السنة النبوية الشريفة وصناعة الوحدة الإسلامية
السنة النبوية الشريفة
وصناعة الوحدة الإسلامية
أ.د. أسعد السحمراني
أستاذ العقائد والأديان في جامعة الامام الأوزاعي - بيروت
مقدمة:
قام الإسلام على أصل مكين هو: "عقيدة التوحيد وتوحيد الكلمة". والمتفحص لواقع المسلمين يلمس مقدار ما بصرفه الأعداء والخصوم من أجل إشاعة الفتنة، وزرع الفرقة بين المسلمين. إن الصهيوأمريكان يجنّدون طاقات مادية وفكرية كبيرة من أجل زرع الشقاق بين المسلمين وتعزيز الفئوية، والنظرة الضيّقة، لأن الفرقة ضعف، والوحدة قوة ومنعة.
لقد برزت في السنوات الأخيرة مقالات وأفكار غير مسؤولة، أو أخرى تنبش موروثات ميّتة، وتحيي ما هو دارس أو مدسوس لتتسلح بذلك في دعوتها لإثارة الفتن، ويتجند لمثل هذه المهمات المريبة مرتزقة أو جامدون، ومأجورون أو جهلة، ومثل ذلك غير خافٍ على أي متابع.
وتأتي المعالجة من خلال المرجعية، وهي بشكل أساسي: القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة يليها ما هو من التراث فقهاً وفكراً، إذا كان في الموقع الإيجابي، أو بعض الفكر المعاصر الذي تخطه أقلام ملتزمة بخط الوحدة، وعندها العناية بشخصية الأمة ونصرتها.
كما أن العلاج الفكري لجهة المضامين والمحتويات، أو تحديد الوسائل والأساليب يأتي في الصدارة بين العقاقير الفاعلة في تنقية الأفكار والأذهان مما علق بها، ويكون ذلك المرتكز للإصلاح الشامل للنهوض بالواجب لذي يلتزمه المخلصون والغيارى والأحرار.
لا يهدف هذا البحث إلى طرح لتوحيد المسلمين في مذهب فقهي أو كلامي أو فكري واحد، وإنما إلى إبقاء التنوع والتعددية تحت سقف الوحدة، والسقف مكون من الأصول العقدية ومن النصوص والضوابط، وبعدها من المقاصد الشرعية.
ولأن السّنّة فعل تنفيذي، وقول وتقرير، فإنها تشكل مرجعية أصلية لنظام علاقات يحقق الوحدة واللقاء، والتعاون بالاستناد إلى الجوامع المشتركة سواء أكان ذلك في المبادئ والمنطلقات، أو الثوابت والضوابط، أو المقاصد والغايات.
الوحدة في المنهج النبوي قبل البعثة:
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مفطور للنبوة باصطفاء إلهي، وقد ظهرت عليه منذ الطفولة إلى البلوغ، ومن ثمّ رحلة الحياة قبل البعثة في سنّ الأربعين كل خصائص الشخصية النبوية ما دفع معاصريه أن يبحثوا عن صفات يطلقونها عليه، وتعطيه حقّه بوصفه شخصاً متميّزاً. وقد كان من هذا المنحى أن أطلقوا عليه: "الصادق الأمين"، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) موضع ثقة المحيطين به، ومحل تقدير، فشكل ذلك حافزاً للسيدة خديجة (رضي الله عنه)ا كي تطمع بالزواج منه، وكان لها ذلك.
إن مراجعة سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل البعثة تبيّن حدوث واقعتين لهما بعد وحدوي يصلح للاعتماد بعد الإسلام وهما: حلف الفضول، وتجديد بناء الكعبة.
1- حلف الفضول:
وقعت حرب الفِجار قبل البعثة النبوية بعشرين عاماً؛ أي حوالي سنة 590 م، وقد انطلقت هذه الحرب لأن الرّحّال بن عتبة بن كلاب بن ربيعة نقض حرمة الشهر الحرام وقتل البّراض بن قيس من كنانة، وبعد اقتتال بادر عتبة بن ربيعة بعرض الصلح، وأنهم يتعهدون بسداد ديّات القتلى من الطرف الآخر، ويعفون الآخرين من ديّات قتلاهم، فوافق القوم، وكان الصلح وتمّ ذلك في شهر شعبان من العام نفسه (590م)، وكان الصلح في اجتماع حصل في دار عبد الله بن جدعان، وسمّي الحلف: حلف الفضول.
