات وطبيعة بعض النظم الاستبدادية السائدة التي لا تسمح بوجود وسائل إعلامية جادة لذلك فان الوسائل التي قد تنبت في هذه البيئة لن تستطيع ان تفعل شيئا وفي افضل الحالات سيتم تجفيف مصادر تمويلها بسرعة.
ان وجود بعض وسائل الاعلام الاسلامية لاسيما القنوات الفضائية والانترنت الآن فتحا المجال واسعا أمام الجميع للانطلاق والتغلب على العقبات المعروفة.
إننا اليوم بحاجة الى وعي إسلامي جديد يدرك أهمية العمل الإعلامي، وينظر للإعلام كجزء اساسي من منظومة الاسلحة التي تخوض بها الامم حروبها، فالحملات الإعلامية تسبق الحملات السياسية والعسكرية، بل انها تشارك في صنعها فالشبكات التلفزيونية العالمية كانت من اخطر اسلحتها، وفي بعض الاحيان يكون الإعلام هو السلاح الوحيد المستخدم في المعركة، لذا فالمسلمون بحاجة الى أن يوظفوا الأموال والكفاءات في دعم الوسائل الإعلامية الجادة القائمة، وانشاء المزيد، وتطوير الامكانيات التي تفيد من التكنولوجيا الحديثة.
4 ــ أهمية الدبلوماسية العامة في حل الأزمات.
الحلول السياسية الودية
نصت الفقرة الأولى من المادة /33/ من ميثاق الأمم المتحدة ما يلي:
"يجب على أطراف أي نزاع من شأن استمراره أن يعرض حفظ السلم والأمن الدولي للخطر أن يلتمسوا حله بادئ ذي بدء بطريق المفاوضة والتحقيق والوساطة والتوفيق..."
وواضح أن هذا التعداد على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر. وهكذا يتاح أمام الأطراف في منازعة دولية مجال واسع من الحلول الودية ذات الصفة السياسية ليختاروا منها الحل الذي يمكن بواسطته تحقيق تسوية سلمية للمنازعات. وسنلقي نظرة سريعة على كل من هذه الحلول فيما يلي:
أولا : المفاوضات المباشرة
وهي أقدم أسلوب لتسوية المنازعات وأكثرها انتشاراً وأقلها تعقيداً. ولقد اعترف منذ القديم بوجود التزام قانوني بإجراء المفاوضات قبل اللجوء إلى استخدام القوة. كما اعتبرت المفاوضات في القرون اللاحقة بأنها تشكل واحداً من الشروط المسبقة لاضفاء صفة العدالة على استخدام القوة. واستمرت إدانة استخدام القوة قبل اللجوء إلى المفاوضات كما استمرت إدانة الهجوم بدون إنذار مسبق.
وكثيراً ما تشترط المعاهدات الدولية الخاصة بالتسوية السلمية للمنازعات على الدول المتنازعة استنفاد أسلوب المفاوضات الدبلوماسية قبل أن يكون في إمكانها اللجوء إلى أسلوب التسوية القانونية عن طريق التحكيم والقضاء. ولقد بحثت محكمة العدل الدولية الدائمة هذا المبدأ بشيء من التفصيل في "قضية امتيازات مافروماتيس الفلسطينية (من ناحية الاختصاص القضائي)لعام 1924" وقررت أنه:
"قبل أن يكون في الإمكان إخضاع أي نزاع إلى إجراء قانوني، يجب تحديد موضوعه بوضوح بواسطة المفاوضات الدبلوماسية.
واعترفت المحكمة بأن عليها أن تقرر في كل قضية ما إذا كانت مفاوضات كافية قد سبقت عرض النزاع، ولكنها لن تتجاهل آراء الدول المعنية.
"التي هي في أفضل وضع للحكم على الأسباب السياسية التي قد تمنع تسوية منازعة معينة بالمفاوضات الدبلوماسية وفي قضية حق المرور (اعتراضات أولية) المقدمة من (البرتغال ضد الهند) أمام محكمة العدل الدولية والمتعلقة بحق المرور في الأراضي الهندية، أثارت الهند الاعتراض الأولي التالي:
“إن البرتغال، قبل أن تتقدم بادعائها في هذه القضية، لم تراع قاعدة من قواعد القانون الدولي العرفي تتطلب منها القيام باجراء المفاوضات الدبلوماسية والاستمرار فيها إلى الحد الذي لا يعود فيه من المفيد متابعتها...
ويتمتع أسلوب المفاوضات الدبلوماسية بمزايا عديدة، ومن أولى ميزاته أنه قليل التكاليف. إذ قد تتمكن دولة من الدول من تحقيق أهدافها باتباعه، فتوفرعلى نفسها مشاق ومخاطر وتكاليف الحرب. ومن ميزاته أيضاً المرونة والكتمان.
وفي الحقيقة، فإن دول العالم وخاصة الكبرى منها تقوم بتسوية العشرات بل وحتى المئات من المنازعات مع الدول الأخرى باتباع أسلوب المفاوضات الدبلوماسية التي تتم على أيدي ممثليها "الذين يجرون فيما بينهم مباحثات بقصد تبادل الرأي في الموضوعات المختلف عليها، وتقليب وجهات النظر فيها، والوصول إلى حلول بشأنها يرضى عنها الفريقان.
وتجري المفاوضات إما بصورة خطية عن طريق تبادل الرسائل والمذكرات، أو بصورة شفهية عن طريق المؤتمرات الدولية. ويتوقف نجاح المفاوضات على الروح التي تسودها،" فإذا كانت الدول المتفاوضة لا تتمتع بقوة سياسية متعادلة، فإن الدول الكبرى تطغى على الصغرى وتفرض عليها إرادتها.
ومن الأمثلة الحديثة على المنازعات الدولية التي تمت تسويتها عن طريق المفاوضة "المفاوضات التي أدت إلى اتفاق فرنسا وممثلي الثورة الجزائرية على منح الجزائر استقلالها (عام 1961)... والمفاوضات التي جرت بين سورية ولبنان في شهر آب 1973 لحل المشاكل المعلقة بين البلدين."
ولعل من المفيد الإشارة إلى الأهمية التي تعلقها الدول على المفاوضات والاتصالات المباشرة، والتي تتجلى في الخط الساخن Hot Line الذي أنشئ بموجب مذكرة التفاهم الأميركية- السوفيتية الموقعة بين الدولتين في جنيف بتاريخ 20حزيران عام 1963، وذلك لتأمين الاتصال الفوري بين رئيسي الدولتين في حالة انفجار أزمة ما تهدد بخطر محدق، على غرار ما حصل أثناء حرب تشرين 1973 بين مصر وسورية من جهة وإسرائيل من جهة ثانية.
ومما تجدر ملاحظته أن أسلوب المفاوضات المباشرة كثيراً ما يقترن بأسلوبي المساعي الحميدة والوساطة على نحو ما سنرى.
أما الرابطة القانونية القائمة بالضرورة بين الطرفين المتفاوضين فإنها تتمثل فيما أعلنه المحامي النقيب وليام ثورب في مساجلة غرونوبل بتاريخ 13 آذار 1961 حينما قال:
"تفترض المفاوضة وجود متحدثين اثنين على الأقل. وكل من هذين المتحدثين أملاه الغرض المتوخى من المفاوضة. وكلاهما يفرض نفسه على الآخر بحكم أنهما وحدهما اللذان يمسكان بمفتاح الاتفاق المراد عقده. ومن ثم، فليس في مقدورهما أن ينتقي أحدهما الآخر ولا أن يستبعد أحدهما الآخر.
ثانيا : المساعي الحميدة
حينما تتعذر تسوية منازعة ما بالمفاوضات الدبلوماسية، ويبدو تضارب الحقوق أو المطالب على أنه يتمتع بقدر كاف من الأهمية، فإنه يمكن حينئذ اللجوء إلى أسلوب المساعي الحميدة.
والمساعي الحميدة هي عمل ودي تقوم به دولة أو مجموعة من الدول أو حتى فرد ذي مركز رفيع كالأمين العام للأمم المتحدة في محاولة لجمع الدول المتنازعة مع بعضها وحثها على البدء بالمفاوضات أو استئنافها.
ويعتبر بعض المؤلفين أسلوب المساعي الحميدة شكلاً من أشكال التدخل. وهم بهذا يستعملون اصطلاح التدخل بصورة غير دقيقة. فهذا الاصطلاح لا يستعمل إلا في حالة استخدام القوة المسلحة، كما حصل حينما تدخلت الدول الكبرى في النزاع اليوناني -التركي على جزيرة كريت في عام 1868.
