المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية - الشؤون الدولية

حديث التقريب ... رسالة الأسرى هي رسالة العزّة والوحدة

حديث التقريب ... رسالة الأسرى هي رسالة العزّة والوحدة

حديث التقريب
رسالة الأسرى هي رسالة العزّة والوحدة
 
العملية البطولية الشجاعة التي نهض بها الأسرى الفلسطينيون الستة قد بعثت في جسد الأمة الاسلامية هزّة أحيت فيه روح العزّة والكرامة. خروجهم من معسكرات الطغاة بهذه الصورة المدهشة قد أفقدت صواب العدوّ الصهيوني وراح يمارس ألوان الاعتداءات على أهلنا في فلسطين من أجل إعادتهم إلى معتقلاتهم. ولا يحسبنّ هذا العدوّ أنه انتصر بالعثور عليهم.
فالانتصار سيبقى من نصيب هؤلاء الابطال الذين سجّلوا تحديهم ظروفَ القهر والاضطهاد. سيبقى من نصيب من أثبتوا لامتهم أن المستضعين لا يمكن أن يستكينوا ويستسلموا مهما قسى المستكبرون.

ولقد سجّل التاريخ الاسلامي مثل هذه المواقف البطولية لأسرى أُريدَ لهم أن يُذلّوا، لكنهم أبوا الإذلال وأثبتوا أن روح العزّة الاسلامية أقوى من أن يكسرها الطغاة.

نحن في شهر صفر، وهو شهر يذكّرنا بمسيرة أسرى آل بيت رسول الله إلى الشام بعد واقعة كربلاء ومقتل الحسين بن علي(ع) سنة 61 هجرية.
في هذه المسيرة برزت بطولات يذكرها التاريخ بفخر واعتزاز، ويضخّ ذكراها على مرّ السنين دمًا جديدًا يبعث على العزّة والكرامة في جسد الأمة الاسلامية.

ونقف من بين أولئك الأسرى عند السيدة زينب بنت علي أو من يسميها المصريون الست زينب ويتبركون بمرقدها في القاهرة، هذه السيدة التي أطلقت عليها الدكتورة عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) بحق اسم «بطلة كربلاء».

لقد تجمعت على هذه البطلة ألوان التحديات من قتل أخيها الحسين بن علي(ع) وأهل بيتها وحماتها وسبيها هي ومن كان معها من كربلاء إلى الكوفة ثم إلى الشام، لكنها وقفت كالجبل الأشمّ تتحدى طواغيت زمانها بخطاب حافظت فيه على عزّتها وعزّة الاسرى معها، بل بعثت ولا تزال تبعث الحياة والحركة الحضارية وروح الوحدة في نفوس المسلمين.

ومما نقله التاريخ من مواقف السيدة زينب(ع) ماورد في رواية بشر بن خزيم الأسدي إذ قال:
«ونظرت إلى زينب بنت علي عليها السلام يؤمنذ فلم أر خفرة أنطق منها كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين عليه السلام، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا فارتدت الأنفاس وسكتت الأجراس».

هذا الموقف يدل على أن صلابة شخصية زينب قد أثّرت على هذا الرجل كما أثـّرت على كل المخاطبين بحديثها في الكوفة. يقول الراوي: «لقد رأيت الناس يؤمئذ حيارى يبكون وقد وضعوا أيديهم في أفواههم. ورأيت شيخًا واقفًا إلى جنبي يبكي حتى اخضلَّت لحيته وهو يقول: بأبي أنتم وأمي كهولكم خير الكهول وشبابكم خير الشباب ونساؤكم خير النساء ونسلكم خير نسل لا يُخزى ولا يُبزى».

وهذه الصلابة وعدم الإحساس بالضعف أفقدت صواب والي يزيد عبيد الله بن زياد فما بالك بالآخرين الحاضرين في مجلسه حين أدخل عيال الحسين على ابن زياد فدخلت زينب متنكرة وعليها أرذل ثيابها، فمضت حتى جلست ناحية من القصر، وحفّت بها النساء. فقال ابن زياد: من هذه التي انحازت فجلست ناحية ومعها نساؤها؟ فلم تجبه زينب، فأعاد ثانية وثالثة يسأل. فقالت بعض النساء هذه زينب بنت رسول الله(ص).

لاحظوا عظمة الموقف: دخلت على أعتى مستكبر وأبشع قاتل وأفظع طاغية، فما التفتت إليه، ولا وقفت أمامه، ولا أستأذنته في الجلوس، بل أهملته وانحازت وجلست مع النساء في جانب من القصر، ثم لم تجب على سؤال الطاغية رغم أنه كرره ثلاثًا.

هذا يعني أنها لم تستشعر بأي ضعف ولم يساورها أي شعور بالهزيمة.