قال ابن الأثير في "الكامل في التاريخ": "ثم إن قبائل من قريش تداعت إلى ذلك الحلف فتحالفوا في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسنه، وكانوا بني هاشم وبني المطّلب وبني أسد بن عبد العُزّى وزهرة بن كلاب وتيم بن مرّة، فتحالفوا وتعاقدوا أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على ظلمه حتى تُردّ عليه مظلمته، فسمّت قريش ذلك الحلف: حلف الفضول، وشهده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال حين أرسله الله تعالى:
(لقد شهدت مع عمومي حلفاً في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أنّ لي به حُمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت.)"[1]
يظهر من دراسة واقع هذا الحلف أنه حلف كان للوئام والأمن والصلح بعد نزاع وقتال، والصلح خير، وفيه مصلحة للإنسان في كل مكان وزمان شرط أن يقوم على العدل وينتفي معه الظلم والجَوْر. وقد كان ذلك في أساس الميثاق التصالحي حيث تعاهد القوم بأن لا يكون في مكة المكرمة مظلوم من الناس سواء أكانوا اطرافاً في هذا الحلف، أو لم يكونوا من أطرافه، لا بل يقضي الميثاق أن يُردّ الحقّ إلى أصحابه، وأن يسود العدل. وهذا الصلح كان في دار لرجل يكبر الآخرين سنًّا، ويتقدم بينهم موقعاً ومكانة، وهذه آداب أخلاقية أكد عليها الإسلام، وتتظهّر من خلال توجيه الإسلام إلى توقير الكبير، وإلى الإقرار بالفضل لأهل الفضل.
ليتصور كل مسلم أن مثل هذه القيم، وقد سادت في المجتمع، فهل يبقى معها شغب أو فتنة أو تنازع؟
إن حلف الفضول ووقائعه كانت محل تقدير من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد أعلن ذلك بعد الإسلام والبعثة، وصرّح بأنه لو تمت دعوة لمثل هذا الحلف في الإسلام. لما تأخّر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الاستجابة لمثل هذا الحلف، هذا ما جاء في الحديث النبوي الشريف: "ولو دُعيت به لأجبت وهو حلف الفضول."
إن وحدة المجتمع أساس مكين للاستقرار والازدهار وإسعاد الإنسان المستخلف في الأرض، والفرقة والفتنة سييلان للفوضى والتخلف والشقاء. وإذا كان بين مشركي بلاد الحجاز ومكة المكرمة من تنبّه لذلك قبل البعثة النبوية وانطلاق مسيرة الإسلام بعشرين سنةـ فما الأسباب والعوامل التي تدفع أشخاصاً نشأوا على الإسلام وفي رحابه إلى الذهاب باتجاه الفتنة التي حذّر منها الله تعالى في قوله: (والفتنة أكبر من القتل)(سورة البقرة، الآية: 217)، وقوله تعالى: (والفتنة أشدّ من القتل)(سورة البقرة، الآية: 191).
إن الأمة العربية والإسلامية، لا بل العالم قاطبة، محتاجون إلى معاهدات ومواثيق بمنع الظلم والاستبداد على مثال هو حلف الفضول، والمسلمون خاصة محتاجون للعبرة يأخذونها من هذا الموقف النبوي الشريف في هذه الأيام، حيث يعمل الصهيوأمريكان من جهة، والغلاة وأصحاب الفهم المغلوط للدين من جهة أخرى لزرع الشقاق، ونشر الفتنة، والأمة يدعوها دينها للألفة والنوادد والوحدة.