ولا يوجد التزام على أية دولة في أن تقدم خدماتها بهذا الخصوص، كما لا يوجد التزام على أي طرف نزاع ما بقبول عرض المساعي الحميدة، وفي كل الأحوال فإنه لا بد للطرف الثالث من الحصول على موافقة طرفي النزاع قبل قيامه ببذل مساعيه الحميدة، فيسمح له حينئذ القيام بمحاولة جمع طرفي النزاع مع بعضهما، بحيث يجعل من الممكن لهما التوصل إلى حل ملائم للنزاع. ويتم ذلك بأن يقابل كلا من طرفي النزاع على انفراد، ومن النادر أن يحضر الطرف الثالث اجتماعاً مشتركاً.
وتصبح لأسلوب المساعي الحميدة أهمية خاصة في حالة قطع العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين المتنازعتين. فيبذل الطرف الثالث مساعيه الحميدة، وينقل الرسائل والاقتراحات، ويحاول خلق مناخ يوافق فيه الطرفان المتنازعان على إجراء المفاوضات المباشرة فيما بينهما.
ويشترط لنجاح المساعي الحميدة ألا تخفي بواعث أنانية، فهي عمل ودي منزه عن مصلحة أي من طرفي النزاع أو عن مصلحة الطرف الثالث القائم ببذل مساعيه الحميدة. وتنتهي المساعي الحميدة بمجرد اقناع الطرفين المتنازعين بالجلوس إلى مائدة المفاوضات أو مساعدتهما على استئنافها أو قبول مبدأ التسوية الودية للنزاع، دون أن يتعمق الطرف الثالث في دراسته تفصيلات النزاع أو أن يسهم في المفاوضات. ومع ذلك فهنالك حالات وجهت فيها الدولتان المتنازعتان الدعوة إلى الطرف الثالث، الذي قبل عرض مساعيه الحميدة أو نشدت مساعدته لهذا الغرض، للحضور أثناء المفاوضات.
والمساعي الحميدة، إما أن تتوخى الحيلولة دون تطور الخلاف بين دولتين إلى نزاع مسلح، كما حصل بالنسبة للخلاف على الحدود بين الأكوادور وبيرو، حيث أدت المساعي الحميدة التي بذلتها الأرجنتين والبرازيل والولايات المتحدة الأميركية إلى التسوية المؤرخة في 28 كانون الثاني من عام 1942.
وإما أن تتوخى إنهاء نزاع مسلح قائم فقد شكل مجلس الأمن في تشرين الثاني من عام 1947م، على سبيل المثال، لجنة للمساعي الحميدة (تضم ممثلي دول استراليا وبلجيكا والولايات المتحدة) ولجنة قنصلية (تضم قناصل الدول الأعضاء في مجلس الأمن لدى باتافيا (Batavia) للمساعدة على قيام مفاوضات تضع حداً للعمليات الحربية بين الجمهورية الأندونيسية الناشئة وبين هولاندا. ومن ذلك أيضاً (لجنة المساعي الحميدة الإسلامية) التي تشكلت بنتيجة اجتماع القمة لمنظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في مدينة "الطائف" في المملكة العربية السعودية عام 1981.
وقد بذلت هذه اللجنة جهودها الرامية إلى وضع حد للحرب العراقية الإيرانية التي نشبت جراء نزاع الحدود بين البلدين عام 1980، إلا أنها وصلت إلى طريق مسدود في عام 1983.
ولكن الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي وجهت الدعوة لعقد اجتماع للجنة المساعي الحميدة الإسلامية في "جدة" في شهر أيار من عام 1984 بعد تصعيد الحرب العراقية- الإيرانية بحيث شملت ناقلات النفط في الشهر المذكور.
ثالثا : الوساطة
الوساطة هي عمل ودي تقوم به دولة أو مجموعة من الدول أو وكالة تابعة لمنظمة دولية أو حتى فرد ذي مركز رفيع في سعيه لايجاد تسوية للنزاع القائم بين دولتين.
ولا يفرق الكثيرون بين الوساطة والمساعي الحميدة. وفي الحقيقة فإن الخصيصة المميزة للوساطة هي أن الوسيط يقوم بدور أكثر إيجابية، فيشترك في المفاوضات وفي التسوية نفسها اشتراكاً فعلياً، ويبدي للطرفين وجهة نظره الخاصة، ويقدم اقتراحات محددة لتسوية المسائل الموضوعية.
ولا يوجد التزام على أية دولة في أن تقدم وساطتها، وهي إنما تقوم بذلك بملء إرادتها كما هو عليه الحال في المساعي الحميدة. كذلك فإن أياً من طرفي النزاع أو كلاهما حر في قبول أو رفض عرض بالوساطة.
كما أن النتيجة التي انتهت إليها الوساطة غير ملزمة لطرفي النزاع ولا يمكن فرضها عليهما، لأن اقتراحات الوسيط هي مجرد توصيات.
ويمكن للوسيط أن يلتقي طرفي النزاع إما مجتمعين أو كلا منهما على انفراد، وتنتهي مهمة الوسيط حينما تتم تسوية المنازعات، أو حينما يقرر أحد الطرفين أو الوسيط أن الاقتراحات المقدمة غير مقبولة.
ولقد توخت اتفاقيتا لاهاي لعامي 1899و 1907 "تنظيم الوساطة واعتبارها مجرد مشورة غير الزامية سواء أتمت عفوياً، أم بناء على طلب إحدى الدول المتنازعة ونصت أيضاً على أن الوساطة لا تعتبر بحد ذاتها عملاً غير ودي، وأنه يحق للدول إعادة عرض وساطتها رغم رفضها أول مرة، وأحدثت المادة الثانية من اتفاقية 1907 مبدأ اللجوء إلى الوساطة والإفادة منها قبل الاحتكام إلى السلاح، غير أنها قيدت هذا المبدأ بعبارة (بقدر ما تسمح به الظروف) مما أضعف قوته ومرماه"
ووضع مؤتمر بونس أيرس الأميركي لعام 1936 معاهدة جديدة للمساعي الحميدة والوساطة، تؤكد على هذين الأسلوبين القديمين ولكن في إطار جديد. وهي تنص على أن يقوم بدور الوسيط مواطن بارز يختار من قائمة موضوعه مسبقاً تضم أسماء المواطنين الذين ترشحهم الجمهوريات الأمريكية وبمعدل مواطنين من كل دولة.
ومن الأمور المثيرة للاهتمام في هذه المعاهدة هو النص فيها على الكتمان وعدم النشر في تسوية المنازعات، ومن ضمن ذلك عدم وضع أي تقرير من قبل الوسيط، وإحاطة محاضر الجلسات بالسرية الكاملة.
والوساطة، إما أن تتوخى الحيلولة دون تطور الخلاف بين دولتين إلى نزاع مسلح، والمثال الذي يستشهد به هو وساطة البابا ليو الثالث عشر. Pope leo xiii
في النزاع الألماني -الإسباني على مجموعة جزر الكارولين في المحيط الهادئ في عام 1885.
وأما أن تتوخى انهاء نزاع مسلح قائم. ومثل ذلك الوساطة التي قامت بها الولايات المتحدة لإنهاء الحرب الروسية اليابانية، والتي تكللت بعقد معاهدة بورتسموث portsmouth في عام 1905.
وقد طرأ تطور جديد على أسلوب الوساطة وهو استخدامه بهدف وضع حد للحروب الأهلية.
كما طرأ تطور آخر يتمثل في اختيار شخصية بارزة للوساطة وليس دولة "فقد عين مجلس الأمن الكونت برنادوت Bernadotte وسيطاً في فلسطين بين الدول العربية وسلطات الاحتلال الاسرائيلي بتاريخ 20 أيار 1948.
وقد اغتالته عصابة صهيونية في 7أيلول 1948 فعين المجلس مكانه الدكتور رالف بانش. Dr. Ralph Bunche الذي أدت أنشطة الوساطة التي قام بها إلى إنهاء الحرب الفعلية active hostilities بين سلطات الاحتلال الاسرائيلي والدول العربية عام”1948".
وقد أخذ "ميثاق جامعة الدول العربية" بأسلوب الوساطة في المادة الخامسة منه حيث جاء فيها:
"ويتوسط المجلس في الخلاف الذي يخشى منه وقوع حرب بين دولة من دول الجامعة، وبين دولة أخرى من دول الجامعة أو غيرها للتوفيق بينهما".
وهكذا يحق لمجلس الجامعة السعي إلى إيجاد تسوية لهذا النوع من النزاع عن طريق الاشتراك في بحث أسبابه والعمل على تقريب وجهات نظر الأطراف المتنازعة للتوفيق بينها.