ومما سجله التاريخ لهذه السيدة ايمانها بالمستقبل، وهو من عناصر التربية القرآنية في تحقيق النصر..
الإيمان بانتصار العدل على الظلم وانتصار الدم على السيف وانتصار المستضعفين على المستكبرين. هذا الإيمان كان راسخًا في نفس زينب وكان له الأثر الكبير في تحقيق هدفها الكبير.

في الرواية أنها رأت التأثر الكبير على علي بن الحسين وهو يستعرض ذكريات الواقعة الأليمة في كربلاء، ومشهد الأجساد المتناثرة على الرمضاء، فقالت له: «مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وإخوتي، فوالله إن هذا لعهد من الله إلى جدك وأبيك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطّعة والأجسام المضرّجة فيوارونها وينصبون بهذا الطف علمًا لقبر أبيك سيد الشهداء، لـمّا يُدرس أثره ولا يُمحى رسمه على مرور الليالي والأيام، وليجتهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وطمسه فلا يزداد أثره إلا علوّا».

وبهذا الإيمان بمستقبل تسقط فيه دولة الظالمين تخاطب يزيد قائلة:
«فكد كيدك واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض (تغسل) عنك عارها، وهل رأيك إلا فَنَد، وأيامك إلا عَدَد، وجمعك إلا بَدَد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين. فالحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة، إنه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل».
 
لقد كان فهم السيدة زينب لمعنى النصر والهزيمة من أهم العوامل التي حوّلت آل بيت رسول الله «الأسرى» و«المسبيين» الى «منتصرين» وحولت قتلتهم الطغاة إلى «مهزومين».

والإسلام ربّى أبناءه كي لا يعرفوا للهزيمة معنى، فهم ينالون على أي حال إحدى الحسنيين، وانحسار الحق لا يعني فشله وضعفه بل يعني تمحيص المؤمنين الصادقين، وانتفاش الباطل لا يعني انتصاره لأنه هو استدراج أهل الباطل كي يزدادوا إثمًا. هذه المفاهيم كانت زينب عليها السلام تبثها في المجتمع محاولة تصوير يزيد المنتصر بأنه هو المنهزم وبأنهم هم المنتصرون.. المنتصرون بما نالوا من فوز الشهادة.. والمنتصرون على المدى البعيد حين تهدم دماؤهم عروش الطواغيت.

تقول عليها السلام مخاطبة يزيد:
«أظننتَ يا يزيد حيث أخذتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نُساق كما تُساق الإماء أن بنا هوانًا على الله وبك عليه كرامة؟! وأن ذلك لعِظَم خَطَرك عنده؟! فشَمَختَ بأنفك، ونظرت في عطفك جذلان مسرورًا، حيث رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متّسقة، وحيث صفا لك ملكنا وسلطاننا؟!!
فمهلاً مهلا، لا تطش جهلا. أنسيت قول الله تعالى:)وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ).
وتقول مخاطبة ابن زياد حين قال لها: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم.
تقول له: «الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد(ص)، وطهّرنا من الرجس تطهيرًا. إنما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله».

يعاود ابن زياد الطعن فيقول: كيف رأيتِ فعلَ الله بأهل بيتك؟
تجيبه بنفس تلك المفاهيم فتقول: «كتب الله عليهم القتلَ فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتتحاجّون وتتخاصمون عنده».
وفي رواية أخرى وهي الراجحة في رأيي أنها قالت:
«ما رأيت إلا جميلا.. وسيجمع الله بينك وبينهم..».
نعم.. ما رأيت إلا جميلا.. في هذه العبارة تتلخّص كلّ شخصية زينب بنت علي عليهما السلام.. وكل نظرتها العرفانية إلى الأمور.
أي جمال هذا الذي ينجلي لسليلة بيت النبوة ولا تراه العيون المحجوبة عن رؤية الجمال الحقيقي في هذا الكون!! وأي جمال تستشعره هذه العارفة بالله ولاتحسّه القلوب القابعة في أكنّة الآثام والرذائل!!

وفي عبارة أخرى تخاطب يزيد مؤكدة أنه أباد نفسه بنفسه حين فعل فعلته تقول له:
«فوالله ما فريت إلاّ جلدك، ولا جززت إلا لحمك… )وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).
هذه المفاهيم بثتها زينب في المجتمع، وانتشرت وذاعت بفضل الدماء التي سُفكت في كربلاء، وكانت الشرارة التي أيقظت الناس من سباتهم العميق.

أعود الى واقعنا الراهن وأقول إن العملية البطولية التي نهض بها الفلسطينيون الستة بحفرهم النفق وخروجهم من معسكر الأسر الصهيوني، هو بحدّ ذاته عملية تتحدى الإذلال والبطش. ليس المهم أن يلقى القبض عليهم ويودعوا ثانية في الأسر، فقد أدوا ما عليهم من إحداث هزّة صعدت يقظة المستيقظين، وأيقظت النائمين، وانزلت الخزي والعار بالمهزومين.
 
 
 
                                              المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية
                                                               الشؤون الدولية