2- بناء الكعبة:
كان قرار أهل مكة أن يجددوا بناء الكعبة الشريفة، وقد شرعوا بالعمل قبل البعثة النبوية بخمس سنوات؛ أي حوالي سنة 505م، وعندما وصل العمل في البناء إلى موضع وضع الحجر الأسود، وهو الركن من البيت، وله موقعه المميّز حصل النزاع حول تحديد صاحب الحق بنيل شرف وضع الركن في مكانه، ويترك البحث سرد الرواية لابن سعد الذي ورد عنده:
"فلما انتهوا إلى حيث يوضع الركن من البيت، قالت كل قبيلة: نحن أحقّ بوضعه، واختلفوا حتى خافوا القتال، ثمّ جعلوا بينهم أول من يدخل من باب بني شيبة فيكون هو الذي يضعه، وقالوا: رضينا وسلّمنا، فكان رسول الله، (صلى الله عليه وآله وسلم)، أول من دخل من باب شَيْبة، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين قد رضينا بما قضى بيننا، ثمّ أخبروه الخبر، فوضع رسول الله، (صلى الله عليه وآله وسلم)، رداءه وبسطه في الأرض، ثمّ وضع الركن فيه، ثمّ قال: ليأتِ من كل رُبع من أرباع قريش رجل، فكان في ربع بني عبد مناف عتبة بن ربيعة، وكان في الربع الثاني أبو زمعة، وكان في الربع الثالث أبو حذيفة بن المغيرة، وكان في الربع الرابع قيس بن عدي، ثمّ قال رسول الله، (صلى الله عليه وآله وسلم)، ليأخذ كلّ رجل منكم بزاوية من زوايا الثوب ثمّ ارفعوه جميعاً، فرفعوه، ثم وضعه رسول الله، (صلى الله عليه وآله وسلم)، بيده في موضعه."[2]
لقد اهتدى مجددو بناء الكعبة، وهم مشركون، إلى التفاهم وحفظ وحدتهم وعدم ترك مكان للنزاع بينهم، فتوافقوا على أن يكون الحكم بينهم أول من يدخل عليهم من باب بني شيبة، وكان الداخل الأول عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو الموصوف عندهم، قبل البعثة، بالصادق الأمين، فاستبشروا بقدومه، وعرض عليه الأمر، وكان الموقف من الحكم الحكيم بقرار هو المخرج والحلّ يقوم على اعتماده رداءه (عباءته) رافعة يمسك بكل طرف من أطرافها الاربعة رجل من أحد الفرقاء، وكان بذلك حلّ أرضى الجميع، ووضع حداً للنزاع والخلاف بينهم.
هذا الفكر التراثي، وهذه المواقف تشكل مادة علمية تصلح من أجل الاستفادة منها في وضع الحلول المناسبة لأي شكل من أشكال النزاع، والأصل أن يبحث الناس عن نقاط اللقاء، وأن يميلوا إلى التفتيش عن المخارج من وحول الفتنة ونارها، وإذا كان مشركو قريش قد توافقوا على أن يكون بينهم حكم يفصل في النزاع حول أمر قد اختلفوا فيه، فإن الأولى بالمؤمنين أن يحتكموا إلى شرع الله تعالى وسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليسود الوئام بينهم، وليقوم اجتماعهم على التآخي، ولا يكون مجال للشيطان ليوقع بينهم.
نماذج من سبل حفظ الوحدة بعد البعثة:
إن السنة النبوية الشريفة وضعت الأسس للوحدة، ودعت لمحاربة الفتنة لأنها غواية ووسوسة شيطانية، وإذا كان السياق القرآني قد حوى النصوص التأصيلية للوحدة فإن أحداثاً بعد البعثة النبوية، وكيفية معالجتها جاءت تفصّل في هذا الباب، وجاءت لتعطي الدواء الناجع لمعالجة أمراض الشقاق والفرقة، وترسّخ الوحدة والألفة.
1- التآخي بعد الهجرة إلى المدينة المنورة:
بعد الهجرة إلى المدينة المنورة انطلق البناء الاجتماعي الأول بعد البعثة، وعندما استقر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة المنورة ومعه المهاجرون، وقد استقبلهم الأنصار بكل حفاوة كان الخطاب التأسيسي النبوي لهذا المجتمع النموذج، وقد جاء الخطاب النبوي للمهاجرين والأنصار يقول: "تآخوا في الله أخوين أخوين، ثمّ أخذ بيد علي بن أبي طالب، فقال عليه الصلاة والسلام: هذا أخي." فبدأ حكاية التآخي، وكان حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة مولى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخوين ((رضي الله عنه)ما).
لقد قام المجتمع الإسلامي الأول على التآخي الذي أصلّت له السنة النبوية في إطار تفصيل ما جاء في القرآن الكريم تأصيلاً في قوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة) (سورة الحجرات، الآية: 10). والأخوة هي أكثر الصلات رسوخاً وديمومة، ولا تدانيها أية رابطة أخرى، وهذا الأخوة التي جاءت تقيم نسيج المجتمع الإسلامي على ركائز متينة لا تهدف إلى التمكين الاقتصادي فقط، كما ذهب بعضهم في تفسير العلاقة عندما فسروا الواقعة على أنها قادت إلى اقتسام الإمكانات المادية من قبل أنصاري مع واحد من المهاجرين ممن كان نصيبه التآخي معه، وما يعطي الواقعة تفسيراً مختلفاً التآخي بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام علي كرم الله تعالى وجهه وهما مهاجران، والتآخي بين حمزة وزيد بن حارثة ((رضي الله عنه)ما)، وهما مهاجران كذلك.