ولا يجوز للدول المتنازعة أن ترفض هذه الوساطة ولكن موافقتها ضرورية لقبول قراراتها من قبل الأطراف المتنازعة، كما أن موافقتها ضرورية إذا كانت إحدى الدول المتنازعة ليست عضواً في الجامعة.
وتصدر قرارات مجلس الجامعة بأغلبية الآراء بما في ذلك أصوات أطراف النزاع. ويحق للدول المتنازعة أن ترفض الحل الذي يقرره مجلس الجامعة.
ولعل من المفيد إلقاء نظرة سريعة على بعض مواد نظام مركز الوساطة والتحكيم لدى اتحاد المصارف العربية المتعلقة بالوساطة. فكل خلاف ينشأ بين عضوين أو أكثر من أعضاء الاتحاد يمكن السعي لحله بصورة ودية عن طريق جهاز الوساطة لدى اتحاد المصارف العربية (المادة الخامسة) وعلى المدعي الراغب في اللجوء إلى الوساطة.. أن يوجه طلبه إلى الأمانة العامة لاتحاد المصارف العربية (المادة 6/1) وفي حال قبول المدعى عليه مسعى الوساطة، على الأمين العام أن يرفع ملف القضية إلى رئيس مجلس إدارة اتحاد المصارف العربية من أجل تعيين وسيط منفرد أولجنة وساطة وفقاً لظروف القضية واهميتها وذلك خلال شهر واحد (المادة 6/4).
وفي حال عدم قبول المدعى عليه مسعى الوساطة يعاد إلى المدعي الرسم المدفوع من قبله (المادة 6/5) يدرس جهاز الوساطة ملف القضية ويتصل بالمدعي والمدعى عليه وله أن يستمع إلى أقوالهما، وذلك في أنسب مكان يحدده (المادة 7/1) يحدد جهاز الوساطة الفترة الزمنية اللازمة لحل النزاع، بعد دراسة ملف القضية والاستماع إلى الأطراف عند الاقتضاء، ويقترح على المدعي والمدعى عليه صيغة لحل النزاع بصورة ودية (المادة 7/3) يقدم جهاز الوساطة بعد الاستماع لوجهة نظر الأطراف وتحقيق إدعاءاتهم واعتراضاتهم تقريراً يضمنه أي اتفاق يكون أطراف الخلاف قد توصلوا إليه، فإذا لم يقع اتفاق بينهم، كان على جهاز الوساطة أن يبين في هذا التقرير وبموافقة أغلبية أعضاء الجهاز وجهة نظره في شأن المسائل المختلفة عليها سواء من حيث الواقع أو القانون، مشفوعة بالتوصيات التي يراها ملائمة لحل الخلاف بالطرق الودية، ويودع التقرير لدى الأمانة العامة التي تقوم بأخطار الأطراف بمضمونه (المادة 7/4) ولا يلتزم الأطراف بالتقيد بوجهة النظر التي أفصح عنها جهاز الوساطة في تقريره ولا بالتوصيات التي تضمنها التقرير (المادة 7/5) وتعتبر إجراءات الوساطة منتهية إذا تم التوصل إلى تسوية ودية للخلاف أو إذا قام أحد أطراف النزاع بتبليغ الأمانة العامة باعتراضه على ما جاء في التقرير(المادة 7/6). وإذا فشل مسعى الوساطة لا تتأثر حقوق الأطراف في الخلاف بما تم أو قيل أو كتب أثناء الوساطة ولا يحق لأي من الأطراف أن يتذرع بعد فشل مسعى الوساطة بصيغة المصالحة التي اقترحها جهاز الوساطة (المادة 8).
رابعا: لجنة التحقيقCommission of Inquiry
يدور معظم المنازعات الدولية حول مسائل الوقائع أكثر مما يدور حول مسائل القانون. فقد انطوى عدد كبير من المنازعات الدولية على عدم قدرة الطرفين المتنازعين على الاتفاق على الوقائع أو عدم رغبتهما في ذلك، مما حدا بالدول في أواخر القرن التاسع عشر إلى عقد عدد من الاتفاقيات الثنائية التي تقضي بتشكيل لجان خاصة بتقصي الحقائق ومهمتها رفع تقرير عن الوقائع المتنازع عليها إلى الطرفين المعنيين. وقد أثبتت هذه اللجان نجاعتها وخاصة في المنازعات على الحدود.
و"الغرض من التحقيق أصلاً هو تحديد الوقائع المادية والنقاط المختلف عليها بين الفرقاء المتنازعين تاركاً لهم استخلاص النتائج التي تنشأ عنه إما بصورة مباشرة، ويكون ذلك عن طريق المفاوضة، وإما بصورة غير مباشرة، ويكون ذلك عن طريق التحكيم.
ولا يوجد التزام على أية دولة في اللجوء إلى أسلوب التحقيق، كما أن النتائج التي توصلت إليها لجنة التحقيق في تقريرها غير ملزمة لطرفي النزاع ولا يمكن فرضها عليهما.
وتتألف لجنة التحقيق بموجب اتفاقية خاصة. وتكتفي بوضع تقرير عن الوقائع المتنازع عليها دون تحديد المسؤوليات، كما قدمنا.
وبموجب اتفاقية لاهاي الأولى لعام 1899 الخاصة بتسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية Convention I for the pacific Settlement of international Disputes اعتبرت لجان التحقيق بمثابة مؤسسة رسمية. فقد قضت هذه "الاتفاقية" بالاحتفاظ بقائمة أسماء دائمة Panel يختار منها خمسة لقضايا محددة. ويحق لكل دولة طرف في النزاع أن تختار عضوين يكون أحدهما فقط من بين مرشحيها في قائمة الأسماء الدائمة، أما العضو الخامس فيختاره الأعضاء الأربعة الآخرون. ويجب أن يقتصر تقرير لجنة التحقيق على تقصي الحقائق فقط، ولذلك فإنه ليس من المتوقع أن يتضمن اقتراحات لتسوية النزاع وليست له صفة الحكم بأي حال من الأحوال.
ولقد توسعت اتفاقية لاهاي الثانية لعام 1907 في التفصيلات الاجرائية الوارد ذكرها في الاتفاقية الأولى، وذلك بتحديد بعض الأمور مثل مكان الاجتماع واللغات المستعملة، وسد الشواغر في اللجان. وسمحت الاتفاقية أيضاً للدول المتنازعة بإرسال مندوبين خاصين من قبلها لتمثيلها وللعمل كوسطاء بين هذه الدول ولجان التحقيق. هذا بالإضافة إلى النص على استدعاء الشهود إما من قبل الدول المتنازعة أو من قبل اللجنة نفسها.
وكان أحد أكثر التجديدات أهمية هو تطلب اشتراك ثلاثة أعضاء محايدين في أية لجنة تحقيق. واكتفت اتفاقيتا لاهاي لعامي 1899و 1907 بوضع القواعد الأساسية الخاصة بتشكيل لجان التحقيق وبكيفية قيامها بعملها، وتركت للدول المتعاقدة حرية الاختيار سواء كان ذلك في اللجوء إليها أم في الأخذ بالنتائج التي توصلت إليها.
وأرادت "الولايات المتحدة"، بجهود وزير خارجيتها السيد ويليام ج بريان، المضي قدماً إلى الأمام للاستفادة من الإمكانيات الكامنة في استخدام أسلوب لجان التحقيق. وهكذا فقد أبرمت حكومة "الولايات المتحدة" معاهدة مع حوالي ثلاثين دولة ما بين عامي 1913 و1914، تقضي بضرورة إجراء تحقيق حول وقائع المنازعات. ونصت (معاهدات بريان: Bryan treaties) هذه على القيام بإجراء تحقيق ووضع تقرير فقط دون تقديم توصيات، كما أنها تتميز بالخصائص التالية:
أ- تأليف لجان التحقيق من خمسة أعضاء، يختار إثنان منهما من رعايا الطرفين المتنازعين وثلاثة من رعايا الدول الأخرى.
ب- وجوب اللجوء إلى التحقيق بمجرد طلب أحد الطرفين.
جـ - تجرد التقرير من أية صفة الزامية بحيث يستطيع الطرفان الأخذ بمضمونه أو اهماله. وكان الهدف من هذه المعاهدات توفير فترة هدوء أمام الدولتين المتنازعتين.
وخضع أسلوب لجان التحقيق إلى تطور جديد من قبل "عصبة الأمم" و"الأمم المتحدة" اللتين استعملتاه بأسلوب يختلف عن الأسلوب الذي وضعته فيه اتفاقيتا لاهاي بالنقاط التالية:
آ-يعتبر التحقيق الذي وضعت أسسه اتفاقية 1907 أسلوباً مستقلاً وكاملاً بحد ذاته، في حين أن التحقيق بالشكل الذي استعملته المنظمتان يفسح مجالاً أوسع لتسوية المنازعات، إذ أن من خصائصه اطلاع أجهزة المنظمة الدولية على حقيقة الوقائع.
