أهل البيت (عليهم السلام) ومصلحة الأُمّـة
أهل البيت (عليهم السلام) ومصلحة الأُمّـة
الشيخ حسن البغدادي
رئيس مركز الإمام الصادق (عليه السلام)
جبل عامل ـ لبنان
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
وحدهم الائمة (عليهم السلام) شكلوّا عنفوان الأمّة في انماطها المختلفة، وكانوا عنوانها في اقلام الكتاب والباحثين طيلة عشرات من القرون، فتناولوا علاقتهم بربهم وبمجتمعهم.
سيرة ادهشت العالم وحيّرت العقول، فمواقفهم كانت محكومة لمخالفة النفس بشكل كامل،إنهم الميزان عندما يختلط الحق بالباطل، وخَيرُ من عبرَّ عن مكانتهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حيث قال: ان مثل اهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من قومه، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق([1]).
وأنت تقرأ سيرة الائمة (عليهم السلام) تجد البون الشاسع بينهم وبين المدرسة المناهضة لهم، ولا غرو فهم الذين تخلصوا من شروط الجسد وعالم الماديات وتفوقوا على شروط الموت، فالملائكة التي هي مخلوقات نورانية عندما أُمرت ان تسجد لهذا الكائن البشري إنما كان المقصود السجود لهذه الروحية المتميزة التي هي أساس وجود العالم واستمراره، وهذا معناه انه يلزم عدم استطاعة البشر ان يتمثلوا بهم .
تصّور ان حاكماً لدولة اسلامية اكبر من الشرق الاوسط، كان فيها هارون الرشيد يخاطب السحابة: إمطري حيث شئت فإنّ خراجك يعود لي، عليّاً يأتيه اخوه عقيل وكان بصيراً وفقيراً يطلب منه مساعدة اضافية على بقية افراد المسلمين، ينهره علي (عليه السلام) ويذكره الآخرة، ولمّا الحَّ في الطلب احمى له حديدة وأدناها من جسده ليذكره نار جهنم قائلاً له: ثكلتك الثواكل يا عقيل...
هذه الممارسة العادلة لرئيس الدولة الاسلامية، التي لم تسمح لنفسها بالتصرف في مال المسلمين حتى ولو كان زهيداً كان نتيجة الانسجام في (التطابق بين النص والسلوك)..
فقد تقرأ نصاً لإنسان عظيم ومفكر قال نصوصاً في الادب والسياسة او الاجتماع، قد تدخل الى اعماق القلوب، وفي نفس الوقت قد تجد ضرورة الفصل بين النص وصاحبه، قد يكون فصلاً كاملاً حيث يمكن ان يكون لصاحب النص سلوك يتناقض جزئياً أو كلياً مع نصّه، باستثناء الائمة (عليهم السلام) فإن نصهم مطابق دائماً لمحتواه، حيث نستطيع ان نستبدل النص بهم.
وحدهم الذين كانوا في المعترك السياسي والاجتماعي والعلمي منسجمين تماماً مع قناعاتهم، فلا تجد لهم زلة لا عثرة، ولا تفكير بذات أو مصالح خاصة، فلولا هذا التطابق بين النص والسلوك لما امكن ان تقوم حركات الاعتراض والتغيير في المجتمع الإسلامي، صحيح ان التأريخ الإسلامي انحرف في محطات مختلفة عندما كان ينتصر فيها الباطل، ولكن هذا الانتصار ظل شكلياً، لهذا كانت العدالة غريبة في مجتمع المسلمين لا تجد لها ناصراً الا بكلماتهم (عليهم السلام) فقد حفر هذا التطابق عميقاً في العقل الإسلامي وفي الوجدان الإسلامي، حَيثُ غُلبت المصلحة العامة على الافراد.
منهجية العترة الطاهرة:
مصلحة الاسلام والمسلمين فوق كل اعتبار، لا مصالح خاصة، ولا تغليب لمصلحة الافراد، وذهب القول المشهور للإمام علي (عليه السلام) بمثابة دستور سار عليه الأئمة الأطهار (عليهم السلام) والسائرين على نهجهم، فعن علي (عليه السلام): والله لأسالمن ما سلمت امور المسلمين، ولم يكن جور الا علَي خاصة وتحول هذا القول الى سلوك ونهج لا يخضع لظروف إستتثنائية.
وهنا سأتحدث عن بعض المحطات في طبيعة العلاقة بينهم (عليهم السلام) وبين السلطات الحاكمة آنذاك، وسأكتفي بذكر نماذج تدلنا على حقيقة موقف الائمة (عليهم السلام).