تأسيساً على ما تقدم تكون الأخوة أساساً في مجتمع تشكل فيه وحدة العقيدة والشريعة الأصل في الروابط كلها، وعليها تنبني رابطة لا انفصام لها، فالمتآخون والمتحاربون في الله تعالى معاً في الدنيا والآخرة. والأمر الثاني هو ما سيكون أثناء مسار العلاقة الأخوية التي قامت بالاختيار وأخوة النسب تقوم بالاضطرار، رابط متين وتبادل للأفكار والأفاهيم يجعل المجتمع مستقراً، ويطرد كل نزعة شيطانية لأنه مع الأخوة لا يكون مكان لشياطين الأنس أو الجن ليعيثوا فساداً في الأرض، ولينفثوا سموم الفتنة بين الصفوف التي التزم أهلها خط الإيمان، فالشيطانيون بعضهم ظهير بعض كما أن المؤمنين إخوة متحابون في الله تعالى.
2- صحيفة المدينة:
أما الاتجاه الآخر للوحدة على مستوى مجتمع المدينة وفيه غير مسلمين وأغلبهم من أتباع اليهودية، ويوجد مشركون ومسيحيون ومجوس فقد كان دستور المدينة المعروف باسم "الصحيفة"، وقد كانت الصحيفة أشبه ما تكون بميثاق وطني ودستور حدّد ثوابت العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين، وانطلقت مسيرة المجتمع المستقر لولا أن يهود المدينة مارسوا الخيانة والغدر مما أفسد هذا الميثاق: "الصحيفة".
إن الصحيفة جاءت تقول: إن وحدة المسلمين في المجتمع التأسيسي في المدينة المنورة ليست موجهة ضد من يعيش مع المسلمين من أتباع العقائد الأخرى، فالإسلام يقرّ التعددية والتنوع، وإذا قامت العلاقات والمواثيق على أساس من الثوابت والمرتكزات المتوافق عليها، فإن سيرورة المجتمع تنطلق وتدوم بالاتجاه السليم ما لم يفسد ذلك الاستقرار في العلاقات خائن أو من ينقص هذه المواثيق.
3- غزوة بني المصطلق أو غزوة المريسيع:
ثم كانت محطة مهمة في أساليب معالجة الفتن، وقد حدثت الواقعة في ماجريات غزوة بني المصطلق، وتسمى غزوة المريسيع، وكانت في شهر شعبان من العام السادس للهجرة. سرد الواقعة ابن اسحاق فقال: "فبينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ذلك الماء، وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجيرٌ له من بني غفار، يقال له: جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني، حليف بني عوف بن الخزرج على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فغضب عبد الله بن أبيّ بن سلول، وعنده رهط من قومه فيهم: زيد بن أرقم، غلام حدث، فقال: أو قد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدّنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال الأول: (سمّن كلبك يأكلك)، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ. ثمّ أقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم اموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم.
فسمع ذلك زيد بن أرقم، فمشى به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك عند فراغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من عدوّه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب، فقال: مُرْ به عبّاد بن بشر فليقتله، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟ لا ولكن آذن بالرحيل، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يرتحل فيها، فارتحل الناس."[3]
ويكمل ابن اسحاق قائلاً: "حدّثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن عبد الله[4] أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبيّ فيما بلغك عنه، فإن كنت لا بدّ فاعلاً فمُرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده منّي، وإنّي أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبيّ يمشي في الناس، فأقتله، فأقتل رجلاً مؤمناً بكافرٍ، فأدخل النار؛ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): بل تترفّق به، وتحسن صحبته ما بقي معنا.
وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنّفونه؛ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمر بن الخطاب، حين بلغه ذلك من شأنهم: كيف نرى يا عمر؛ أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله، لأرعدت له آنف[5]، لو أمرتُها اليوم بقتله؛ قال: قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعظم بركة من أمري."[6]
إن غزوة بني المصطلق أو المريسيع تحمل معاني كثيرة في إطار إثارة الفتن، وفي كيفية المعالجة، وتستحق أن يتوقف عند وقائعها الغيارى على الأمة، وعلى وحدة الصف والكلمة ليستفيدوا منها الأساليب السليمة في وأد الفتن وحفظ الوحدة.