ب- توفد اللجان إلى مكان النزاع أسوة بالتحقيق الذي يتم في الإجراءات القضائية.
جـ - تقترح اللجنة حلولاً للنزاع ولا تكتفي بتسجيل الوقائع".
ومن الجدير بالذكر أن "عصبة الأمم" لجأت إلى لجان التحقيق كأسلوب لتسوية المنازعات في العديد من الخلافات ومنها: قضية جزر آلاند بين السويد وفنلندا عام 1920، وقضية الموصل بين بريطانيا وتركيا عام 1924، وقضية حادث الحدود في دميرقابو بين اليونان وبلغاريا عام 1925، وقضية النزاع الصيني الياباني الناشيء عن اعتداء اليابان على منشوريا عام 1931.
كما أن "الأمم المتحدة" لجأت إلى أسلوب لجان التحقيق لتسوية المنازعات في العديد من الخلافات وأشهرها ما تعلق بالقضية الفلسطينية. ففي 15 أيار عام 1947 عينت الجمعية العامة "لجنة خاصة مزودة باختصاصات واسعة لدراسة قضية فلسطين.
وقد تضمن التقرير الذي قدمته اللجنة في 21 آب التالي تقسيم فلسطين إلى منطقتين عربية واسرائيلية. ورغم أن الجمعية العامة أقرت مضمون هذا التقرير بتاريخ 29 تشرين الثاني عام 1947، فإن قرارها في هذا الشأن ما زال معلقاً لامتناع اسرائيل عن تنفيذه".
كما أن مجلس الأمن قرر في خريف عام 1968 "تكليف الأمين العام بإرسال بعثة تحقيق للنظر في معاملة إسرائيل للمدنيين من العرب في الأراضي المحتلة بعد حرب حزيران عام 1967.
وليس أدل على الأمل الذي تعلقه "الأمم المتحدة" على أسلوب لجان التحقيق من القرار الذي تبنته" الجمعية العامة بالاجماع برقم 2329 (22) وتاريخ 18 كانون الأول عام 1967، والذي يحث الدول الأعضاء على الاستفادة من الأساليب القائمة لتقصي الحقائق بفعالية أكثر طبقاً للمادة 33 من الميثاق كما طلبت الجمعية العامة من "الأمين العام" إعداد لائحة بالخبراء الذين تمكن الاستفادة من خدماتهم لأغراض تقصي الحقائق.
خامسا: التوفيق أو المصالحة
إن اتباع أسلوب التوفيق أو المصالحة يعني عرض نزاع معين على لجنة توفيق أو على موفق واحد بقصد تمحيص جميع أوجه النزاع واقتراح حل على الطرفين المعنيين. وبالطبع فإن أياً من طرفي النزاع أو كلاهما حرفي قبول أو رفض اقتراحات الموفق أو لجنة التوفيق. وكما عليه الحال في الوساطة يمكن للموفقين أن يجتمعوا بالطرفين مجتمعين أو منفردين.
وأسلوب التوفيق حديث العهد، إذ أنه دخل التعامل الدولي في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وقد ورد النص على تشكيل العشرات من لجان التوفيق في اتفاقيات ثنائية أو متعددة الأطراف. وينص بعض هذه الاتفاقيات على تشكيل لجان دائمة تكون في بعض الحالات مخولة حتى في عرض خدماتها على طرفي النزاع دون أن يطلب إليها القيام بذلك.
كما تقضي اتفاقيات أخرى بتشكيل لجان خاصة بعد قيام النزاع فقط. وتضمن عدد من الاتفاقيات مؤخراً، وبعضها ذو أهمية كبيرة، بنوداً تقضي بتشكيل لجان توفيق كميثاق بوغوتا (1948) the pact of Bogota ومعاهدة بروكسل 17 آذار 1948) the treaty of Brussels.)
وتكون معاهدات التوفيق على أنواع مختلفة:
آ-معاهدات التوفيق السكندينافية التي وضعت أسلوباً موحداً للتوفيق يمكن تطبيقه في جميع المنازعات.
ب-معاهدات التوفيق والتحكيم البولونية التي أحدثت أسلوباً مزودجاً لحل جميع المنازعات على مرحلتين: تبدأ الأولى بالتوفيق، فإذا أخفقت هذه الطريقة يلجأ الطرفان إلى التحكيم.
جـ-معاهدات التحكيم والتوفيق الالمانية وهي تنص على تطبيق طريقتي التحكيم والتوفيق في حالتين مختلفتين:
الأولى في المنازعات القانونية والثانية في المنازعات ذات الطابع السياسي.
د- معاهدات التوفيق والتسوية القضائية المتبعة في سويسرا وهي تجمع بين الطريقتين.
هـ- ميثاق التحكيم العام: وقد أقرته الجمعية العامة لعصبة الأمم في 26 أيلول 1928، الذي تناول بكثير من التفصيل ثلاثة نظم لتسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية وهي التوفيق والقضاء والتحكيم.
و-معاهدات التوفيق والتحكيم والتسوية القضائية.
وهي تنطوي على أسلوب مزيج أخذت به معاهدات لوكارنو الموقعة في 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1925.
وأهم هذه المعاهدات هي معاهدة لوكارنو التي وضعت للمصالحة الدولية القواعد التالية:
آ-تتألف اللجان من ثلاثة أو خمسة أعضاء على الأكثر وتكون دائمة.
ب-ينحصر اختصاصها في الخلاف على المصالح وليس على الحقوق، ولا يكون هذا الاختصاص الزامياً، كما أن التقرير الذي تضعه لا يكون ملزماً للطرفين بل يكون مستنداً لحل تحكيمي أو قضائي لاحق.
جـ-تتبع لدى لجان المصالحة الأصول التي نصت عليها معاهدة لاهاي (1907) بشأن لجان التحقيق. ورغم الاتفاقيات الملمح إليها فإن استخدام أساليب التوفيق يمثل ظاهرة نادرة الحدوث على المسرح الدولي، وربما كان السبب في ذلك أن الدول تفضل اللجوء إلى الأساليب الأخرى لتسوية المنازعات على أسلوب التوفيق لأنها تنص على إصدار قرارات أو أحكام ملزمة (تحكيم قضاء) بدلاً من ترك الحرية لكل طرف في رفض مجرد اقتراحات أو توصيات كما هو عليه الحال في أسلوب التوفيق.
وقد عرضت نزاعات عديدة لبحثها من قبل هذه اللجان ومن ذلك: النزاع الدانيماركي -البلجيكي عام 1952، ونزاعان بين فرنسا وسويسرا عام 1955، ونزاع بين اليونان وإيطاليا عام 1956.
ومن الأمثلة البارزة على نجاح أسلوب التوفيق" إعادة بعض الأراضي الكمبودية التي منحتها فرنسا إلى تايلاند عام 1941 بناء على وساطة اليابان، إذ آلت المساعي الحميدة التي بذلتها بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية إلى عرض النزاع على لجنة توفيق تألفت وفقاً لأحكام الاتفاق الموقع في واشنطن بتاريخ 17 كانون الأول (ديسمبر) 1946 وإذعان تايلاند لمضمون التقرير القاضي بضرورة إعادة الأراضي الممنوحة.
ومن أحدث الأمثلة لجنة التوفيق التي شكلتها الأمم المتحدة عام 1948 لحل مشكلة فلسطين، والتي ما تزال قائمة نظرياً.
ولعل من المفيد إلقاء نظرة سريعة على بعض المواد الخاصة بالمصالحة الاختيارية المنصوصة في نظام المصالحة والتحكيم في غرفة التجارة الدولية النافذ اعتباراً من تاريخ الأول من شهر حزيران عام 1957.
1- الهيئة الإدارية للمصالحة، لجنة المصالحة:
إن كل خلاف ذي صفة تجارية وله طابع دولي يمكن السعي لتسويته ودياً عن طريق "الهيئة الإدارية للمصالحة" المحدثة لدى غرفة التجارة الدولية، وتسمي كل لجنة وطنية من عضو إلى ثلاثة أعضاء في "الهيئة" من بين رعاياها المقيمين في باريس، ويعين هؤلاء لمدة سنتين من قبل رئيس غرفة التجارة الدولية (المادة 1/1 ويشكل رئيس غرفة التجارة الدولية لكل خلاف "لجنة مصالحة" مؤلفة من ثلاثة أعضاء.