الإمام علي (عليه السلام) والخليفة الأول.
موقف اليعقوبي في تأريخه.
علي (عليه السلام) والخليفة الثاني.
موقفه (عليه السلام) من الشورى.
صلح الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية.
نتائج شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء.
خلاصة القول.
الإمام علي (عليه السلام) والخليفة الأول:
بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يقف علي (عليه السلام) متفرجاً على أوضاع المسلمين بل عمد الى الفصل التام بين الثوابت الدينية لخلافة الرسول، وبين إطارها السياسي الذي طالما زهد فيه، وتنفّر لخفق النعل من خلفه، فلم يستوحش لقلة الناس من حوله، معتبراً الميزان في الحرب والسلم ليست السلطة بل مصلحة الاسلام، فكما جاء في نهج البلاغة قوله: «خشيت إن لم انصر الاسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً او هدماً تكون المصيبة به علىَّ أعظم من فوت ولايتكم التي انما هي متاع ايام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السراب..» ([2]).
فبعدما ثبت حَقّهُ بالخلافة أمَامَ المسلمين انتقل الى المرحلة الثانية بعد وفاة السيدة الزهراء (عليها السلام) يبحث عن اسلوب التعايش مع المرحلة الجديدة ـ على قاعدة تناسي الماضي ـ، فأرسل خلف الخليفة الاول وجلس إليه في جو ساده التسامح قائلاً له: «لم يمنعنا ان نبايعك إنكاراً لفضيلتك ولا نفاسة عليك لخير ساقه الله إليك، ولكنا نرى لنا حقاً في هذا الأمر فاستبددتم به علينا ودفعتمونا عنه»([3]).
فالامام كان يُدرك أن مشروع فتنة لا تُبقي ولا تذر ستُحاكْ ضد الاسلام والمسلمين، ولولا هذا الموقف الشجاع من تغليب المصلحة العامة، لما بقي أثر لرسالة الاسلام ولمزقته العصبيات والمصالح الخاصة، وفي نفس الوقت أراد (عليه السلام) ان يقطع الطريق على مثيري الضغائن والأحقاد كما حدث مع ابي سفيان بن حرب عندما طلب من العباس بن عبد المطلب ان يطلب من الامام القيام في وجه غاصبي الخلافة، وأدرك الامام (عليه السلام) أن هذه الدعوة ليست حرصاً على الاسلام بقدر ماهي احقاد وفساد في الارض، وكما جاء في نهج البلاغة رَدَّ (عليه السلام) بقوله: فإن أقل يقولوا علي حرص على الملك وإن أسكت يقولوا جَزَعَ من الموت هيهات بعد اللُّتيَا والتي والله لأبن ابي طالب أنس بالموت من الطفل بثدي أمه([4]).
موقف اليعقوبي في تأريخه:
اليعقوبي في تأريخة وإن عَدَّ الامام أحد الفقهاء الستة الذين يعود إليهم الخليفة في احكام الفقه([5]). إلا أنه تجاهل الحضور الكبير والفعال للامام الذي لم يلتفت الى اموره الخاصة، كان كلّ همه توجيه الناس دينياً والدفاع عنهم، فكان يحمل سيفه على عاتقه في جوف الليل ليدافع عن مدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لقد صنع هذا الحضور عبئاً سياسياً واجتماعياً على الخليفة في موضوع تقليد الخلافة للثاني، حيث انبرى جمع من الكتاب وفيهم غير الشيعة للدفاع عن احقية علي بهذا الأمر([6]).
علي (عليه السلام) والخليفة الثاني:
لم يذكر أحد ان علياً (عليه السلام) أخذ موقفاً سلبياً من خلافة الثاني، بل آثر الصبر وكظم الغيض، حيث كان همّهُ أن يرى الاسلام ينتشر بسرعة خارج حدود الحجاز وعروش أولئك الحكام تتهاوى تحت اقدام الفاتحين، فوقف الى جنب الخليفة ناصحاً ومسدداً ومحاوراً لعلماء اليهود والنصارى، ونقل المؤرخون أن الخليفة الثاني كان يحترم رأي الامام كثيراُ ويشكر تسديده له، كما في قصة كتابة التأريخ عندما أشار عليه علي (عليه السلام) أن تكون من هجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ([7]).
وأيضاً عندما أشار الامام عليه في أمر سواد الكوفة ان يبقى في ايديهم، فرَّد عليه الخليفة: «وفقك الله هذا الرأي»([8]).