إن أحداث ووقائع الغزوة تفيد ما يلي:
أ-إن المطالب الدنيوية تكون –غالباً- السبب في تنازع الناس، وفي غزوة المريسيع كان الازدحام على الماء مادة لإثارة الفتنة.
ب-لقد شكلت العصبية والنزعة الفئوية عود الثقاب الذي أوقد نار الفتنة، وكان ذلك حين أثار كلّ من المتنازعين عصبية، فكان الخطاب: "يا معشر الأنصار"؛ و"يا معشر المهاجرين".
ج-إن طلاب المناصب يستغلّون عصبياتهم، ويسخرونها من أجل مطالبهم الشخصية، وهذا ما كان من عبد الله بن أبيّ بن سلول الذي كان قومه يصنعون له تاج الزعامة فيهم قبل الإسلام، وباستجابتهم للدعوة الإسلامية أدرك أنه قد خسر المنصب والمكاسب، وقد أضمر شراً للإسلام والمسلمين فجّره لحظة وجد الفرصة، وهذا يوجب على أهل الرأي والمتقدمين في مؤسسات المجتمع أن ينتبهوا لمثل هؤلاء الأشخاص، وأن يعملوا على معالجة ما في صدورههم من أحقاد ونزعات عدوانية إما بالاقناع والاستمالة، وإن لم يكن ذلك فبمحاصرتهم وتخفيف تأثيرهم على الآخرين، وبتفكيك العصبيات التي يزكونها ليستقووا بها عندما تكون الفرصة سانحة.
د-إن الإنسان المؤمن لا تكون عنده مواقف شخصية ولا حسابات تتعلق بمصالح شخصية عند الاقتضاء، وإنما يقدم انتماءه لدين الله تعالى، ويكون انحيازه على أساسٍ من ذلك، ولا مكان عنده لموقف بسبب عصبية أو قرابة أو غير ذلك، وهذا ما كان من الصحابي عبد الله تجاه والده الذي هدّد وتوعّد مستعيناً بعصبيته من الأنصار وأهل المدينة، وقد طلب الصحابي المؤمن عبد الله أن يأمره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقتل والده كي لا يثير قتله على يدي سواه عصبية عنده فيقوم بالثأر، ويكون قد عصى الله تعالى.
هـ-تحتاج معالجة المواقف الانفعالية إلى حكمة وحلم من قبل القائد، وإن الموقف يوم هذه الغزوة يعطي دروساً مستفادة من الهدي النبوي. فقد أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) القوم أن يرتحلوا قبل الوقت المعتاد، ثم تباطأ بهم في السير كي يصلوا إلى المدينة، وقد هدأت حدّة الغضب عندهم مما يسهّل الحلّ.
و-الموقف الذي يتخذه القائد لمعالجة مشكلة ما قد لا يكون محل قبول تام عند الأصحاب، وبعد أن تظهر صوابيته يسلّم به الجميع، وهذا ما ختم به عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) الحوار حين قال: "قد والله علمت لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعظم بركة من أمري".
خاتمة وتوصيات:
تشكل الوحدة الإسلامية مقصداً رئيساً من مقاصد المؤمنين الذين التزموا أمر الله تعالى:
(وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) (سورة الأنفال، الآية: 46).
وإذا كان البحث قد جعل موضوعه مسألة صناعة الوحدة ووأد الفتنة من مرجعية السنة النبوية الشريفة، فإن المراجع يجد أحاديث نبوية شريفة كثيرة توجه إلى الوحدة والتآخي، منها:
- "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه كربة من كربات بوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة."[7]
- "لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث."[8]
- وفي خطبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم حجة الوداع جاء الآتي:
"لا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض".
تأسيساً على ما تقدم يخلص البحث إلى التوصيات الآتية:
1- إن الوحدة الإسلامية بعيداً من التعصبات الرديئة، وكل أشكال الفتنة والشقاق، أمر إلهي، وهدي نبوي، ومصلحة للأمة تتحقق من خلالها سعادة الدارين: الدنيا والآخرة، ومن سعى في فتنة أو عصبية يكون شيطانياً، ومن التزم الوحدة وسعى لها سعيها يكون رحمانياً.