وتتألف "اللجنة" من مصالحين ينتميان بقدر الإمكان، إلى كل من جنسية طالب المصالحة والطرف الآخر. "ورئيس لجنة" من غير جنسية الطرفين المعنيين، ويجري اختياره. من حيث المبدأ، من بين أعضاء "الهيئة الإدارية للمصالحة" (المادة ½).
2- طلب المصالحة:
ينبغي على الطرف الراغب في اللجوء إلى المصالحة أن يتقدم بطلب إلى "الأمانة العامة لغرفة التجارة الدولية" بواسطة لجنته الوطنية أو بصورة مباشرة، وفي هذه الحالة الأخيرة يقوم "الأمين العام" بإبلاغ "اللجنة الوطنية" بذلك.
ويجب أن يتضمن الطلب عرضاً للقضية من وجهة نظر الطرف المذكور، كما يجب أن يكون مرفقاً بصورة عن الأوراق والوثائق المتعلقة به، هذا فضلاً عن دفع سلفة نقدية وفقاً للجدول المرفق بهذا النظام لتغطية النفقات التي تتحملها "الأمانة العامة" في إجراءات المصالحة (المادة 2).
3- الإجراءات المتخذة من قبل لجنة المصالحة:
يقوم "الأمين العام لغرفة التجارة الدولية" لدى تسلمه طلب المصالحة مرفقاً بالأوراق والوثائق المتعلقة به والسلفة النقدية بإعلام الطرف الآخر (أو الأطراف الأخرى) بالخلاف بصورة مباشرة أو بواسطة لجنته الوطنية (أو لجانهم الوطنية) ويدعوه (أو يدعوهم) لقبول مسعى المصالحة، ومن ثم تقديم عرض خطي للقضية من وجهة نظره إلى "لجنة المصالحة" ويجب أن يكون مرفقاً بصور عن الأوراق والوثائق المتعلقة به، هذا فضلاً عن دفع سلفة نقدية وفقاً للجدول المرفق بهذا النظام لتغطية النفقات التي تتحملها الأمانة العامة في إجراءات المصالحة (المادة 3/1).
وتدرس "اللجنة" الملف وتلجأ إلى طلب أية معلومات بهذا الصدد وذلك بطريق المراسلة مع طرفي النزاع بصورة مباشرة أو عن طريق لجنتيهما الوطنيتين، وتستمع إلى أقوال الطرفين إذا كان ذلك ممكناً (المادة 3/2).
ويمكن للطرفين أن يمثلا شخصياً أمام "اللجنة" أو أن يكون ممثلين بوكلاء معتمدين بصورة رسمية، ويمكنهما أن يستعينا بمستشارين أو محامين (المادة 3/3).
4- صيغة المصالحة:
تقترح "اللجنة" على الطرفين صيغة للمصالحة بعد تدقيق الملف وسماع الطرفين إذا كان ذلك ممكناً (المادة 4/1)
إذا تمت المصالحة، تضع اللجنة محضراً يثبت اتفاق الطرفين وتوقع عليه (المادة 4/2).
في حالة عدم حضور الطرفين أو تمثيلهما بوكلاء معتمدين بصورة رسمية، تقوم "اللجنة" بابلاغ رئيس كل من اللجنتين الوطنيتين المعنيتين صيغة المصالحة وتدعوهما ليستعملا نفوذهما لدى الطرفين لاقناعهما بقبول اقتراحات اللجنة(المادة 4/3).
5- حقوق الطرفين في حالة اخفاق مسعى المصالحة:
إذا فشل مسعى المصالحة، يصبح الطرفان حرين في اللجوء إلى التحكيم أو إلى المحاكم المختصة، ما لم يكونا مرتبطين بشرط تحكيم (المادة 5/1).
لا تتأثر حقوق الطرفين، بأي شكل كان، سواء في التحكيم أو أمام المحاكم، بما تم أو قيل أو كتب أثناء المصالحة.
ولا يجوز لمن اشترك في لجنة المصالحة في خلاف ما أن يعين محكماً في نفس الخلاف (المادة 5/2).
تبلور صورة الأمة الإسلامية الواحدة على أساس استراجية التقريب بين المذاهب الإسلامية
لقد بات من الواضح أنّ مسألة التقريب بين المذاهب الإسلامية وتوحيد صفوف الأمة الإسلامية ،أمام ما يحدث لها من تحديات ومخاطر وعداء للإسلام ، أمل من الآمال الّتي يتطلع إليها كل مصلح غيور على هذه الأمة في العالم الإسلامي .
والحديث عن التقريب بين المذاهب الإسلامية ، هو حديث عن صورة من صور العلاقات الفكرية والاجتماعية والإنسانية ، ضمن إطار الأمة الواحدة، يتجه بقوة إلى تبيين نوازع الاختلافات المذهبية والطائفية، ليتم الوقوف عليها والعودة إلى مصادرها الصحيحة، تحقيقا للهدف الأسمى المتمثل في إعادة اللحمة بين أبناء الإسلام وتجذ يرها في قلوبهم، وتضييق هامش الفرقة بين أتباع الأمة الإسلامية.
من هذا المنطلق تأتي مداخلتي " التقريب بين المذاهب الإسلامية وفقه الائتلاف في فكر الشيخ التسخيري".
واختيار إطلاق " فقه الائتلاف" بدلا من فقه الاختلاف، مع أن غاية التسميتين واحدة، لأنّ في الائتلاف يتضح الهدف الأسمى الذي نرمي إليه، وهو تقريب الفجوة بين عقول وأفكار أبناء الأمة الإسلامية، على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم، وردمها بين القلوب والمشاعر، لأنّ المشكلة ليست في الاختلاف بين المذاهب أو في تعدد مناهجها أو تنوع اجتهاداتها، وإنما المشكلة في طريقة الفهم والنظر لهذا الاختلاف والتعدد والتنوع.
كما تسعى الدراسة إلى تبلور مفهوم التقريب بين المذاهب الإسلامية لدى الشيخ محمد علي التسخيري حفظه الله ورعاه، وذلك لأنه من أكبر دعاة التقريب بين المذاهب الإسلامية، وأعلم بالأسس والمبادئ التي يعتمدها التقريب، وأكثر أثرا في توحيد الصفوف وتحقيق خصائص الأمة الإسلامية.
ولعل من أوليات مهامنا تجاه العلماء، دراسة مشروعاتهم الفكرية والثقافية، وقراءة تجاربهم الإصلاحية، حتى يتسنى لنا استيعاب العبر ، وهضم المحاور الكبرى لتلك التجارب والمحاور:
أوّلا: حركة التقريب بين المذاهب الإسلامية.
ممّا لا ريب فيه أنّ وحدة الأمّة والتقريب بين وجهات النظر المختلفة للمذاهب سواء أكان فيما يقع للناس في أمور معاشهم وطرائقها ، أم كان في نظرتهم – مثلا – لبعض الفروع الفقهية واختلافهم بشأنها من جهة ما يعتريها من أحكام، ونقل صورة مثلى للإسلام يحتاج إلى تعاون بين مختلف العلماء من مختلف المذاهب الإسلامية، وقد بذل بعض القادة والعلماء جهودا مشكورة في هذا السبيل.
ففي سنة 1364ﻫ دعا الشيخ محمد تقي الدين القمّي رحمه الله إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية تحت اسم "جماعة التقريب" وسجلت بهذا الاسم وضمّت نخبة من كبار علماء مصر منهم الشيخ محمود شلتوت والشيخ عبد المجيد سليم والشيخ إبراهيم حمروش والشيخ محمد المدني وغيرهم ، وكان من نتائج عملها أن درست في كليات الشريعة بالأزهر بعض المذاهب الشيعية.
كما شهد هذا العصر تلاحقا فكريا واسعا بين العلماء عن التقريب بين المذاهب الإسلامية، فكانت هناك مؤتمرات وندوات علمية مختلفة ، مثل مؤتمر التقريب بين المذاهب الإسلامية الذي انعقد في البحرين يوم 2003-09-24م ،ومؤتمر المنظمة الإسلامية للعلوم والثقافة (مؤتمر القمة الإسلامية العاشر بماليزيا سنة2003)، ومؤتمر الدوحة من 20 إلى 22 يناير 2007 الذي كان تحت شعار "دور التقريب في الوحدة العلمية" ، وملتقى "التقريب في الفكر والوحدة في العمل" المنعقد بكينيا في مارس 2007 ، وما يقوم به المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب بطهران من نشاط أحسن دليل على نية العلماء في التقريب بين المذاهب الإسلامية وتوحيد كلمة الأمة ولمّ شملها.