موقفه (عليه السلام) من الشورى:
وبتقديري ان الشورى هي احدى المفردات الأساسية التي انتجها تغليب الامام للمصلحة العامة، والذي فرض عليه البقاء داخل حلبة الصراع من دون ان يكون أحد المتصارعين، والشورى هنا وإن نسفت نظرية عدم امكانية جمع الخلافة والنبوة في بني هاشم، حيث ان الخليفة الثاني قال لشاب من بني عبد المطلب : «إن قريش كرهت ان تجتمع بكم النبوة والخلافة»([9]). إلا ان علياً (عليه السلام) اصر على موقفه من تغليب المصلحة العامة رغم مرارة ما يحدث، وصبره هنا اوصله الى موقع الخلافة بعد مقتل الخليفة عثمان([10]).
هكذا نجد في بقية الائمة الأطهار (عليهم السلام) كيف أثروا المصلحة العامة على الخاصة، وكيف أثمرت هذه الجهود في تنمية المشروع الاسلامي وهذا ما لا حظناه في :
صلح الامام الحسن (عليه السلام) مع معاوية:
إبناً لعلي ذلك الرجل العظيم لانشغاله بملذاته واكتفائه بإرسال اثني عشر الفاً كطليعة لجيشه([11])، الخ الاقوال، وهذا بقي الامام الحسن حاضراً لأن يسمع أكثر من هذا الكلام المهم عنده مصلحة الاسلام والمسلمين.
وأنا هنا اتعجب كثيراً من الذين يدعون منهجاً في قراءة التأريخ كيف لم يكشفوا أهمية هذا الصلح الذي كشف زيف هذا النظام، وساهم الى حد كبير في تشكيل قناعة لدى المسلمين بضرورة تبديل هذا النظام، وهذا ما شاهدناه من دعوة الحسين (عليه السلام) الى العراق ليكون الخليفة بعد وفاة معاوية، هنا وإن ظلت هذه القناعة منقوصة حيث أدت الى شهادة الحسين (عليه السلام)، إلا انها كانت المفردة الثانية في اكتمال تشكيل القناعة، التي ولدت الجرأة لدى المسلمين على ممارستها، فكانت الانتفاضات المباركة بعد واقعة كربلاء (حركة التوابين، ثورة المختار، وقعة الحرة، ثورة زيد الشهيد ...).
خلاصة القول:
أن اهل البيت (عليهم السلام) تمتعوا بالصبر وكظم الغيض، من دون أن يكون تقيةً، وأثروا المصلحة العامة فعن علي (عليه السلام) يتحدث عن مواطن الامتحان التي مرّ بها بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله): «وحملت نفسي على الصبر عند وفاته ولزمت الصمت والأخذ فيما أمرني به من تجهيزه...» ([12])، فإذا اقتضت المصلحة التنحي عن السلطة كما حدث في (صفين) فلا مانع من ذلك، واذا اقتضت الشهادة كما حصل سنة 61 للهجرة مع الحسين فمرحباً بها، وان كان الاعتقال والسجن في سبيل الله كما صار مع الامام موسى الكاظم فيا حبذا.
هذا والائمة (عليهم السلام) لم يتخلّوا لحظة واحدة عن حث المسلمين على البحث عن الحق والالتزام به وكما جاء في شرح الارشاد عن الامام الباقر (عليه السلام) قوله: «بلية الناس علينا عظيمة ان دعوناهم لم يستجيبوا وان تركناهم لم يهتدوا بغيرنا»([13]).
الهوامش:
([1]). شرح الأخبار للقاضي التميمي المغربي ج 2/501، ينابيع المودّة ج 1/594.
([2]). شرح نهج البلاغة ـ للشيخ محمّد عبده / 178.
([3]). شرح نهج البلاغة ـ للشيخ محمّد عبده / 634.
([4]). الأئمّة الاثني عشر ج 1/320.
([5]). شرح نهج البلاغة ـ للشيخ محمّد عبده / 634.
([6]). تاريخ اليعقوبي ج 2/138.
([7]). عبد الفتاح عبد المقصود في كتابه ـ الإمام عليّ بن أبي طالب.
([8]). تاريخ اليعقوبي ج 2/145.
([9]). تاريخ اليعقوبي ج 2/152.
([10]). الأئمّة الاثني عشر ج 1/332.
([11]). العراق في ظل العهد الأُموي للدكتور علي الخرطبولي ص 74.
([12]). شرح الأخبار للقاضي التميمي المغربي ج 1/346.
([13]). الإرشاد ـ للشيخ المفيد 366.