2- إن الصهيوأمريكان يرون في الإسلام سدًّا منيعاً أمام مشروعهم الاستعماري، وقد تطابقت رؤاهم في مشروع أطلقوا عليه اسم: "الشرق الأوسط الجديد"، ويعملون من خلاله لتفتيت الأمة العربية مع عدد من الدول الإسلامية هي: إيران وتركيا وباكستان وسواها، إلى دويلات مذهبية وعرقية وطائفية، ولوأد هذا المشروع الاستعماري لا سبيل سوى تمسك أبناء الأمة العربية والعالم الإسلامي بالوحدة.
3- وحدة المسلمين ليست شعاراً، ولا عنواناً للمزايدة، وإنما هي فعل إيمان وممارسة، وهي فضاءات تنطلق في أرجائها حركات اجتهاد وفقه من الشريعة، وهذا الفقه يتبلور في مذاهب ومدارس، وهو مختلف ومتنوع وهذه سنّة الله تعالى في خلقه لقوله تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين) (سورة هود، الآية: 118). لكن هذا الاختلاف هو غير الخلاف لأن الخلاف لدد وخصام، بينما الاختلاف تنوع وتعددية تحت سقف الوحدة.
4- ليست وحدة المسلمين حالة عصبية موجهة ضد الآخرين غير المسلمين، ونموذج صحيفة المدينة المنورة زمن النبوة جاء يؤسس للمجتمع التعددي على مستوى العيش الوطني، ووحدة المسلمين واستقرار اجتماعهم البشري على أسس الأخوة والمودة والألفة يفتح الطريق للعيش مع غير المسلمين في مجتمع مستقر على أساس العدل والحق وحفظ كرامة الإنسان.
5- تشكل المرجعية الشرعية قرآناً وسنة مصدراً للوحدة، ويليها في المرجعية المأثور الإيجابي، وما وصل من طريق السلف الصالح، وهناك مرجعيات معاصرة أبرزها المشروع المعنون: "استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية" التي أصدرتها "منظمة المؤتمر الإسلامي" من خلال "المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة" (isesco) في العام 2004، واعتماد هذه الاستراتيجية مع الانتاج الفكري الإيجابي للمفكرين المعاصرين يؤمن السبيل للسير بالأمة بالاتجاه الوحدوي. وبمقابل ذلك نحتاج إلى مراجعة نقدية للموروثات الميتة التي ينبشها بعضهم رغم نتنها وشيطانيتها، أو أن أعداء الامة يسخرون بعض المرتزقة للقيام بهذه الوظيفة التآمرية، وتراهم يثيرون نيران الفتن باسم محاكمة التاريخ وأشخاصه، أو من خلال طرح أفاهيم مغلوطة لبعض الأمور في الفكر الديني، حيث يعمدون إلى ليّ أعناق النصوص، وتحميلها ما لا تحتمل كي تكون المفاهيم الشوهاء خادمة لمقاصدهم الفتنوية.
ختاماً: الدعوة للجميع بأن الواجب الشرعي يقضي بالتزام خط الوحدة، ورابطة الأخوة، والسلوك القائم على الحب في الله تعالى. وفي الحديث القدسي: "قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن الله (تعالى) يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلّهم في ظلّي يوم لا ظلّ إلا ظلّي."[9] وفي الحديث القدسي أيضاً: "عن معاذ بن جبل (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: قال الله عزّ وجل: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء."[10]
--------------------------------------------
[1]- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، م2، بيروت، دار صادر، ط 6، سنة 1415هـ - 1995م، ص 41.
[2]- ابن سعد، الطبقات الكبرى، م1، بيروت، دار بيروت، سنة 1405هـ - 1985م، ص 146.
[3]- ابن هشام، السيرة النبوية، م3، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، بيروت، دار إحياء التراث العربي، بدون تاريخ، ص 303.
[4]- عبد الله صحابي وهو ابن داعي الفتنة عبد الله بن أبيّ بن سلول.
[5]- آنف: يقال: ما رأيت أحمى أنفاً ولا آنف من فلانٍ: أي أعزّ وأكثر استنكافاً.
[6]- ابن هشام، م.س.، م3، ص 305.
[7]- أخرجه البخاري في الصحيح – كتاب المظالم.
[8]- متفق عليه، وأخرجه النووي في رياض الصالحين – كتاب الأمور المنهي عنها.
[9]- أخرجه الإمام مسلم في الصحيح – كتاب الفضائل.
[10]- أخرجه الترمدي في السنن – باب الحب في الله.