ففكرة التقريب بين المذاهب الإسلامية تمتلك جذورا تمتدّ إلى أقدم العصور الإسلامية ، كما يقول الشيخ آية الله محمد علي التسخيري([3]) لأنّها تستمد أصالتها وحيويتها من أصول الشريعة الغراء ، وتتضح ضرورتها كلّما اتسع نطاق مسؤولية هذه الأمة في صنع الحضارة الإنسانية أو الإسهام الفاعل فيها على الأقلّ. ومواجهة التحديات والمخاطر المحدقة بها.
أ- أهمية التقريب بين المذاهب الإسلامية :
تنطلق أهمية التقريب بين المذاهب الإسلامية من مكارم الشريعة الغراء، ومن مدلـولات التشريع ومقـاصده الرامية إلى توحيد الأمة الإسلامية وفق الأمر الإلهي يقول تعالى:
} وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) سورة آل عمران، الآية : 103 ـ 104).
ـ كما تنطلق هذه الأهمية من مقتضيات حال المسلمين وواقعهم - كما أشرنا سابقا– وممّا تحتمه مصلحتهم المشتركة من وجوب التعاون والتآزر والوحدة «فالوحدة الإسلامية هي الوسيلة الوحيدة لمواجهة التحديات الّتي تواجهها الأمة الإسلامية ويتعيّن على جميع المسلمين في الظروف الحساسة الحالية اعتماد الوحدة. وإنّ التقريب بين المذاهب هو السبيل الوحيد للوحدة »(4).
ـ تضييق رقعة الخلافات المذهبية والحدّ من انتشار ظاهرة التعصب المفضية إلى التفرقة والفتن، وجسرا متينا لترسيخ قيم الائتلاف والتسامح وإتباع صراط الرشاد الهادي إلى تماسك الأمة وتدعيم عناصر وحدتها(5).
ـ إنّ التقريب بين المذاهب الإسلامية سيؤدي حتما إلى انبعاث ثقافي للأمّة، إذ ستتضاعف الأعمال المعرفية حين يكسر كل جانب عقدة الوهم من الجانب الآخر، ويلتمس الفائدة الحقيقية من مؤدى اجتهاداته فيما أصاب فيه... كما له أثر على الناحية الاقتصادية والسياسية... (6).
غير أنّ مفهوم التقريب بين المذاهب الإسلامية لا يعني نبذ المذاهب المختلفة واعتناق مذهب موحد – كما يعتقد البعض – بل هو خطوة نحو جمع المسلمين وإشباعهم روح التفاهم والتعارف والتآلف فيما بينهم، والتقائهم بعد تنافرهم وتباعدهم، وبيان سعة الفقه وقدرته على المواجهة والتصدي لكل التيارات المناوئة للإسلام.
فقد قامت ـ تاريخيا ـ عدّة محاولات سياسية لفرض مذهب إسلامي واحد ، باستخدام الوسائل العسكرية والإدارية ، لعلّ أشهرها محاولة المعتزلة فرض آرائهم الاجتهادية في العصر العباسي، ولكنّها لم تؤد في النهاية إلاّ إلى إضافة الضغائن على الخلافات الفكرية الاجتهادية الّتي كان ينبغي أن تبقى ضمن إطار الفكرة لا تتعدّاه (7).
فالذي نبحث عنه ليس قرارا سياسيا يتبنّى اتجاها محدّدا في الفقه الإسلامي، ويحظر ما سواه، بل إنّ ذلك سيؤدي إلى نقيض مقاصدنا في تحقيق الوحدة الإسلامية، والتقريب بين المذاهب... فذلك أمر غير وارد، وغير مستساغ، لاستحالة وقوعه وصعوبة التفكير فيه، ويرفضه العقل الإسلامي، ولا يقبله منطق الحكمة، وحول هذا الأمر نستشهد بالموقف الحكيم للإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، حين قدّم للعالم الإسلامي كتابه الموطأ :
« قال ابن حاتم : قال مالك: ثمّ قال لي جعفر المنصور: قد أردت أن أجعل هذا العلم واحدا ، فاكتبه إلى الأمراء وإلى القضاة فيعملون به، فمن خالف ضربت عنقه ، فقلت : يا أمير المؤمنين، إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وآله كان في هذه الأمّة، وإنّ اختلاف العلماء رحمة من الله على هذه الأمّة، كل يتّبع ما صحّ عنده وكل على هدى وكل يريد الله »(8).
فالإمام مالك رحمه الله رسم لنا مذهب الوحدة الإسلامية الذي نبتغي، وهو الذي يضمن التكامل بين حركة الاجتهاد ووحدة الجماعة، أمّا الدمج وتذويب الأفكار الاجتهادية أو تهميش أي مذهب، أمر غير مطلوب.
ثانيا: قيم التقريب بين المذاهب الإسلامية :
ما القيم الّتي نعتمد عليها لمحاولة التقريب بين المذاهب الإسلامية؟
سعيا لجعل قضية التقريب بين المذاهب الإسلامية وتجميد الخلافات التاريخية والفقهية من بنود مرتكزات الوحدة الفكرية والثقافية بين أبناء أمتنا الإسلامية، يضع الشيخ التسخيري سبعة قيم للتقريب بين المذاهب، أمام كل مسلم منصف ليجد فيها الخير لكل أبناء الإسلام على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم، لأن الإسلام فوق المذاهب كما أنّ الأمة فوق الطوائف ، معتبرا هذه القيم خطوطا عامة للسياسات الّتي ينبغي أن يراعيها الخط التقريبـي ليحقق أهدافه المرجوة(9).
- القيمة الأولى : التعاون فيما اتفقنا عليه.
يرى الشيخ التسخيري أن المذاهب الإسلامية تتفق في مجالات كثيرة جدًّا، كما لها مساحات مشتركة كثيرة، سواء كانت في الأصول العقائدية أم في المجالات التشريعية (والتي يصل بها بعض العلماء إلى أكثر من 90% من المساحة العامة)، أو في المجالات الأخلاقية، حيث التوافق يكاد يكون كاملاً، وكذلك في مجال المفاهيم والثقافة الإسلامية، وحتى في المسيرة التاريخية والحضارية، طبعًا في مفاصلها الرئيسية، رغم الاختلاف في تقييم المواقف المعينة.
أما المواقف العملية فهم يتفقون جميعًا على لزوم توحيدها عبر التكاتف والتكافل الاجتماعي، وعبر وحدة القرار الاجتماعي الذي تتكفله جهة ولاة الأمور الشرعيين، ولا ريب أن التعاون في المشتركات الفكرية يعني التعاضد في تركيزها في الأذهان وتجنب كل ما يؤدي إلى نقضها، وبالتالي تعميقها في مجمل المسيرة.
أما التعاون في المجالات المرتبطة بالسلوك الفردي والاجتماعي والحضاري؛ فواضح وتنضوي تحته المجالات الحياتية المختلفة من قبيل: تطبيق الشريعة الإسلامية، تعظيم الشعائر الإلهية كالجمعة والحج، وتحقيق خصائص الأمة الإسلامية كالوحدة، وهكذا..
كما يشير إلى أن حركة التقريب يجب أن تبذل قصارى جهدها لاكتشاف المساحات المشتركة هذه وتوعية الجماهير -وأحيانًا نضطر إلى توعية النخبة أيضًا- بها. كما تعمل على توسعة نطاق هذا الجانب المشترك عبر الإشارة -مثلا- إلى كون النزاع والخلاف لفظيًّا لا جوهريًّا، أو عبر التوعية بأسلوب ثالث يشترك فيه المختلفان.
- القيمة الثانية: التعذير عند الاختلاف.
من الأسس التي ينبغي أن نركز عليها في التقريب بين المذاهب الإسلامية يركز الشيخ التسخيري أن الإيمان بانفتاح باب الاجتهاد -وهي الحالة الطبيعية التي لا يمكن إغلاقها بقرار.
وما دامت أسباب اختلاف النتائج الاجتهادية قائمة وطبيعية.. فمعنى ذلك الرضا باختلاف الآراء والفتاوى، و الجدير بالذكر هنا كما يذكر الشيخ: أننا لا نجد نهيًا إسلاميًّا عن الاختلاف في الآراء، وإنما ينصب النهي على التنازع العملي المُذهب للقوة، والتفرق في الدين والتحزب الممزِّق، وأمثال ذلك. وهذا يعبر عن عقلانية الإسلام ومنطقيته.
وعليه يقول الشيخ أنه يجب أن يُوطّن الفرد المسلم -عالمًا أو متعلمًا، مجتهدًا كان أو مقلدًا- على تحمل حالة المخالفة في الرأي، وعدم اللجوء إلى أساليب التهويل والتسقيط وأمثالها، وحينئذ يكون الخلاف أخويًّا ووديًّا (لا يفسد للود قضية.
كما يشير الشيخ إلى ورود نصوص كثيرة تدعو المؤمن للصبر والمداراة، وسعة الصدر، ويمكن عكسها على واقعنا الحالي. مثل نص الإمام الصادق (رحمه الله)، حيث جرى ذكر قوم فقال الراوي: "إنا لنبرأ منهم لا يقولون ما نقول، فقال الإمام: يتولّوننا، ولا يقولون ما تقولون، تبرؤون منهم؟ قلت: نعم، قال: هو ذا عندنا ما ليس عندكم، فينبغي لنا أن نبرأ منكم". إلى أن قال: "فتولوهم ولا تبرؤوا منهم: إن من المسلمين من له سهم، ومنهم من له سهمان.. فليس ينبغي أن يحمل صاحب السهم على ما عليه صاحب السهمين...". وتعامُل أئمة المذاهب فيما بينهم مثال رائع على هذه الحقيقة.
- القيمة الثالثة : تجنب التكفير والتفسيق والاتهام بالابتداع.
يعتبر الشيخ التسخيري أن مسألة التكفير من المصائب التي ابتلي بها تاريخنا، فرغم النصوص الشريفة التي تحدد المسلم من جهة وتمنع من التكفير للمسلم من جهة أخرى لاحظنا سريان هذه الحالة التي حجرت على العقل أي إبداع أو مخالفة، حتى إننا شاهدنا من يؤلف كتابًا، ويرى أن مخالفة حرف واحد فيه تؤدي إلى الكفر وهذا أمر غريب!
ومن هنا فالشيخ يدعو إلى التحول بالمسألة من (الإيمان والكفر) إلى مرحلة (الصواب والخطأ)، بشرط التحلي في ذلك بروح القرآن التي تدعو إلى الموضوعية، حتى في النقاش مع الكفار الحقيقيين، حينما يُخاطَب الرسول أن يقول لهم: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (سـبأ( 24 .
- القيمة الرابعة: عدم المؤاخذة بلوازم الرأي.
يذكر الشيخ محمد التسخيري أن الإنسان يحاسب على رأيه ويناقش بكل دقة وأناة، إلا أننا اعتدنا على مناقشات تبتني على لوازم الآراء، وبالتالي يأتي التكفير والاتهام بالابتداع، في حين أن صاحب الرأي قد لا يقبل تلك الملازمة، وللتوضيح يقدم لنا مثالا على ذلك، نجد البعض ممن يؤمنون بمسألة التحسين والتقبيح العقليين يصفون من لا يقبلون بهما بأنهم يغلقون باب الإيمان بصدق النبي، استنادًا إلى أن ما يدفع احتمال كذب النبي الآتي بالمعجزة هو حكم العقل بقبح إجراء المعجزة على يد الكاذب عقلاً، فإذا فرضنا عدم وجود أي تقبيح عقلي فمعنى ذلك أننا أغلقنا باب الإيمان بالنبوة، وهكذا يقال بالنسبة لمسألة طاعة الله تعالى، فإن الملزم لنا بإطاعته تعالى هو العقل لا غيره. وعلى هذا الغرار نجد البعض الآخر يتهم القائلين بالتوسل أو الشفاعة أو القسم بغير الله بالشرك؛ لأنه لازم لهذا القول وهلم جرًّا.
إن المناقشة العلمية الهادئة أمر مطلوب، ولسنا مع إغلاق باب البحث الكلامي مطلقًا، بل المنطق يقتضي فتحه، ولكننا ندعو للمناقشة المنطقية، فلا ننسب للآخر ما لم يلتزم به، وما دام لا يؤمن بالملازمة بين رأيه والرأي الآخر، فإننا نلتمس له العذر، وبهذا نستطيع أن نغلق بابًا واسعًا من الاتهامات الممزِّقة.
- القيمة الخامسة: التعامل باحترام عند الحوار.
تحت هذه القيمة يذكر الشيخ التسخيري أن الحوار هو المنطق الإنساني السليم في نقل الفكر إلى الآخرين، وأن القرآن الكريم طرح نظرية رائعة للحوار المطلوب، تناولت مقدمات الحوار وظروفه وأهدافه ولغته بشكل لا مثيل له، وكان مما تناوله مسألة الاستماع للآراء وإتباع أحسنها، ومسألة عدم التجريح، حتى إن الآية الشريفة تقول:
(قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [سـبأ:25]، في مجال توجيه حوار الرسول مع غير المؤمنين بالإسلام، وإبعاده عن مسألة إثارة حزازات الماضي والاتهامات المتبادلة فيه، والتوجه لمنطقية الحوار نفسه، وهي مع أن السياق اللفظي كان يتناسب معه،وعليه يتساءل الشيخ كيف بنا ونحن نتحاور كمسلمين متفقين على مبادئ تقربنا؟
- القيمة السادسة: تجنب الإساءة لمقدسات الآخرين.
يرى الشيخ التسخيري أنّه ينبغي التركيز في التقريب بين المذاهب على الحوار وعلى تجنب الإساءة لمقدسات الآخرين ، هذا الأخير حسب رأيه يخلق جوا عاطفيا معاكسا ، ويرد نصوصا يستدل بها على هذا مثل قوله تعالى:
(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:108].
بهذه الروح الإنسانية يوجه الله تعالى المؤمنين في تعاملهم بعد أن يوضح لهم وظائفهم الدعوية لا التحميلية، وفرض الرأي على الآخرين حتى لو كانوا مشركين: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (الأنعام:107).
والنصوص الإسلامية في النهي عن السب واللعن معروفة، فإذا كان هذا هو الحال أن المفروض هو الحوار بين مسلمين أخوين يعملان لهدف واحدٍ، ويشعر كل منهما بآلام الآخر وآماله، فإن الموقف لا يتحمل مطلقًا احتمال الإهانة، وخصوصًا للأمور التي يؤمن الآخر بقدسيتها لارتباطها مع معتقداته الأصيلة.
- القيمة السابعة: الحرية في اختيار المذهب.
يعتبر الشيخ أن المذاهب نتيجة اجتهادات سمح بها الإسلام، علينا أن نعدها سبلا مطروحة للإيصال إلى مرضاة الله تعالى. وحين تختلف فإن من الطبيعي أن يدرس المسلم هذه المذاهب وينتخب الأفضل منها وفق معاييره التي يؤمن بها، والتي يشخص من خلالها أنه أبرأ ذمته أمام الله وأدَّى أمانته وعهده.
وحينئذ فليس لأحد أن يلومه على اختياره حتى لو لم يرتح لهذا الاختيار. كما أنه لا معنى لإجبار أحد على اختيار مذهب ما؛ لأن ذلك مما يرتبط بالقناعات الإيمانية، وهي أمر لا يمكن الوصول إليه إلا بالدليل والبرهان.
وهنا يؤكد أن لكل مذهب الحق في توضيح آرائه ودعمها، دونما تعدٍّ على الآخرين أو تهويل أو تجريح، كما أنه لا يدعو إلى إغلاق باب البحث المنطقي السليم، وإنما نرفض محاولات الاستغلال السيئ، والاستضعاف، والجدال العقيم، وفرض الرأي، وأمثال ذلك.
وبعد فهذه القيم السبعة التي رأى فيها الشيخ محمد علي التسخيري أسسا وأصولا للحوار والتقريب بين المذاهب الإسلامية يمكن أن تُستثمر في الحوار والتقريب بين دوائر أخرى قد تكون أكبر من المذاهب الإسلامية مثل الحوار والتقريب بين أهل الأديان والملل والنحل المختلفة.
وقد تكون دوائر أصغر من المذاهب الإسلامية مثل الحوار بين فصائل الصحوة العاملة على الساحة الإسلامية، وبين الأحزاب السياسية، وبين التكتلات المدنية والاجتماعية والاقتصادية بغية الوصول إلى هدف واحد وتحقيق غاية واحدة يتحقق بها صلاح الدنيا والدين.
ثالثا: أسس التقريب بين المذاهب الإسلامية :
يكثف الشيخ التسخيري رؤيته لعملية التقريب بين المذاهب الإسلامية ، باعتبارها من مرتكزات وحدة الصف الإسلامي بتحديده لست أسس ،معتقدا أن الإيمان بمسألة التقريب يتأتى بكل منطقية إذا لاحظنا هذه الأسس ، التي يؤمن بـها كل المذاهب الإسلامية دون استثناء وهي (10):
- أولا: الإيمان بأصول الإسلام العقائدية الكبرى، وهي: التوحيد الإلهي (في الذات والصفات والفعل والعبادة)، وبالنبوة الخاتمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكريم الذي جاء به وما فيه، والمعاد يوم القيامة.
- ثانيًا: الالتزام الكامل بكل ضروريات الإسلام وأركانه من: الصلاة والزكاة والصوم والحج، وغيرها.
- ثالثًا: الالتزام الكامل بأن الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة هما المصدران الأساسيان لمعرفة رأي الإسلام في شتى الأمور: المفاهيم عن الكون، والحياة، والإنسان: ماضيه وحاضره، ومستقبله في الحياتين.
والأحكام والشريعة التي تنظم حياته وسلوكه الفردي والاجتماعي. أما الأصول والمصادر الأخرى كالعقل والقياس والإجماع وأمثالها، فهي لا تملك أي حجية إلا إذا استندت إلى ذلك المصدرين الكريمين، واستمدت مصدريتها منهما.
- رابعًا: الالتزام بأن الإسلام سمح لعملية الاجتهاد باعتبارها عملية "بذل الوسع لاستنباط الحكم الشرعي من مصادره" أن تكون هي الموصلة لمعرفة الإسلام.
كما أنها تلعب دورها في تأكيد مرونة الشريعة وقدرتها على استيعاب التطورات الحياتية طبقًا لمعايير وضوابط معينة، وهذا يعني -بالضرورة- إمكان إيجاد الصلة بين مختلف النتائج التي أدى إليها الاجتهاد وبين الإسلام حتى لو كانت مختلفة ومتضادة فيما بينها، وذلك لاختلاف الإفهام وزوايا النظر والقناعات (وهو ما يدرس في العلوم الإسلامية تحت عنوان: أسباب الخلاف).
كما يرى الشيخ التسخيري أن الإسلام إذ سمح بذلك فلأنه دين واقعي فطري، فلا طريق لمعرفة أية شريعة ممتدة على مدى العصور ينقطع وحيها ويموت معصومها إلا طريق الاجتهاد، رغم أن هذا الطريق يبتلى أحيانًا بالذاتية ويفرز آراء متخالفة قد لا يطابق بعضها واقع المراد الإسلامي في علم الله تعالى.
كما يجد الشيخ أن هذا الأسلوب المنطقي يعم استنباط كل الأمور كالعقائد، والمفاهيم، والأحكام، بل وحتى المواقف الإسلامية من بعض القوانين الطبيعية.
خامسًا: أن مبدأ (الوحدة الإسلامية) يعبر عن خصيصة مهمة من خصائص هذه الأمة المباركة، ومن دونها لا يمكن لها أن تدعي اكتمال هويتها.
وقد وضع الإسلام خطة متكاملة لتحقيق هذه الوحدة بانيًا لها على أساس الاعتصام بحبل الله المتين -وهو أي سبيل معصوم يوصل إلى الله- ومؤكدًا على وحدة الأصل والخلق ووحدة الهدف ووحدة الشريعة والمسير، داعيًا إياها للدخول المجموعي في إطار التسليم الكامل لله ونفي خطوات الشيطان، ومذكرًا بآثار الوحدة، وغارسًا الأخلاقية وعناصر التضحية بالمصالح الضيقة في سبيل الهدف العام، حاذفًا كل المعايير الممزقة كاللغة والقومية والوطن والعشيرة واللون، مركزًا على المعايير الإنسانية كالعلم والتقوى والجهاد، ومؤكدًا على لزوم تحري نقاط اللقاء، وداعيًا إلى استخدام المنطق السليم؛ منطق الحوار الهادئ الموضوعي.
سادسًا: مبدأ الأخوة الإسلامية:يأخذ الشيخ التسخيري مبدأ الأخوة الإسلامية على أنّه أهم جزء مشترك بين المذاهب الإسلامية، لأنه ينظم مجمل العلاقات الاجتماعية في الإسلام، كما يعتقد الشيخ أن آثاره لا تقتصر على الجوانب الأخلاقية فحسب، بل تتعداها إلى الجوانب التشريعية وتترك أثرها الكامل على عملية الاجتهاد نفسها، لكي لا نشهد في هذه الساحة أحكامًا تتناقص معه.
هذه الأسس الستة هي أهم ما يمكن أن تبتني عليها حركة التقريب بين المذاهب الإسلامية في فكر الشيخ محمد علي التسخيري ، فيكاد التصديق بالأسس كما يقول " يؤدي بشكل منطقي عفوي للإيمان بهذه الحركة"
وعليه فالشيخ التسخيري يعتقد أنّ عملية التقريب بين المذاهب الإسلامية، لا تقتصر على الجوانب الأخلاقية أو الجوانب الشعارية، ولا تتحدد بالجوانب التشريعية أيضا، بل يعبرها إلى مختلف الجوانب الفكرية والحضارية.
و ينبغي أن تشترك فيه كل النخب المفكرة الفقهية والفكرية، بل يجب بشكل كامل وربما بشكل أولى أن تعبر النخبة إلى الجماهير، فيبدأ تثقيفها بثقافة التقريب.
لأن الإسلام إن كان يسمح بالاختلاف الفكري غير المخرب والطبيعي فإنّه لا يسمح مطلقا بأدنى خلاف في الموقف العملي من القضايا المصيرية الداخلية والخارجية، ولذلك يعتبر الشيخ أنّ الراد على الحاكم الشرعي (وهو الجهة التي يفترض بها أن تكون الموحدة للموقف العملي للأمة) راداً على الله بعد أن اقترنت طاعته بطاعة الله ورسوله.
فالشيخ بذلك لا يـخفي حجم مسؤولية أولي الأمر في الدول الإسلامية والدور الذي يمكن أنّ تلعبه في إحياء تراث التقريب في الأمة الإسلامية وتحقيق التعايش الأخوي وتقويته بين المنتمين إلى المذاهب المختلفة ، بعد أن عبثت به نوازع الفرقة.
كما لايخفي دور العلماء والمفكرين ومايقع على عاتقهم في مسألة التقريب ، بجعلها من القواعد الفكرية والعلمية والأخلاقية التي يلتزمون بها في مجال كتاباتهم ، وتوضيح أهميتها، وتجديد قناعة الأمة بمسألة التقريب وترسيخ هذه القناعة، وتطوير وعي الأمة بهذه المسألة، وجعلها من قضاياها الرئيسة التي تدافع عنها.
فلئن كانت القيم والأسس ـ السابقة ـ التي يقدمها الشيخ التسخيري تؤدي بطبعها للتقريب بين المذاهب الإسلامية،فإنها بطبعها تعد عاملاً مهماً في تضييق رقعة الخلافات والحدّ من انتشار ظاهرة التعصب المفضية إلى التفرقة والفتن، وسبل من السبل المتينة للتخلص من ما يسمى الطائفية،وجسراً رصينا لترسيخ قيم الائتلاف من المحبة والأخوة والتسامح، وإتباع صراط الرشاد الهادي إلى تماسك الأمة وتدعيم عناصر وحدتها، وهو ما أكده المنهج الإلهي في قوله تعالى : ( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصَّاكم به لعلكم تتقون).
فهذه القيم والأسس ضرورة وركيزة أساسية من مرتكزات وحدة الأمة الإسلامية في أبعادها الحضارية والمذهبية الشاملة، فلابدّ من الإسهام في إعداد جيل يحمل رسالة التقريب المذهبي وحبّه لوحدة أمّته واعتصامها، وتدريبه على نشر هذه الثقافة وفق أسس إسلامية صحيحة وسليمة ، فهذه "الثقافة الذاتية هي إكسير الحياة للأمّة والمجدد الدائب لطاقاتها الأدبية والمادية"(11) ثقافة ترفع هذا النزاع فيما بين الطوائف، هذا النزاع الذي لا معنى له ولا حقيقة فيه، وهو باطل ومضر في الوقت نفسه. وان لم نزل هذا النزاع فان الزندقة الحاكمة الآن حكماً قوياً تستغل أحدنا ضد الآخر وتستعمله أداة لإفناء الآخر، ومن بعد إفنائه تحطّم تلك الأداة أيضا.
فيلزمنا نبذ المسائل الجزئية التي تثير النزاع، لأننا أهل التوحيد بيننا مئات الروابط المقدسة الداعية إلى الأخوة والاتحاد بين أبناء الأمة، فالتقريب كما يقول الأستاذ زكي الميلاد ([12]).
قد يعالج ظواهر التعصب والتطرف والكراهية والقطعية وعدم التسامح على مستوى النخبة من العلماء والمفكرين والمصلحين، لكن معالجتها على مستوى الأمة بكل شرائحها وفئاتها لا يمكن أن يتحقق إلا عبر نهضة فكرية تطور وعي الأمة بهذه القضية وطريقة التعامل معها.